على مدار زمن النبالة الأوروبية، كانت المبارزات تدور أحياناً وفق الأصول وأحياناً أخرى - كثيرة – خروجاً على الأصول، أي بنصال مسمومة.
وإذا نحينا جانباً التصدير المكتوب لمقالة مورافيا "المبارزة بين ماركس ودستويفسكي" ("إبداع" ديسمبر 1991) فسوف نكتشف على الفور أن المبارزة الحقيقية الوحيدة التي تجري أمام أعيننا هي مبارزة مورافيا ضد ماركس وأن الأول يبارز الأخير دون أدنى مراعاة لأصول المبارزة.
إن مورافيا يؤكد للقارئ أن الشر الذي اندفع كالسيل من باب الستالينية قد دخل أولاً من نافذة الماركسية. والتعبير الرائج هذه الأيام عن هذه الفكرة نفسها هو أن الماركسية تقود إلى الجولاج، لأن أخلاق الماركسية ليست أخلاقاً مسيحية، بل هي عين الأخلاق التي قادت راسكولنيكوف إلى ارتكاب جريمته.
فما هي الأخلاق التي قادت إلى هذه الجريمة؟
إنها، باختصار، أخلاق (لا أخلاق) تأكيد تفرد الذات من خلال عمل جسور ضد "الآخر"، غير الفريد، وليست أخلاق اكتشاف الصوت الخاص من خلال حوار حر مع الأصوات الأخرى. وهكذا يجأر راسكولنيكوف بأن "الإنسان غير العادي" "هو ذلك الذي يمكنه أن يبصق على أكثر عدد ممكن من الناس".
أما توبة راسكولنيكوف فهي تتلخص في إدراك أن التجاوز لا يجب أن يكون في اتجاه "البصق على أكثر عدد ممكن من الناس"، بل في اتجاه منح ذاته لهم، فهذا هو السبيل الوحيد إلى التكفير عن جريمته.
فأين هي المبارزة بين ماركس ودستويفسكي؟
يزعم مورافيا أن دستويفسكي كان يعتبر الشر حقيقة فردية متأصلة في قلب كل إنسان. وبهذا المعنى، فإن حلم "الأخوة الحقيقية" بين البشر هو حلم مستحيل في رأي الأديب الروسي الكبير، وهو زعم يفنده إيمان دستويفسكي بإمكانية تحقيقه. فهو الذي كتب عن هذه "الأخوة الحقيقية" وهو يفكر في رواية أخرى له؛ رواية "الأبله".
هكذا، بعد الافتراء على ماركس يجيء الافتراء على دستويفسكي!
أما توحيد مورافيا بين الماركسية والستالينية فهو يَرِدُ باستخفاف، أي دون تقديم مبرر عقلاني أو تاريخي واحد لمثل هذا التوحيد.
ولن نكرر هنا ما يعرفه كل مهتم جاد بتاريخ الأفكار وبالتاريخ السياسي: إن "انبثاق" الستالينية من الماركسية هو انبثاق النفي لا الإثبات.
وليس كبت ستالين لإبداع دستويفسكي غير مظهر واحد من مظاهر كبت الستالينية للثورة وللماركسية. وإليكم رأي "الماركسي" تروتسكي – الذي اغتيل على يد عميل ستاليني – في أهمية إبداع دستويفسكي في تحرير العامل من الفقر الروحي:
"إن ما سوف ينهله العامل من ... دستويفسكي سوف يكوّن فكرةً أكثر تركيباً عن الشخصية الإنسانية، عن عواطفها ومشاعرها، فهماً أعمق وأبعد غوراً لقواها النفسية ولدور الوعي الباطن، إلخ. في التحليل الأخير، سوف يصبح العامل أكثر ثراء".
لقد كتب هذا الكلام في عام 1923، عام المعركة الكبرى بين الماركسية والستالينية!
ومنذ ذلك التاريخ، أهدر الشر الستاليني (وهو ظاهرة أكثر تعقيداً مما يتخيل الودعاء ومما يزعم الأيديولوجيون) أحلام وأرواح مئات الآلاف من البشر، وبالدرجة الأولى أحلام وأرواح مئات الآلاف من الماركسيين.
وعلى الرغم من انهيار الستالينية، الذي يجب أن يستحق الترحيب، فإن العنف والشر لم يتلاشيا من عالم البشر، فما العمل؟
على هذا السؤال، لن نجد عند ماركس أو دستويفسكي غير رد واحد: لا بديل عن نزع العنف والشر من الجذور، فهذا هو المدخل الممكن الوحيد لوقف احتدادهما ولتحقيق "الأخوة الحقيقية" بين البشر!
0 التعليقات:
إرسال تعليق