قسطنطين كافافي_5


مانويل كومنين

قيصر بيزنطة السيد مانويل كومنين،
ذات يوم حزين من سبتمبر،
استشعر دنوّ أجله.
أكد منجمو البلاط (المأجورون)
إنه مازال موعوداً بطول العمر.
لكنه، بينما كانوا يقولون هذا الكلام،
إذ تَذَكَّرَ الأعراف الدينية القديمة،
أمر بأن يُحضروا له من صوامع الرهبان
ملابسَ كهنوتية
لبسها، وسره أن يبدو
في صورة الكاهن أو الراهب المتواضعة.

طوبى للذين يؤمنون
ويستقبلون الموت، كقيصر بيزنطة السيد مانويل،
مفعمين بإيمانهم جد متواضعين.

(عن ترجمة ج. أ. بابوتساكيس)


* * *
في انتظار البرابرة



- لماذا ننتظر هكذا، محتشدين في الساحة؟ -
- البرابرة يصلون اليوم.
- ما معنى هذه اللامبالاة من جانب مجلس الشيوخ؟
ما الذي ينتظره إذاً الشيوخ حتى يصوتوا على مشاريع القوانين؟
- البرابرة يصلون اليوم.
فما أهمية قوانين الشيوخ إذاً؟
عندما يصل البرابرة سيسنُّون قوانينهم.
- لماذا إذاً يجلس امبراطورنا
أمام باب المدينة الرئيسيّ؟
لقد ارتدى ثوبه الملكيّ ولبس تاجه.
- لأن البرابرة يصلون اليوم
والإمبراطور يود لقاء زعيمهم بنفسه
بل إنه قد أعد رقاً لهذا البربريّ الشهير
كَتَبَ عليه ألقاباً وأسماء.
- لماذا إذاً خرج قنصلانا
مرتديين أجمل ثيابهما الرسمية الفضفاضة
ولابسين في الأصابع خواتم براقة؟
لماذ يمسكان اليوم صولجانين مرصعين بالذهب وباللآلىء؟
- لأن البرابرة يصلون اليوم
ولأن هذه الأشياء من شأنها إبهار البرابرة.
- ولماذا إذاً لا يحضر خطباؤنا هم أيضاً،
لإلقاء الخطب التي تناسب الحدث؟
- لأن البرابرة يصلون اليوم
ولأنهم لا يحبون البلاغة.

- لماذا هذا الانزعاج المفاجئ؟
- ما سبب هذا الاضطراب بين الجموع؟
إلى أيّ حد أصبحت الوجوه متجهمة!
ما سبب هذا المزاج القلق؟
لماذا تخلو الشوارع الآن بسرعة؟
ولماذا يرجع كلّ واحد مهموماً إلى بيته؟
- لأن الليل قد حل ولم يصل البرابرة.
بل إن أناساً ذهبوا إلى الحدود ويعلنون أنه لم يعد هناك برابرة.
- والآن ماذا سيكون مصيرنا في غياب البرابرة؟!
هؤلاء كانوا على الأقل حَلاًّ من نوع ما.


(عن ترجمة جان ميشيل)


* * *
الرب يتخلى عن أنطونيو



عندما تمر، فجأة، قرب منتصف الليل،
فرقة عازفة لامرئية
آسرة الألحان، عذبة الصوت...
لا تَبْكِ عبثاً، على حظك العاثر،
على مراميك التي لم تتحقق،
على مشاريع حياتك
التي تَكَشَّفَ زيغها.

وكرجل شجاع ومهيأ لكل شيء منذ زمن بعيد،
وَدَّع الإسكندرية التي تنأى عنك.
والأهم، ألاَّ تخدع نَفسك وألاَّ تقل البتة
إنك بإزاء حلم، إن سمعك قد خانك.

ومثلما يليق بك، أنت الذي كنت تملك مدينة كهذه،
اقترب من النافذة، ثابت الجنان؛
و، متأثراً، لكن دون أن ترثي لحالك،
ودون أن ترتعد كالجبان،
انصت، يالها من غبطة سامية، إلى الألحان،
إلى الأصوات العذبة للفرقة الموسيقية اللامرئية.
وَوَدِّع الإسكندرية التي تفقدها.

(عن ترجمة س. بيير بيتريديس)


* * *
طرواديون


جهودنا كجهود غيرنا ممن خانهم الحظ،
جهودنا شبيهة بجهود الطرواديين.
نكابد قليلاً؛
نصل إلى نتيجة ما؛
بل نشرع في استلهام شجاعة أكبر،
وفي التسلح بالآمال الجميلة.


لكننا، كل مرة،
يقف شيء ما في طريقنا
ويوقفنا.
يظهر أخيل على حافة الخندق
ويروعنا بصيحاته المجلجلة.

جهودنا،
جهودنا، شبيهة بجهود الطرواديين.
نحسب أننا بشيء من الجسارة والحزم
سيتسنى لنا تحويل مسار القدر؛
ونخرج من المدينة، لخوض المعركة.

لكن اللحظة الحرجة تأتي،
وتتلاشى جسارتنا وحزمنا
تضطرب أرواحنا وتخوننا،
عندئذ نسارع كلنا إلى الاحتماء بالأسوار
باحثين في الهرب عن خلاصنا.

لكن هزيمتنا مؤكدة.
وقد بدأ النحيب بالفعل عند الأسوار:
هناك تنتحب بالفعل ذكرياتنا وأشواقنا.
هيكوبا وبريام يبكياننا مُرَّ البكاء.

(عن ترجمة س. بيير بيتريديس)


* * *
أرواح الشائخين



في الأجساد الشائخة المنهكة
ترقد أرواح الشائخين.
حزينة هي ومستاءة
مكروبة، محزونة!
بالرغم من ضجرها من حياتها التي تنوء بحملها
إلاَّ أنها تهاب ضياعها مع ذلك
فهي تحبها أكثر من أي شيءٍ آخر!
يالحيرتها! يالثبات عنادها!

هذه الأرواح ذات الآلام الهزلية
تتشبث بتلك الأجساد الشائخة المأساوية!

(عن ترجمة آري – رونيه ديفيرمون)


* * *
حوائط


طيشاً، دون حياء أو شفقة
شيَّدوا حولي حوائط عالية.
والآن أرقد هناك، يائساً، مهاناً.
خاطر حظي العاثر وحدهُ يعذبني.

فقد كان عليّ عمل أشياء كثيرة خارجها.

آه لماذا لم أحترس
عند بناء الحوائط!
لكنني، بالفعل، لم أسمع شيئاً
لا صخب البنائين ولا الأصوات الهادرة
دون وعيٍ مني عزلوني عن العالم.

(عن ترجمة جان ميشيل)


ترجمة بشير السباعي

قنسطنطين كافافي_4

غدر

عندما زوجوا ثيتيس لبيليوس،
نهض أبوللو، في مأدبة الأعراس الرائعة،
وبارك الزوجين الشابين،
عن النبتة التي ستطلع من ارتباطهما،
قال: "لن يمسه المرض أبداً،
وسيحيا حياةً مديدة".
حين قال ذلك،
اهتزت ثيتيس حبوراً،
لأن أقوال أبوللو،
البارع في النبوءات،
بدت لها ضمانةً لطفلها.
وبينما كان أخيل يكبر،
وكان جماله فخر ثيسالي،
كانت ثيتيس تتذكر أقوال الرب.
لكن، ذات يوم، جاء شيوخ معهم أخبار،
وتحدثوا عن موت أخيل في طروادة.
فمزقت ثيتيس ثيابها الأرجوانية،
ونزعت عن جسمها أساورها وخواتمها
ورمتها على الأرض.
وفي انتحاباتها تذكرت الماضي،
وسألت أين إذاً كان الحكيم أبوللو،
أين إذاً كان الشاعر الذي تكلم بهذه الروعة في المآدب،
أين كان، النبيّ، حين قتلوا ولدها في أول شبابه.
فأجابها الشيوخ بأن أبوللو كان حاضراً بشخصه في طروادة
وبأنه، مع الطرواديين، قتل أخيل.

(عن ترجمة أثينا ج. بابا)
* * *
شموع

الأيام الآتية ترتسم أمامي
مثلما يرتسم صفٌّ متوهجٌ من الشموع
من الشموع الصغيرة البراقة، المضيئة والحية.

الأيام التي راحت تبقى في الخلف
صفاً كئيباً من شموعٍ صغيرةٍ مطفأة
ينبعث الدخان لا يزال من أقربها
شموعٌ باردة، خامدة ومحنية تماماً.

لا أريد تأملها، منظرها يحزنني
ويشجيني أن أفكر في بريقها الأول
فأنظر إلى الشموع الصغيرة التي تضيء أمامي.

لا أريد أن ألتفت إلى الوراء
فأكتشف مذعوراً
السرعة التي يستطيل بها الصف المعتم
السرعة التي تتراكم بها الشموع المطفأة.

(عن ترجمة أثينا ج. بابا)

* * *
المدينة

تقول: "سأذهب إلى أرضٍ أخرى،
سأذهب إلى بحرٍ آخر
يجب أن أجد مدينةً أفضل من هذه.
مكتوبٌ أن تُمنى كل جهودي بالخسران
وأن يرقد قلبي مدفوناً - كميِّت.
فإلى متى سوف تبقى روحي في هذا الضوى؟

إن تركت نظرة تَنَدُّ مِنِّي حواليَّ
لن أرى هنا غير أطلال عمري الكئيبة-
في هذه الأماكن التي عشتُ فيها،
وضيعتُ وبددتُ كل هذه السنين.

- لن تجد بلداً جديداً ولا بحاراً أخرى.
المدينة سوف تلاحقك!
سوف تتسكع في الشوارع ذاتها
وتشيخ في الأحياء ذاتها
وتشيب في ظل البيوت ذاتها.

سترجع إلى هذه المدينة...
فَطَلِّقْ حلم الذهاب إلى مكانٍ آخر.
مامن سفينةٍ لك.
ما من سبيل.
حياتك التي بددتها في هذا الركن الصغير –
مبددةً تجدها من جديد في كلّ مكان.

(عن ترجمة أ. كترارو)

* * *
أغنية إيونية

مع أننا حطمنا تماثيلهم،
مع أننا طردناهم من معابدهم،
لم يمت الأرباب مع ذلك.
آه يا أرض إيونيا،
إنهم مازالوا يحبونك،
تتذكركِ أرواحهم لا تزال.
عندما يرف عليك صباح من أغسطس،
تعبر جَوَّكِ رعشة من حياتهم،
وأحياناً يمرُّ على روابيكِ
شكلٌ أثيريٌّ لفتىً جميل،
غامض، مسرع.

(عن ترجمة هـ. بيرنو)

ترجمة بشير السباعي

قسطنطين كافافي_3

ليلة

كانت الغرفة فقيرةً وعادية،
منزويةً فوق حانةٍ مشبوهة.
من النافذة،
كان يمكن للمرء رؤية الحارة،
ضيقة وقذرة.
من تحت،
تتناهى أصوات عمال،
يلعبون الورق ويتسلون.
وعلى السرير البسيط والرخيص،
كنتُ أمتلك جسد المحبوب،
كنتُ أمتلك الشفتين،
شفتي النشوة الشهوانيتين والحمراوين،
الحمراوين من نشوة صارخة
بحيث إنني، حتى وأنا أكتب الآن،
بعد كل تلك السنين،
في بيتي المنزوي،
أنتشي بها من جديد.

(عن ترجمة ج. ا. جورجوسي)

* * *

عن أمونيس

مات في التاسعة والعشرين، في عام 610
رافاييل،
نسألك أن تكتب أبياتاً تكون شاهدة قبر
للشاعر أمونيس،
شيئاً يتميز بحسن الذوق وبالرصانة.
أنت الذي تقوى
– أنت الأقدر –
على كتابة ما يليق
عن الشاعر أمونيس،
الذي كان منَّا.
لا ريب إنك سوف تتحدث عن قصائده –
لكن تحدث أيضاً عن جماله،
عن جماله الرقيق الذي أحببناه.
أغريقيتك جميلة وموسيقية دائماً.
لكننا بحاجة الآن إلى كل مهارتك
ففي لغة أجنبية سوف ينتقل حزننا وحبنا،
اسكب عاطفتك المصرية في لغة أجنبية.
رافاييل،
اكتب أبياتك بحيث يكون فيها،
تدري،
شيءٌ من حياتنا،
بحيث يكشف الإيقاع وكل جملة
أن سكندريًّا يكتب عن سكندريّ.


(عن ترجمة هـ. بيرنو)

* * *

لتأتِ

شمعةٌ واحدةٌ تكفي
نورها الخافت أنسب ما يكون،
سيكون أكثر عذوبةً حين تجيءُ بالحب،
حين تجيءُ الأطياف.
شمعةٌ واحدةٌ تكفي
لا حاجة في الغرفة هذا المساء إلى نور باهر.
استغراق تام في الحلم والإيحاء،
وبالخافت من النور!
في الحلم كذلك
سأملك رؤى،
لتأتِ بالحب،
لتأتِ الأطياف.


(عن ترجمة ريكا سينجوبولو)

* * *

إيثاكا

عندما تتهياُ للرحيل إلى إيثاكا،
تمنَّ أن يكون الطريقُ طويلاً،
حافلاً بالمغامرات، عامراً بالمعرفة.
لا تخشَ الليستريجونات والسيكلوبات
ولا بوزايدون الهائج.
لن تجد أبداً أيًّا من هؤلاء في طريقك،
إن بقيَ فكرك سامياً، إن مسَّت عاطفة نبيلة روحك وجسدك.
لن تُقابل الليستريجونات والسيكلوبات
ولا بوزايدون العاتي،
إن لم تحملهم في روحك،
إن لم تستحضرهم روحك قدامك.
تمنَّ أن يكون الطريق طويلاً،
أن تكون صباحاتُ الصيف عديدة،
فتدخل المرافىء التي ترى لأول مرة،
منشرحاً، جذلاً.
توقف بالأسواق الفينيقية،
واقْتَنِ السلع الجيدة،
أصدافاً ومرجاناً، كهرماناً وأبنوساً،
وعطوراً شهوانيةً من كل نوع،
قدر ما يمكن من العطور الشهوانية،
اذهب إلى كثيرٍ من المدن المصرية،
تعَلَّمْ ،وتَعَلَّمْ ثانيةً ، – من الحكماء.

لتكن إيثاكا في روحكَ دائماً.
الوصول إليها قَدَرُك.
لكن لا تتعجل انتهاء الرحلة.
الأفضل أن تدوم سنواتٍ طويلة
وأن تكون شيخاً حين تبلغ الجزيرة،
ثريًّا بما كسبته في الطريق،
غير آملٍ أن تهبكَ إيثاكا ثراءً.

إيثاكا منحتك الرحلة الجميلة.
لولاها ما كنتَ شددتَ الرحال.
وليس لديها ما تمنحكَ إيَّاه أكثر من ذلك.

حتى وإن بدت لك إيثاكا فقيرة،
فإنها لم تخدعك.
ومادمت قد صرت حكيماً، حائزاً كلَّ هذه الخبرة،
فلا ريب أنك قد فهمت ما تعنيه الإيثاكات.


(عن ترجمة هـ بيرنو)

* * *

تذَكَّرْ، أيها الجسد

تذَكَّرْ، أيها الجسد
ليس فقط كم كنتَ محبوباً،
ليس فقط الأَسِرَّة التي استلقيت عليها،
بل أيضاً تلك الرغبات التي كانت تلمع واضحةً في العينين،
وترتجف في الصوت، اشتهاءً لك –
والتي بددتها عقبة طارئة.
الآن إذ يتراجع كلّ ذلك إلى الماضي،
يكاد يبدو كما لو أنك تهب نفسك لتلك الرغبات.
تذَكَّرْ، كم كانت تلمع في العينين اللتين كانتا تنظران إليك،
كم كانت ترتجف في الصوت،
اشتهاءً لك،
تذَكَّرْ، أيها الجسد.

(عن ترجمة هـ. بيرنو)

* * *
هيرود أتيكوس


أه، أيّ مجد كمجد هيرود أتيكوس.
إذ وصل إلى أثينا للكلام
إسكندر السلوقي، أحد سفسطائيِّينا،
وجد المدينة مهجورة،
كان هيرود في الريف،
فتبعته الشبيبة كلّها إلى هناك لسماعه.

عندئذ، كتب إسكندر السفسطائي رسالة إلى هيرود،
راجياً إياه إعادة الإغريق.
فأجابه هيرود الأريب فوراً:
"مع الإغريق أجيء أيضاً".

كم من فتية الآن في الإسكندرية،
في أنطاكية أو في بيروت،
(خطباء الغد هؤلاء الذين تعدهم الهيلينية)
خلال حفلات الصفوة،
حيث يتجمع الجميع،
يتحدثون تارة عن الجميل من المغالطات المنطقية
وتارة عن غرامياتهم اللذيذة،
فجأة، يسكتون تماماً، شاردي الألباب،
كؤوسهم، يتركونها، قريباً منهم، دون أن يمسوها.
ويفكرون في حظ هيرود السعيد.
– ( هل من سفسطائي آخر بلغ مجداً مماثلاً؟) –
أياًّ كان ما يريد، أياَّ كان ما يفعل،
فسوف يتبعه الإغريق (الإغريق)،
دون إبداء رأي، دون نقاش،
دون روية. لمجرد أن يتبعوه.


(عن ترجمة آي. كيرياكوبولو)


* * *
حكماء الأمور الدانية

البشر يعرفون الحاضر.
المستقبل تعلمه الآلهة،
ذات الكمال والمالكة الوحيدة لجميع الأنوار.
من أمور المستقبل
يدرك الحكماء تلك التي تدنو.
يهيج سمعهم أحياناً أثناء التأملات الملية.
يأتيهم الصخب السريّ للأحداث التي تدنو.
وينصتون إليه في ورع.
بينما في الخارج، في الشارع،
لا يسمع الناس شيئاً.


(عن ترجمة م.)

* * *

في عام 1903


لم أصادفها مرة أخرى،
ما أسرع ضياعها:
العينان الشاعرتان –
الوجه الشاحب...
في سديم الشارع...
لم أصادفها مرة أخرى –
امتلكتها صدفة،
ثم ضيعتها بهذه السهولة؛
وفيما بعد بحثت عنها مبرحاً بالآلام.
العينان الشاعرتان، الوجه الشاحب، وتلكما الشفتان
لم أصادفها مرة أخرى.

(عن ترجمة ريكا سينجوبولو)

* * *

بعيداً

.. لكم أود أن أحكي هذه الذكرى...
لكنها تذبل... لا يكاد يبقى منها شيء –
لأنها ترقد في البعيد –
في سنيّ شبابي الأولى.
آه يا لون بشرة من ياسمين!
وتلك الأمسية من أغسطس..
- أكان ذلك في أغسطس حقاً؟ -
بالكاد لا أزال أتذكر العينين،
كانتا، يخيل إليّ، زرقاوين...
آه! أجل! زرقاوين ... زرقة اللازورد.


(عن ترجمة ا. كترارو)

ترجمة بشير السباعي

قسطنطين كافافي_2

جان كانتاكوزين يسود


يتأمل هذه المروج التي لا تزال ملك يمينه
حيث الحنطة والماشية والأشجار ذات الثمر.
يتأملُ، وراء ذلك، بيت الآباء
العامر بالثياب، بالأثاث الفاخر، بالفضيات.
كل ذلك سوف يُحرم منه – وايسوعاه! – كل ذلك سوف يُحرم منه الآن.

أيكون صدفة أن يرحمه كانتاكوزين
لو سجد عند قدميه؟
يُقال إنه عفوٌ، عفوٌ غفور.
ولكن ماذا عن حاشيته؟ ماذا عن الجيش؟
أم ترى إن من الأحرى به أن يتوسل للسيدة إيرين وينتحب ضارعاً إليها؟

كم كان غبياً إذ ورط نفسه مع حزب آن
- تلك التي ماكان يليق قط بالسيد آندرونيك أن يتزوجها.
هل طلعت علينا بشيء يستحق الاستحسان؟
الفرنجة أنفسهم ماعادوا يقيمون لها اعتباراً.
مضحكة كانت خططها، بلا طائل كانت استعداداتها.
وبينما كانوا، من القسطنطينية، يهددون الدنيا،
بدد شملهم كانتاكوزين، سحقهم السيد جان.

لو كان عزم على نصرة السيد جان.
لو كان فعل ذلك، كان يمكن أن يهنأ،
والياً عظيماً، راسخ القدمين أبداً
لو لم ينجح الأسقف في إقناعه في اللحظة الأخيرة بصولته الكهنوتية،
بمعلوماته المغلوطة من أولها إلى آخرها،
بوعوده وحماقاته.

(عن ترجمة بانوس ستافرينوس الفرنسية)

* * *

المهالك

قال ميرتياس ( طالب سوري بالإسكندرية في عهد أغسطس كونستانس وأغسطس كونستانتينوس، شبه وثني، شبه مسيحي):

"" متخذاً من العلم والدراسة عدةً لي،
لن أخشى، كالجبان، أهوائي.
جسدي، سوف أسلمه للشهوة،
للملذات التي يجرفني الشوق إليها،
للرغبات الجنسية الأكثر جموحاً،
لتحرقات دمي الشبقية،
دونما خوف.
لأنني متى شئت
- وساعتها سوف تواتيني الإرادة،
وقد تسلحت إلى هذا الحد
بالعلم وبالدراسة –
سوف يتسنَّى لي أن أجد من جديد،
في اللحظات المناسبة،
كما في السابق،
روحي الزاهدة"".

(عن ترجمة آي. كيرياكوبولو الفرنسية)

* * *
عن الدكان

يلفها حريصاً، بنظام،
في الحرير الأخضر النفيس.
ورودٌ من ياقوت، زنابق من لآلىء
وبنفسجاتٌ من جمشت.
هكذا حسبها، وأرادها وبدت له جميلة،
على غير حال الطبيعة.
أشار إليها وعلَّمها.
أودعها خزانته،
لتكون برهاناً على عمله العبقري والجسور.
وعندما يدخل مشتر الدكان،
يُخرج، من علب الجواهر، درراً أخرى للبيع
- جد نفيسة –
سلاسلَ وأساورَ وعقوداً وخواتمَ.

(عن ترجمة آي. كيرياكوبولو الفرنسية)

* * *
في الشارع

وجهه العذب، شاحبٌ قليلاً؛
عيناه الداكنتان، تحيطُ بهما زرقة؛
في الخامسة والعشرين، لكنه يبدو كما لو كان في العشرين؛
لثيابه مظهرٌ فنِّيٌّ
- شيءٌ ما في ربطة العنق، في شكل الياقة –
يهيمُ على وجهه في الشارع،
وهو لا يزال منتشياً باللذة المنحرفة،
باللذة جد المنحرفة، التي جرب مذاقها.

(عن ترجمة د. ميتروبولوس الفرنسية)

* * *
أَيْمان

يحلف كل نهار أن يبدأ حياةً عامرةً بالفضيلة،
ولكن عندما يحل الليل بإيحاءاته،
بغواياته، بوعوده ،
ولكن عندما يحل الليل بقدرته على الإقناع،
يرتد، ولهانَ، إلى الاستمتاع الآسر نفسه
بالجسد الذي يشتهي ويهوى.

(عن ترجمة أليكس ايمبريكوس الفرنسية)

* * *
بقاء

لابد أنها كانت الواحدة أو الواحدة والنصف ليلاً،
في ركن حانة،
خلف ساترٍ خشبيٍّ.
فيما عدانا نحن الاثنين كانت الحانة مهجورة تماماً.
كان سراجٌ يضيئها إضاءةً خافتة.
عند الباب،
كان الجرسون، الذي أضناه السهر، قد استسلم للنوم.

ماكان بوسع أحد أن يرانا.
لكننا كنا، أيضاً، جد مستثارين،
بحيث كان مستحيلاً علينا الاحتياط.
كانت الثياب مفتوحة الأزرار.
لم تكن كثيرة
بسبب ذلك الحر الشديد لشهر يوليو.

لذة شهوانية،
بين ثياب مفتوحة الأزرار
- تعرية سريعة للجسد–
اجتاز طيفها ستة وعشرين عاماً
ليبقى الآن
في هذه القصيدة.

(عن ترجمة آي. كيرياكوبولو الفرنسية)

* * *
في شهر هاتور


أقرأ بصعوبة
على الحجر القديم،
" ر(بـ)ـنا يسوع – المسيح"
أميز كلمة "ر(و)ح"
وبعيداً عن ذلك، "في شهـ(ر) هاتور"
"(ما) ت ليوكيو(س)".
عند ذكر العمر،
"عا(ش)"
يشير الرقم 27
كم كان صغيراً حين مات.
في مواضع متآكلة
أرى "هـ (و) ......سكندري".
يجد المرء بعد ذلك ثلاثة سطور
أكثر تآكلاً
لكنني أفك كلمات
كـ "د(مـ) وع" و "أسف"،
ثم تحت ذلك مرة أخرى "دموع"
ثم "كرب لنا (نـ)حن خلا(نـ)ـه".
يبدو لي أن ليوكيوس
كان محبوباً جداً.
خلال شهر هاتور
مات ليوكيوس.

(عن ترجمة فرنسية صاحبها مجهول)

* * *
شمس الأصيل


كم أعرف هذه الغرفة جيداً!
الآن جرى تأجيرها، مع تلك المجاورة لها، مكاتب.
ولم يعد المنزل غير مكاتب للوكلاء، للتجار، للشركات.
آه! كم هي مألوفة لي هذه الغرفة.
قرب الباب، هاهنا، كانت الكنبة وأمامها بساط تركي.
وهناك، غير بعيد، كان الرف وعليه مزهريتان صفراوان.
إلى اليمين – لا ، في الواجهة – كان دولاب له مرآة.
في الوسط، كانت منضدته حيث اعتاد العمل
وكراسي الخيزران الكبيرة الثلاثة المريحة.
وإلى جانب النافذة كان السرير
حيث مارسنا الحب كثيراً.
ياللأشياء البائسة!
لابد أنها لا تزال موجودة في مكانٍ ما.
إلى جانب النافذة كان السرير،
كانت شمس الأصيل تصل إليه حتى المنتصف.
...ذات عصر، في الساعة الرابعة، افترقنا.
لأسبوع واحد فقط...
ياللحسرة،
لكن ذلك الأسبوع قد دام إلى الأبد.

(عن ترجمة آي. كيرياكوبولو الفرنسية)

* * *
الخامس عشر من مارس

يجب أن تهابَ الأمجاد، آه ياروحي.
وحين لا تقوى على قهر طموحاتك،
اتبعها بتردد واحتياط.
وبقدر ما تتقدم
كن حريصاً،
وعندما تبلغ الأوج، وتصبح قيصر أخيراً،
عندما تتخذ شكل شخص بهذه الرفعة،
عندئذ انتبه بشكلٍ خاص حين تكون في الشارع،
مهيمناً جليلاً مع حاشيتك،
إن حدث واقترب منك أحدٌ من الجموع،
أرتميدور ما حاملاً مكتوباً،
وقال لك في عجلة "اقرأ هذا حالاً
هذه أشياء خطيرة تهمك"،
سارع إلى التوقف،
سارع إلى إرجاء كل محادثة أو شأن،
سارع إلى تنحية أولئك الذين يحيون وينحنون عن طريقك
(سوف تراهم فيما بعد)،
دع مجلس الشيوخ نفسه ينتظر،
وتَعَرَّفْ بسرعةٍ على الأشياء الخطيرة في مكتوب أرتيميدور.


(عن ترجمة م. الفرنسية)

ترجمة بشير السباعي

تشارلز بوكوفسكي

(1920-1994)

تشارلز بوكوفسكي، شاعر وقاص أمريكي شهير على المستوى العالمي. ولد في آنديرناخ، بألمانيا، في عام 1920. رحل مع أسرته إلى الولايات المتحدة وهو في الثالثة من عمره. تعلم في لوس انجليس. نشر قصته الأولى وهو في الرابعة والعشرين وبدأ كتابة الشعر وهو في الخامسة والثلاثين. نشر نحو 45 كتاباً.

وجه مرشح سياسي على لوحة إعلانات في الشارع

هاهو:
ما من آثارٍ كثيرةٍ للسُّكر
ما من شجاراتٍ كثيرةٍ مع النساء
ما من إطاراتٍ كثيرة مفرغة من الهواء
ولا هاجس انتحار ولو مرة واحدة

لم يَشك من آلام الأسنان أكثر من ثلاث مرات
لم يفوت وجبة واحدة
لم يدخل السجن قط
لم يعشق امرأة قط

7 أزواج أحذية
ابن في الجامعة
سيارة من أحدث موديل
بوليصات تأمين
بستان مخضوضر
صفائح قمامة ذات أغطية محكمة
سوف يُنتخب.
* * *
أحاديثٌ صحافية

شبان من الصحف السرية
والمجلات المحدودة التوزيع
يأتون كثيراً كثيراً
لإجراء أحاديث صحافية معي-
شعرهم طويل
نحيلون
معهم أجهزة تسجيل
يأتون ومعهم الكثير من البيرة.
معظمهم
يمكنهم البقاء بضع ساعات
ويثملون

إن كانت في المكان إحدى صاحباتي
أطلب إليها الكلام نيابة عني
أقول لها، هيا، حدثيهم عن حقيقتي
ثم يقولون هم ما يرون
أنه الحقيقة

يصورونني في صورة
الأبله
وهم مُحقُّون في ذلك
ثم يسألونني:
لماذا توقفت عن الكتابة
عشر سنوات؟
لا أعرف
كيف تسنَّى لك ألاَّ تدخل
الجيش؟
موتور.
هل يمكنك التحدث بالألمانية؟
لا.
من هم أحب الكتاب المعاصرين
إليك؟
لا أعرف.

نادراً ما أرى الأحاديث
الصحافية، وإن كان أحد الشبان
قد كتب لي ذات مرة
أن صاحبتي قد قبلته
عندما كنت في الحمام.

رددت عليه، لقد أفلت بسهولة
وبالمناسبة
إنسَ ذلك الخراء الذي قلته لك عن دوس باسوس. أم أنه كان عن ميلر؟

الجو حار الليلة
ونصف أهل المجاورة مخمورون. والنصف الآخر ميتون
إن كانت لديّ أي نصيحة بشأن كتابة
الشعر، فهي –
لا تكتب الشعر. سوف أرسل في طلب
دجاج مشوي.
بوك
* * *
يا قمراً أزرق، أوه، يا قمراً أزرق
كم أحبك!

أنا أهتم بك، حبيبتي، أحبك،
السبب الوحيد في أنني ضاجعتُ ل. هو أنكِ ضاجعتِ ز. وعندئذ ضاجعتُ ر. وضاجعتِ ن. ولأنك ضاجعتِ ن. كان عليّ أن أضاجعَ ي. لكنني أفكر فيكِ دائماً، أحس أنكِ طفل في أحشائي، وأنا أسمي ذلك حباً، ومهما حدث فسوف أسميه حباً. وهكذا ضاجعتِ ك. ثم، وقبل أن يتسنَّى لي التحرك، ضاجعتِ و. ولذا كان عليّ أن أضاجعَ د. لكنني أريد منكِ أن تعرفي أنني أحبكِ، إنني أفكر فيكِ دائماً، ولا أظن أنني أحببتُ أحداً قط حبي لك.
بو وو بو وو وو
بو وو بو وو وو.

* * *
القاتل يبتسم

الصاحبات السابقات مازلن يكلمنني بالتليفون
البعض من السنة الماضية
والبعض من السنة التي قبلها
والبعض من السنوات التي قبل ذلك
من المناسب التخلص من الأمور
عندما لا تسير على مايرام
ومن المناسب أيضاً ألاّ تكره
أو حتى تنسى
الشخص الذي فشلت معه

وأنا أستمتع عندما يقلن لي
أنهن سعيدات مع رجل
سعيدات بحياتهن.

فبعد نجاتهن مني
يستمتعن بمسرات كثيرة لهن الحق فيها
وأنا أجعل حياتهن تبدو أفضل
بعدي.

الان منحتهن
مقارنات
آفاقاً جديدة
ديوكاً جديدة
سلاماً أكثر
مستقبلاً طيباً
دوني.

ودائماً ما أنهي المكالمة،
شاعراً بأنني بريء.

* * *
سيدات الصيف

سيدات الصيف سوف يمتن كالوردة
والأكذوبة

سيدات الصيف سوف يعشقن
مادام الثمن لا يدفع مرة واحدة
وإلى الأبد

سيدات الصيف
قد يعشقن أي أحد،
بل إنهن قد يعشقنك
على مدار الصيف

لكن الشتاء سوف يأتي لهن
أيضاً

ثلج أبيض
وبرد مُجَمِّد
ووجوه جد قبيحة
بحيث أن الموت نفسه
سوف يشيح بوجهه عنها –
جفولاً –
قبل أن يأخذها.

* * *
فــــــــــــــــــــــــــــــن

إذ
تبهــــــــت
الــــــــــروح
يبرز
الشكــــــل

ترجمة بشير السباعي
(عن الأصل الإنجليزي)

كافافي وأحمد راسم


بشير السباعي


خلال صيف عام 1971، زارت الناقدة الأمريكية " جين لاجوديس بنتشن" الإسكندرية في سياق بحثها عن إسكندرية "كافافي" و"فورستر" و "داريل". وفي عام 1977 نشرت في برنستون، نيوجيرسي، كتابها المعروف: "الإسكندرية لا تزال" والذي ذكرت فيه، أن "كافافي" "لم يكن مهتماً بمشاكل مصر المعاصرة، اللهم إلاَّ في مناسبة واحدة – في قصيدة تبكي فلاحاً شاباً أعدم دون وجه حق، انتقاماً لموت رجل إنجليزي".


والقصيدة التي تشير إليها "بنتشن" هي قصيدة "27 يونيو 1906، الثانية ظهراً" التي كتبها كافافي في عام 1908والتي نشر "جورج سافيدس" أصلها اليوناني، لأول مرة ، في أثينا في عام 1968.


ويَرِد زعم "بنتشن" في سياق أكثر عمومية يؤكد على أن كافافي لم يكن مهتماً بأي شيء مصري معاصر له، وهو تأكيد يكذبه ستراتيس تسيركاس في كتابه : "كافافي السياسي" الذي يتضمن فصلاً بأكمله تحت عنوان : "كافافي ومصر المعاصرة"، استندت إليه الناقدة اليونانية "مارينا ريسفا" في تأكيدها على "تمرد كافافي على الظلم الذي اقترفته بريطانيا العظمى في حق الأمة المصرية".


لكن ما يعنينا هنا ليس هو إبراز هذا الواقع الذي لا ينكر، بل إبراز واقع آخر تعرض للتجاهل زمناً طويلاً: اطلاع "كافافي" على الإبداع الشعري المصري، المكتوب بالفرنسية، وتحمسه له، ونعني هنا بالدرجة الأولى إبداع "أحمد راسم" (1895-1958)، وهو الشاعر الذي قال عنه الناقد "جاستون بيرثي" إنه "أكثر شعراء الفرنسية المصريين مصرية".


فمنذ عام 1926 ، شقَّت قصائد "أحمد راسم" طريقها من مدريد، ثم من براغ، إلى مجلة "لاسومين إيجيبسيان" التي كان يرأس تحريرها الصحفي المعروف "ستافروس ستافرينوس" صديق "كافافي". وفي سبتمبر 1927، نشرت دار "رسائل الشرق" الباريسية ديوان "أحمد راسم" الأول المكتوب بالفرنسية بعنوان "كتاب نيسان". وفي 31 مايو 1928، أصدر "ستافرينوس" عدداً خاصاً من المجلة مكرَّساً لإبداع "أحمد راسم" الشعري، تضمن مجموعة من القصائد التي كتبها الشاعر في براغ، قلب بوهيميا الذي أنصت إليه "أبوللينير".


كان "كافافي" يتابع بدأب قصائد الشاعر المصري الذي ولد – مثله – في الإسكندرية. ولم يكن الشاعر اليوناني الشيخ ليخفي حماسه لإبداع الشاعر المصري الشاب، فقد أعرب عن هذا الحماس أمام كثيرين من المبدعين السكندريين الأجانب، الذين كانوا أصدقاء مشتركين له ولـ "أحمد راسم" في الوقت نفسه.


وعندما قرر "ستافرينوس" إصدار عدد خاص من مجلته عن إبداع "أحمد راسم"، وهو قرار سابق لقراره بإصدار عدد خاص عن إبداع "كافافي"، أرسل من القاهرة رسالة إلى الأخير في الإسكندرية يخبره فيها بما قرره. ورداًّ على هذه الرسالة، كتب "كافافي" الرسالة التالية، والتي نُشرت في صدر العدد الخاص من المجلة عن "أحمد راسم":


"الإسكندرية، 9 مايو 1928، 10 شارع ليبسيوس
عزيزي ستافرينوس،
تلقيت رسالتك المؤرخة في 6 مايو والتي تخبرني عن طريقها بأن مجلة "لاسومين إيجيبسيان" تنوي تكريس عدد خاص لأحمد راسم، إنك محقٌ في القول بأنني أكنُّ التقدير له. فقد أعربتُ، شفاهةً، مراراً، عن مشاعر التقدير التي أكنها لأحمد راسم، وسوف أكون سعيداً إذا ما تسنَّى تحقيق أوسع ذيوعٍ لها من خلال مجلة "لاسومين إيجيبسيان".
إنني أحب في أحمد راسم التعبير الحي، والروح، والموقف. وعندما أرى في مجلة "لاسومين إيجيبسيان" مقالة أو قصيدة بتوقيع أحمد راسم، فإنني أسارع إلى قراءتها، مقتنعاً بأنني سوف أجد شيئاً جميلاً ومثيراً للاهتمام. وحتى هذا اليوم لم يَخِبْ ظنِّي.
إنني أتحدث عن ذلك الجانب من عمله المكتوب بالفرنسية، إلاَّ أنه يبدو لي من المؤكد أن خصائص الكتابة العديدة المجتمعة في أحمد راسم، لابد وأنها قد منحت الأدب العربيّ أيضاً صفحات مماثلة لتلك المكتوبة بالفرنسية، والتي تدخل السرور على قلبي، تدخل سروراً جمًّا على قلبي.


صديقك
ك. ب. كافافي"

أحمد راسم

(1895-1958)
"أنا كالنبتة التي تطلع ثانية بعد قطعها."

(أحمد راسم)

"إنه شاعر الفرنسية المصري الوحيد الذي تحمل نصوصه إيقاع لغته الأصلية ورموزها وقالبها الفكري".

جان موسكاتيللي

"إنه أكثر شعراء الفرنسية المصريين مصرية."

جاستون بيرثي
" الشاعر الحقيقي يعبر عن نفسه برغم عصره وغالباً ضد عصره، ضد المؤثرات السائدة، و، بوجه عام، ضد هذه "الذات" التي ليست "ذاته هو" الحقيقية."
أحمد راسم


ولد شاعر الفرنسية المصري أحمد راسم بالإسكندرية في عام 1895 لأسرة أرستقراطية من أصول شركسية.
استمع في طفولته من جدته رينجيجيل – " الجميلة، التي كانت تحب شكل السحب"- إلى حكايات عديدة تصور عالم الحريم في العصر الخديوي، كما استمع من مربيته الزنجية زُمبُل – " الهزيلة ، كسراج على وشك الانطفاء" – إلى حكايات وأمثلة شعبية مصرية عديدة.


قبل أن يتم أحمد راسم العشرين من عمره، كان قد قرأ وحفظ عن ظهر قلب، الكثير من أعمال الشعراء الكلاسيكيين العرب والفارسيين والهنود واليونانيين واللاتينيين، إلى جانب الكثير من أعمال الشعراء المحدثين الشرقيين والغربيين على حد سواء.


في عام 1922، نشر أحمد راسم ، من دون توقيع، مجموعته الشعرية الأولى – والأخيرة – بالعربية : البستان المهجور.

في عام 1926، نشرت له دار "رسائل الشرق" الباريسية مجموعة شعرية تحت عنوان "كتاب نيسان" تتضمن قصائد حب مهداة إلى حبيبته الأولى والأثيرة.

في عام 1926، أسس اليوناني ستافروس ستافرينوس في القاهرة مجلة " لاسومين إيجيبسيان" وسرعان ما أصبح أحمد راسم واحداً من أبرز الشعراء الذين تحرص المجلة على نشر إبداعاتهم.

في عام 1928، أصدرت المجلة المذكورة عدداً خاصاً عن إبداع أحمد راسم الشعري، تضمن، إلى جانب مختارات من أعمال أحمد راسم الشعرية، مساهمات نقدية بأقلام فيرنان ليبريت وثيو ليفي وجيوفاني موسكاتيللي ومقدمة بقلم الناقد الفرنسي جوزيف ريفيير ورسالة من الشاعر اليوناني السكندري الشهير ك. ب. كافافي إلى ستافرينوس، رئيس تحرير المجلة، أعرب فيها عن تقديره البالغ لإبداع أحمد راسم الشعري.

في عام 1930 ، نشرت دار "لاسومين إيجيبسيان" مجموعة شعرية لأحمد راسم تحت عنوان : "وتقول زُمبُل ثانية" ، أهداها لذكرى مربيته الزنجية. ثم نشر أحمد راسم بعد ذلك مجموعة شعرية أخرى تحت عنوان: "قدت حماري"، ونشرت له دار "لاسومين إيجيبسيان" مجموعة قصائد نثرية تحت عنوان: "ناسك عتاقة".

في عام 1932، نشر أحمد راسم ترجمة فرنسية لمجموعة من الأمثال الشعبية العربية تحت عنوان : "قلادة العجوز زُمبُل". وفي عام 1934 نشر ترجمة فرنسية لألف مثل عربي تحت عنوان : "عند تاجر المسك".

وفيما بعد، نشر أحمد راسم مجموعات شعرية جديدة، يحمل أغلبها أسماء نساء ارتبط بهن في أوقات مختلفة. إلى جانب إبداعه الشعري وترجمته للأمثال العربية، نشر أحمد راسم صوراً أدبية للعديد من معاصريه من الأدباء والفنانين، كما تابع أعمال الفنانين التشكيليين المصريين والأجانب وكتب عنها سلسلة من المقالات التي جمعها فيما بعد في كتابه: "يوميات رسام فاشل" ، والذي يعد عملاً رائداً من أعمال النقد التشكيلي المصري.

في عام 1953، ظهر بالفرنسية في الإسكندرية كتاب الناقدة الأرمينية ليزيت إينوكيان : "أحمد راسم، شاعر عريق ورقيق" ، الذي كرسته لتحليل تجربة أحمد راسم الشعرية.

في عام 1954، نشر أحمد راسم مختارات من أعماله الشعرية في مجلد كبير يتألف من حوالي ستمائة صفحة. وفي عام 1955، نشر مختارات من أعماله النثرية.

في عام 1954، صدرت بالفرنسية في الإسكندرية محاضرة الناقد إدوارد جميل: "أحمد راسم، بستانيّ الحب" والتي كانت قد ألقيت في أبريل من العام المذكور.

عرف أحمد راسم عن قرب شعراء الفرنسية المصريين: محمد خيري وفولاذ يكن وجورج حنين، وسجل ذكريات عن محمد خيري وفولاذ يكن، كما عرف عدداً من شعراء العربية المصريين معرفة شخصية وثيقة واحتفظ بأواصر صداقة متينة مع الشعراء الأجانب المقيمين في مصر، خاصة راؤول بارم وجان موسكاتيللي.

تولّى أحمد راسم العديد من المناصب في السلك الدبلوماسي المصري وأقام فترات في باريس ومدريد وبراغ ثم انتقل إلى العمل في السلك الإداري، وكان في وقت من الأوقات وكيلاً لمحافظ القاهرة، ثم تولى مهام محافظ السويس.
رحب أحمد راسم بسقوط الحكم الملكي.

غداة وفاته في عام 1958، رثاه جورج حنين رثاءً مؤثراً وموحياً.
وأصدرت مجلة "لا ريفي دي كير" عدداً خاصاً عن حياته وأعماله (1959).

وفي عام 2007، نشرت دار دينويل الباريسية مختارات من أعمال أحمد راسم، قام باختيارها وتذييلها وإعداد جهازها النقدي دانييل لانسون.

تميزت أعمال أحمد راسم الشعرية بالرومانسية والغنائية المتمحورة حول المرأة وعبرت ابداعاته عن نزعة روحية طفولية وعن نزعة حسية لا تقل طفولية.

نشر أحمد راسم أعماله في نسخ محدودة (500 نسخة على الأكثر للعمل الواحد) كان يوزع أغلبها على أصدقائه ومحبي شعره.


بشير السباعي

أحمد راسم_5


مقتطفات من "يوميات موظف بائس"


"كان أحمد راسم يدرك إدراكاً جد قوي أن الكلام هو، بالدرجة الأولى، طاقة. وهو في حالته البرية يشع من جميع جوانبه إشعاع قطعة من البللور الصخري. وعندما كان يسمع صخب الشارع، عندما كان يحاول متابعة كلام الناس الذين يجهلون كل قواعد النحو والصرف، منبوذي اللغة الحقيقيين، كان يتزود بالطاقة. وكان يحب أولئك العلماء الأميين الذين يستخدمون مفردات مزدراة، أولئك المبدعين للأمثال التي تمور فيها ذاكرة وسخرية شعب بأكمله".
جورج حنين 1958
20 مارس
ماذا تصبح الدموع التي لا نذرفها؟
9 أبريل
ما تجهله المرأة، هو أن الرجل الذي يحبها يخونها، منذ الأمسية الأولى، مع الحلم الذي يصنعه منها.
28 مايو
حين رأى امرأة جميلة ذات سيماء تتألق بالقرصنة، مجملة بفوران ما، لم يفته أن يحدث نفسه بأنها ، في هذه اللحظة نفسها، لابد وأن تكون مؤخرتها ناضحة بالعرق، وقد جعله هذا يشعر بالقرف منها بعض الشيء...
ثم تنبه بدنه لروعة هذه السفن التي يركبها قراصنة.
29 مايو
قطار انتابه الهلع، يخرج عن مساره.الموت مسألة لحظة، ولكن فكروا في آثار الزكام التي يستحيل التنبؤ بها.
30 مايو
بعد ليلة من الأرق، تنعس العينان مليئتين بالنجوم.
12 يونيو
نافذتها تخرج لسانها بسجادة سرير.
14 يونيو
لسعف النخيل حركات شهوانية تكاد تكون فاحشة. ويحسب المرء أن نساء ذوات شعور طويلة هن اللواتي تطلبن بعضهن بعضاً. وتتحاضنَّ وتتموجن من جراء مداعباتهن.
19 يونيو
أكتب أغنية حب بين عاشقين، لا يقولان مرة واحدة فيها : أحبك.صدور تهب السماء الغواية.
14 يوليو
حسناء ذات غنجات منفلتة... يا إلهي، كم كانت جميلة هذا المساء على الهاتف!
18 يوليو
ألا تفتر ابتسامة فولتير الساخرة الشهيرة عن مجرد غياب أسنان في الفك الأعلى؟
19 يوليو
تعرفت على امرأة شابة رائعة. أحبها لأن الزكام لا يزعجها ولأنها تنظر إليَّ كما لو كانت تتخذ وضعاً لرسم بورتريه لها. لكنني سرعان ما أدرت رأسي لأنني شعرت أن نظرتي التي مالت ميلاً متوازناً على كتفها سوف تسقط، رغماً عني، وتنزلق في صدارها.
20 يوليو
الطبيب النفسي سيد يذهب إلى مسرح "فولي بيرجير" (1) ويراقب المتفرجين.مغنية تتثاءب في قفازات سوداء.أحلم بطبق مكرونة تتضافر تجريداته البسيطة تحت ضوء اللغز والفتور... وأحلم بشاعرة تستطيع ترديد النشيد الوطني الروسي (2) وهي تفرد أصابع قدميها على شكل مروحة وتغمض عينيها من فرط الاحتدام.
29 يوليو
مات الشاعر لي- تاي- بو (3) في عام 762. كان يتنزه في قارب، وهو مخمور أبداً، وقد مال أكثر من اللازم لكي يعانق صورة القمر المنعكسة على صفحة الماء الرائق وغرق عمودياً.
أول أغسطس
يعزي الحكيم نفسه عن أنه ليس سيد مصيره بأن يحدث نفسه بأنه سيد قوائم وجباته.
4 أغسطس
يسمع المرء في محطة باب الحديد:"الأوبرا... كائنات تتشاتم وهي تغني"
20 أغسطس
في الشتاء، عندما يبدأ البرد، أكابد مكابدة فظيعة من عجزي عن وضع معاطف من الفراء على أكتاف البنات الصغيرات اللاتي يسرن مرتعدات.
20 أغسطس
رينيه صديقة فاتنة. جميلة كفهد أسود. في عينيها يهجع الموت مثلما يهجع في صلب الخناجر اللامع البارد.
16 سبتمبر
سائحة – انجليزية شابة – تقول للترجمان:
- ما حكايتكم، إنني أجد مساجدكم جد خالية... فلا رسوم جدارية... ولا زينات... ولا حتى تمثال.
- أنتِ على حق يا آنسة: فمساجدنا ليس فيها غير الله.
18 سبتمبر
اليوم تبدو لي زرقة السماء عديمة الجدوى.

29 سبتمبر
هناك جلود جد متصلبة يكف الاحتقار معها عن أن يكون مسرة.
9 أكتوبر
أنصب الخيمة في الصحراء. وفي ثقة بالنفس، يمنح الناس أسماء للنجوم. لم يغمض القمر عين الليل.جبن الأكف حين يتوجب التصفيق.
أول نوفمبر
تلغراف دون أسلاك في مصر؟ ... ولكن على أي شيء سوف تحط كل طيورنا الصغيرة؟

(1) مسرح استعراضي رخيص في باريس – المترجم
(2) المقصود هو النشيد الوطني الذي فرضه الزعيم السوفييتي يوسف ستالين خلال الحرب العالمية الثانية بعد أن ألغى النشيد الأممي – المترجم.
(3) شاعر صيني من عهد أسرة تانج ( 618 - 907) ، وقد كتب قصائد كثيرة عن القمر ، من بينها "ليلة مقمرة" : ينساب ضوء القمر على فراشي : جاعلاً إياه شبيهاً بأديم مغطى بالجليد : وإذ أرفع رأسي، أرى الإشراقة الصافية : ثم حين أنكسها : تجتاحني رؤية بلادي – المترجم .



ترجمة بشير السباعي
(عن الأصل الفرنسي)

أحمد راسم_4

ك . ب . كافافي


ها هو ذا واحد آخر يرحل عنا! بكل بساطة... كالآخرين. ملمحٌ جميل من أزمنة ولَّت كان يضفي شيئاً من الرونق على مدينة الأسكندرية. أما بيته الحافل بالأسرار، في شارع ليبسيوس، حيث كانت بضع شموع تعكس على الجدران ظلالاً غريبة، فقد كان يشيع حوله موجاتٍ مفعمةٍ بالشعر وباللغز. لقد كان يحب الأشكال الجميلة والأفكار الجميلة وكان يتجول على امتداد الأرصفة كظل. بينما كان حياً، كان شبحاً بالفعل، وبموته، يبدو أنه قد أصبح أكثر حياة.
لم ألتقِ بالرجل في حياتي ولا مرةً واحدة، لكن ما أكثر أصدقائي الذين كانوا جد معجبين بشعره.


ذات يوم قال لي بيتريدس:
- هذا الشاعر ليس البتة ذلك النبع الصافي الذي ينشد في الفجر كل صباح؛ ولا هو أيضاً النافورة التي تروي ظمأ من به كرب؛ إنه شراب محبة، شراب محبة رائق الماء وعذب الغناء. لم يكتب غير عدد قليل من القصائد، يرسلها إلى أصدقائه عندما يطبعها على أوراق منفصلة.


كما قال لي بيتريدس:
- قرأت ذات مرة لكافافي المثل العربي التالي، الذي كنت قد عثرت عليه للتو في مجلة أدبية:
تضع أنثى النسر ثلاث بيضات. ومن الثلاثة، تهمل واحدة وترقد على البيضتين الأخريين. ومن فرخيها، لا تطعم غير واحد.
- أيها الشاعر، لتحذُ حذْو أنثى النسر؛ وإن كتبت ثلاث قصائد، فلتكن لديك الجسارة على إعدام اثنتين منها.
عندئذ مسح كافافي صدره بيده مسح من به شهوة وقال:
" لكم أفهم أنثى النسر! إنني أفهم هذا المثل. إنني أحب هذا المثل وأحسه ".


*


لم أقرأ لكافافي غير بضع قصائد مترجمة أحسستُ بقوة جمالها . لكن المرء لا يمكنه، في حالةٍ كهذه، أن يجيز لنفسه الحديث عن شاعرٍ عظيم.
لكن (ستافروس) ستافرينوس (رئيس تحرير مجلة "لاسومين ايجيبسيان" . – المترجم) ، وهو رجل عنيد، يطلب إليَّ، مهما يكن، بضعة سطور عن كافافي.
من رسالةٍ تلقيتها أخيراً من الرسام ماكريس ، يسعدني أن أعيد نسخ هذه الفقرة وفي ذهني الأب ستافرينوس... وروح كافافي الرومانسية الرقيقة:
"لكن الديك الذي يقف على الإفريز، جد قريب من غرفتي، لم يصِحْ البتة عندما دقت ساعة المحطة الجديدة في الواحدة أو الثانية أو الثالثة فجراً. إنه لا يصيح إلاَّ في الواحدة ونصفاً أو الثانية ونصفاً أو الثالثة ونصفاً."
ليسمح لي صديقي وشاعري الكبير بأن أذكره بهذا المثل الذي سمعناه صغاراً:
"الديك لا يصيح إلاَّ في ساعة صياحه في موطنه الأصلي".
والحال أن كل من أتيح له امتياز قراءة شعرك لابد من أن تكون روحه روحاً معذبة حتى يتسنى له فهمك".


(1933)

ترجمة: بشير السباعي

(عن الأصل الفرنسي)

أحمد راسم_3


ماروخا القرطبية

الغجرية النحيلة التي سألتها عن طالعي عند زاوية السكة الفسيحة، تقول لي: "كفك لا تروق لي. اسْتَعِدْ قطعة نقودك وأرني عرض ظهرك.
لماذا لا ترحل ياصاحبي؟ ولماذا هذه الابتسامة
فجرحك مفتوح؟
على حافة الماء نساء معتوهات كحزمات من قصب السكر.
أرم لهن قبعتك وسوف يمشين فوقها.
وداعاً، يا ابن روحي، وليكن الزمن لك لا عليك.."
إذ ألحف في السؤال ويدي ممدودة،
تقول الغجرية النحيلة مستسلمة:
"تأمَّل هذه الخطوط .. إن حياتك أرض بور..
كل زهرة تلمسها تذبل..
بعضهم يزرع الشر في طريقك،
كي تجنيه أنت.
لكن ما الذي يهمك
وأنت تملك في قلبك الصخرة.
لا تكذب، فأنا أراها.
يوماً ما، رمت شقراء هزيلة
في قلبك
صخرة حبها،
حبها الأنثوي،
صخرة سوداء عظيمة.
تستقر الصخرة في القلب
وإلى الأبد..
لكن لماذا هذا الابتسامة وجرحك مفتوح؟
على حافة الماء غير بعيد عن الدير، نساء ينشدن أغنية شجية شبيهة بأغنية النوافذ الملونة التي تلف صورة عذرائنا بالنور. لتهتد خطواتك إليهن.. ولتملأ أصواتهن قلبك بالسكينة..
يا ابن روحي،
إن الآلام التي تنتظرك
تشبه أمواج البحر
تتراجع أمواج.. لتفسح المكان لأمواج أخرى
وهذا سر صفاء قلبك..
يوم ولدت
سقطت قطعة من السماء.
وإلى أن تموت،
سوف تظل السماء على هذه الحال،
لكن اسمع:
لا تعد إلى وضع خلاصة ثقتك
على تنورة، حتى وإن كانت من الحرير.
ماروخا هي التي تصرح لك بهذه الأقوال الغامضة،
ماروخا، امرأة، مكروهة أكثر .. من دون جميع النساء..
لكن قل لي، أيها البائس ذو العينين اللتين من زيتون أسود:
فيم تستخدم هذا المظهر لراع صغير وقلبك، كما الوردة، له
أشواك صدئة؟
الوردة فقدت عطرها..
لا تنظر هكذا إلى هذه المرأة التي تمر.
إنها العذراء الوحيدة في هذه القرية اللعينة.
والآن، يا ولدي، يمكنك أن ترحل.
إن أحببتني يوماً،
عد وقل لي
لكن على مهل
كي لا أموت.."





*






كونشيتا






في وشاحك الأسود، ترقصين رقصة بلادك الإشبيلية.
يداك تبدوان كما لو كانتا تنثران على البلاط المرمري نثاراًمُسْكِراً ولاذعاً..
لكن ذراعيكِ الخطرتين تتضوعان بعطر وحشيّ يذكِّر المرءبأزهار شجر الزيتون..
تأسرنا فتنتكِ المتموجة، وجسدكِ الغادر الرهيف رهافةالسيف..
لردفيكِ رقة البندول الغريبة، البندول الذي تختزل كلّ حركةفيه مشوار عمرنا..
ليس ما يأسرنا خطوط وجهكِ لا ولا خطوط جسدكِ الغادرالمثير
بل اللهب الذي يضيء
نظرتك العطشى
للدم..
الماتادور يدفع الثور الضخم إلى الجنون ويوقظ فيه وحشيةإنسانية، إذ يلوح له بوشاحه الأحمر الذي يشبه منديلعرس..
حمرة شفتيكِ تثير أعصابي الخشنة وتحرك فيّ شهوة ضارية..
فترفقي يا امرأة
بالبدائي الحامل في قلبه الذي من الشمس ألق رمال الصحراءورقة النخيل المتمايل !..
أيتها المرأة التي لها عينان من ثمار برية،
ما دام دربانا متقاطعين فاسمعيني:
إن غيابكِ يقتلني
لكنني أموت إذ أراكِ
فاغرزي في قلبي خنجراً
ببطء،
لكن ببطء شديد،
كي لا يأفل عذابي سريعاً..






(مدريد 1927)






أغنيات أسبانية لا تُنسى





(1)






حين أمرُّ ببابكِ،
أشتري خبزاً آكله
كي لا تخامر أمكِ الظنون
لكنها تقول لي:
لا تَعُدْ إلى رمي الحصى عبر نافذتي
أمي غيرت موضع فراشي.






(2)





الأرض والسماء تبتسمان اليوم لي،
اليوم تضيء في أعماق روحي شمس..
رأيتها اليوم؛ منحتني اليوم نظرة..
اليوم أومن بالرب.
عالم لقاء نظرة..
سماء، لقاء ابتسامة.
لقاء قبلة، لا أعرف
ماذا أهبها لقاء قبلة..






(3)






التنهدات من الهواء وإلى الهواء تذهب.
الدموع التي من الماء تذهب إلى البحر؛
لكن قولي لي، يا امرأة،.. هل تعرفين
إلى أين يذهب الحب حين يموت؟







ترجمة بشير السباعي
(عن الأصل الفرنسي)

أحمد راسم_2

دعاء

إلهي، يامن تعلم
ثقل الكلمات،
أدعوك أن تجعل كل قصائدي أغنيات حب
مُطَرَّزَةً بالصمت كأفئدة اليتامى
لأنه لم يبق فيَّ
غير إيقاعات خفية،
لأنه لم يبق فيَّ
غير سر الكلمات
المتلاطمة حتى الضنى.
أدعوك أن يتسنى لي مثلما تسنى للشاعر
تاوتسين
أن أتمتم بأغنيات على عود بلا وتر
لا يفهمها سوى حبيبتي
مثلما تفهم نظرتي
حين تستقر، خجلى،
على عري
يديها الأنثويتين.

*

جميلة مثل لهب


جميلة مثل لهب
جميلة مثل فتاة صغيرة تلمع بالعرق
جميلة مثل امرأة في حقل من حقول قصب السكر، مثل المهج
الكسيرة، مثل الأكتاف المهزومة
جميلة مثل ثمرة معطرة بالبراءة
جميلة مثل ثمرة مترعة بالنقاء
جميلة مثل تربة ما عاد ينبت فيها شيء
جميلة مثل حلم
جميلة مثل بحر مجهول الأمواج
جميلة مثل رغبة صباحية
جميلة مثل الصورة التي تهتز في كل قلب
جميلة مثل لغة المروج الكوكبية
جميلة مثل فيض الشمس القزحي
جميلة مثل حريق
جميلة مثل طيف منتصب في الأفق
جميلة مثل البحر حين يسبح القمر في أمواجه عارياً
جميلة مثل انسجام رائق
جميلة مثل خاطر إلهي
جميلة مثل لهب
جميلة مثل الموت


*

كيف يمكنكِ؟


حين تفتشين عن أسرار قلبي
تشبهين الأطفال الذين يهشمون لعبهم بحثاً عن الروح الخفية
التي تحرك قطاراتهم.
إن كان حلمي على إيقاع أصابعك يشدو
وإن كان فكري على زورق ضفائرك يهيم،
فكيف يمكنك الشك في عاطفتي؟
حين يتركز عليَّ بهاء عينيك
أشعر أن كل شعاع حزمة حية ..
وهيهات أن أكون في أي وقت آخر أكثر قرباً من الله.


*

لماذا؟


سألتك ابتسامة
فمنحتني كل نفسك..
وحين سألتك لماذا؟
جاوبتني بابتسامة..


*

"المرأة ذات العينين الخضراوين"


للرسام محمود سعيد

صورة ذراعيها تثب فيَّ كغزالة
في الحلم، شددت على ذهب أذنيها
تنسمت أزهار فستانها
وأصابعي تحرس عذوبة
أفنانها.
أشعر أن رضاب ثغرها
سوف يشفيني.
نظرتها تصلني كنسمة رقيقة
تستخلص من الأزهار أريجها المتموج.
نهدان نبيلان مثل أوزتان تتقدمان.
إذ خانتني الشجاعة على مواجهتهما،
انزلقت نظرتي
بمكابدة طفولية.
كانت السماء أقل عذوبة من خضرة عينيها.
كان قدها رقيقاً مثل ساق زهرة، طرياً مثل سعفات نخيل
داعبها النسيم..
وبدا أن أعواد القصب تسخر من حيائي.



*

حزينة هي..


كيدين ضجرتين..
كباقة زهر..
حزينة كثمرة خلقت للاشتهاء..
حزينة كالموجة التي تنحسر وتموت..
حزينة هي كوجه بلا استجابة ..
كالنجمة التي تنام في مطر الأرصفة..
كالشعاع الأخير فوق مدينة غافية..
حزينة ككتاب ينقفل إلى الأبد..
يرتجف صوتها، في الفضاء، كورقة تسقط في بركة لا يتجه
إليها أحد.


*

أزهار البستان تقول لي..


أزهار البستان تقول لي :
لِمَ لا تفكر في وجهها وأنت في بيتك
بدلاً من أن تجيء إلى هنا
وتذلنا؟


*
قصيدة صيف


الحياة تمضي كانعكاس حلم على وجه الماء..
فعودي، يا صاحبتي، لأن الزمن قصير..
عودي، فسوف أمنحك زهور حبي الخفية.
عودي، فأنا كالنبتة التي تطلع ثانية بعد قطعها.

ترجمة بشير السباعي

(عن الأصل الفرنسي)

أحمد راسم_1

(1895-1958)

حكاية من أجل الكبار
روتها إنجي أفلاطون (9 سنوات)



كان ياما كان صديقان – حلاق وخباز – اعتزما القيام برحلة طويلة.
فقال الخباز:
- لنأخذ معنا خبزاً كثيراً.
لكن يوسف، الحلاق الصغير، لم يكن يرى هذا الرأي، فهو لم يكن يريد أن يظهر بمظهر شيخ عجوز يحمل على ظهره سلة خبز.
عندئذ قال الخباز:
- بالنسبة لي، سوف آخذ معي خبزاً كثيراً.
ووضع على ظهره سلة خبز كبيرة، فوق لوح مثبت بحبل.
وبعد أسبوع، صعد الحلاق الصغير، وهو يتظاهر بالتعب، على اللوح المثبت على ظهر صديقه، وأخذ يأكل الخبز وهو يصفر. كان يأكل الخبز لأنه كان جائعاً، وكان يصفر لأنه كان مبتهجاً.
وذات يوم قال له الخباز:
- ناولني قطعة من الخبز، يا صديقي الحلاق.
لكن الحلاق الذي كان يصفر لم يجب.
وألحف الخباز في الطلب، عندئذ قال يوسف:
- لن أناولك خبزاً إلاَّ إذا فقأت لك عيناً.
وبما أن الخباز كان ولداً طيباً وكان يعرف أن صديقه شرير، فقد تركه يفقأ له عيناً ... لكي يحصل على قطعة من الخبز ويتمكن من مواصلة السير.
وكان يوسف يصفر بلا انقطاع، وهو يجلس مستريحاً على اللوح المثبت على ظهر صديقه. وسار الخباز وهو لا يرى الطريق إلاَّ بعين واحدة.
وفي صباح اليوم التالي، طلب قطعة أخرى من الخبز لأنه كان جائعاً ولم تعد لديه قدرة على مواصلة السير.
عندئذ قال يوسف، الحلاق الصغير:
- إنك تأكل خبزاً كثيراً ... ولن تحصل على قطعة أخرى إلاَّ إذا فقأت عينك الثانية.. وعندئذ فسوف نحيا معاً دائماً لأننا أصدقاء. أنت تحملني وأنا أدلك على الطريق.
ووافق الخباز لأن قلبه كان أبيض ورقيقاً مثل لب الخبز.
وبعد أن فقد بصره، أكل كسرة أخرى من الخبز، ثم استأنف سيره ... بينما أخذ الحلاق يصفر وهو جالس على كتفه، لأنهما كانا يريدان الوصول إلى القصر العظيم الذي كان على قمة الجبل.
وعندما أحس الخباز بالتعب، توقف لحظة ليستريح، وأنزل على صخرة لوح الخشب الذي كان مثبتاً على ظهره والذي كان يوجد عليه ما تبقى من الخبز وصديقه الحلاق.
لكن يوسف الذي رأى القصر العظيم الذي كان على قمة الجبل، ترك الخباز الأعمى واتجه وحده إلى غاية رحلتهما.
وسالت الدموع من عيني الأعمى المفقوئتين. وبينما هو يجهش بالبكاء، سمع صوت امرأة يقول له:
- إذا مسحت عينيك بيديك المبلولتين بالدموع فسوف تسترد البصر.
وبصق الخباز المسكين في كفيه لكي ينظفهما قبل أن يمسح بهما خديه، ثم فرك عينيه بيديه المبلولتين بالدموع.
عندئذ رأى أمامه فجأة، ليس فقط امرأة، وإنما أيضاً حمامة.
ولما كان الجوع قد أخذ منه كل مأخذ، فقد قال لنفسه: "لو كان بوسعي أن آكل هذه الحمامة..."
عندئذ قال له صوت آت من شجرة:
- دع هذه الحمامة وأكمل سيرك.
وعندئذ سار الخباز، الذي كان ولداً شجاعاً، لكنه صادف بعد لحظة المرأة نفسها محاطة بفراخ صغيرة.
وإذ استولت عليه الدهشة، قال لنفسه: "إني جائع".
لكن المرأة الجميلة قالت :
- أرجوك لا تمس فراخي لأنني أحبها لما تمنحني إياه من بيض.
عندئذ مشى الخباز الذي كان فتىً شجاعاً وهو محتدم الشعور، تاركاً الفراخ التي كانت تحيط بالمرأة الجميلة. وسار ساعات طويلة ولم يتوقف إلاَّ عندما رأى أمام قدميه سحلية. وبما أن الخباز المسكين كان مرهقاً جداً، فقد سقط على صخرة. وعندما تمكن من فتح عينيه، وجد نفسه في البستان الذي كان القصر العظيم فيه، فدخله، وهناك، وجد أن صديقه يوسف قد أصبح حلاق الملك.
ولم يشعر الحلاق بالارتياح لرؤية أن الخباز لم يعد أعمى. وقال الحلاق للملك:
- مولاي، لقد كان هذا الفتى أعمى. وقد استرد بصره. ولابد أنه على صلة بالجان. إن وجوده هنا خطر.
لكن الملك الذي كان رجلاً ذكياً قال له:
- أنا لا أظن ذلك.
عندئذ أشعل الحلاق النار في القصر، انتقاماً من صديقه.
فقال الملك للخباز:
- أنت وحدك القادر على انقاذنا. لقد تمكنت من استرداد بصرك. ولذا فإن بوسعك أن ترى في هذه اللحظة الخطر المحدق بنا، وإلاَّ فإنك سوف تهلك معنا.
وفي البستان، وجد الخباز الحمامة مع المرأة الجميلة التي تحب الفراخ، وأدرك الجميع سبب حزنه.
وبينما راحت المرأة والفراخ تنظر إليه، هطل وابل مطر من السماء السوداء، وأطفأ الحريق الذي كان قد بدأ.
وسالت دموع كثيرة من عيني الخباز على خديه عندما عرف أن صديقه الحلاق قد مات في الحريق.



* * * * * * *



يبدو أن رسالة هذه الحكاية هي أنه لا يجب عليك أن تحمل على كتفيك إنساناً قادراً على أن يفقأ عينيك.
فالمرء لا يسترد بصره إلا في الحكايات التي تُروى للأطفال.



ترجمة بشير السباعي
(عن الأصل الفرنسي)

ألبير قصيري

الجوع

عندما يجوع المرء مساءً، - بعد أن يكون قد صاغ
وجوده المر في إيقاعات سونيتات فاحشة، -
يهبط إلى الشارع مصاحباً تعاسته،
ويجد لأحشائه الجائعة شيئاً قابلاً للذوبان.

ما أبعد المرء عن تحرقات المشاعر والأحلام والأوهام؛
فالمثل الأعلى آنئذ هو الخبز المؤرَّج،
ولا يعود المرء راغباً في البصق على البورجوازيين العابسين
ولا في التحرش بمؤخرات بناتهم الفاتنات.

فمشهد الحلوى الجميلة في محال الحلوى
يمنح معدتك لذات زهيدة؛
وسرعان ما ينسى المرء لوسيل وماري.

ودون أن ينخدع بعدُ بالحسناوات المستحيلات
يحلم القلب، - الذي صرعته رغبةٌ متضورةٌ –
بالنكهة المحبوبة لحساءٍ ملائكي.





(1933)
ترجمة بشير السباعي
(عن الأصل الفرنسي)


إدمون جابس

شذرات


ماتت أختي بين ذراعيَّ بالفعل. كنت وحدي قرب وسادتها. أذكر أنني قلت لها شيئاً كـ : "لا يمكنك أن تموتي. هذا مستحيل" . وهو ما ردت عليه بهذه الكلمات بالضبط : "لا تفكر في الموت. لا تبكِ. فالمرء لا يهرب من قدره".
أَدركتُ، يومها، أن هناك لغةً للموت، كما أن هناك لغةً للحياة.
إن المرء لا يتحدث لمحتَضَرٍ بالأسلوب نفسه الذي يتحدث به لإنسانٍ حيٍّ. وهو لا يُجيبك بعدُ بالأسلوب الذي كان يمكن أن يجيب به قبل ذلك بلحظات. إن كلامه مختلف.


*


لقد كنت في آن واحد متمرداً على الظلم الذي يمثله كل موت – والمُبَرِّرُ أقوى عندما يحل بإنسان في مقتبل العمر- وسلبيًّا . لقد تكلمت أختي قبل أن تلفظ أنفاسها عن "القدر". وفكرة القدر تخترقني، بدوري، اختراقاً جد عميق ومن المؤكد أن مصر ليست غريبة عن هذه الفكرة.
إنني أعتقد أن هذا كله كامن في أعمق أعماق كتبي. والحال أن اليهودية، المشربة بهذه الجبرية بحكم أصولها الشرقية، قد جعلت من ثنائية السلبية – التمرد، أساساً، عين فضائها. لقد أصبح تمردها تساؤلاً معذَّباً.


*


لا يمكن للمرء النظر إلى مصر، إلى الشرق، بعيونِ غربيين دون أن يسقط في غرائبيةٍ تتنكر لما هو أساسيّ.
....... كلا، إن المصري ليس كسولاً ولا بليداً ولا خامل الحس. إنه ببساطةٍ شديدُ الالتفات – خاصة الفلاح – إلى العلامات والإشارات التي تغيب عنَّا.


*


إن فكرة الذهاب للعيش في إسرائيل لم تخطر ببالي قط. ولعل ما وراء ذلك هو شيء أعمق بكثير، شيء يجري تناوله باستمرار في كتبي، وهو كرهي الأصيل لكل انغراس. إن لديَّ انطباعاً بأنه لا وجود لي إلاَّ خارج كل انتماء. وانعدام الانتماء هذا هو جوهري ذاته. ولعلني لا أملك ما أقوله غير هذا التناقض الأليم: إنني أطمح ككل إنسان إلى مكان، إلى دار، ولا يمكنني، في الوقت نفسه، أن أقبل المكان الذي يعرض نفسه عليَّ.


*


كل ما أعرفه هو أن الوحدة، بحكم قوة الأشياء، قد أصبحت القَدَرَ العميقَ لليهودي. ودولة إسرائيل، ليس فقط لا تُنهي هذه الوحدة، بل إنها، أحياناً، تزيد من حدتها.



ترجمة : بشير السباعي

(عن الأصل الفرنسي)

إيجور سيفيريانين_2

النجمة والعذراء


هاك نجمة ذهبية
بزغت تلمع في السماء.
أكيد أن النجمة الصغيرة لا تعرف
أنها لن تلمع طويلاً.

كذلك أيضاً، الفتاة المتوردة:
تخرج للتنزه في الهواء الطلق، –
فجأة يدنو منها فتى جميل –
فلا تُرى لها إرادة طليقة.


1896
ترجمة بشير السباعي
(عن الأصل الروسي)

راينر ماريّا ريلكه_3

إلى الموسيقى


الموسيقى: تَنَفُّسُ التماثيل.
وربما: صمتُ الرسوم.
أنتِ أيتها اللغةُ
التي تنتهي عندها كلُّ اللغات،
أنتِ أيتها الزمنُ
الذي ينتصب عموديًّا
على حركةِ القلوبِ الفانية.

مشاعرٌ لمن؟
أوه يا تَحَوَّل المشاعر إلى ماذا؟ - :
إلى مشهدٍ طبيعيٍّ مسموع.
أنتِ أيتها الغريبةُ: الموسيقى.
يا فضاءَ القلبِ المنبثقِ منَّا.
الفضاء الأعمق فينا،
الذي، إذ يرتفعُ فوقنا،
يشقُّ طريقه إلى الخارج، -
رحيلاً مقدساً:
عندما يقفُ الجانبُ الأعمقُ فينا
في الخارج،
ويصبح مَدَىً مُجَرَّباً أكثر من سواه،
ويصبح الجانب الآخر للهواء:
نقيًّا،
بلا حدود،
وغير صالح للسُكنى بعدُ.



ميونخ، 11-12 يناير 1918
ترجمة بشير السباعي

(عن ترجمة س. ميتشل الإنجليزية)

نيكولاي جوميليوف_2

(1886-1921)


كالفاتح ذي الدرع الحديدي
إلى الطريق خرجتُ ومنتشياً أمشي،
تارةً أستريحُ في بستانٍ بهيج،
وتارةً أندفعُ إلى المنحدراتِ والمهاوي.

يتكاثرُ الضبابُ أحياناً في سماء غائمةٍ بلا نجوم...
لكنني أهزأُ وأترقبُ،
واثقاً، كما هو شأني دائماً، في بزوغ نجمتي،
أنا الفاتحُ ذو الدرع الحديدي.

إن لم يكن بوسعنا في هذا العالم
فك القيد الأخير،
فليأت الموت، إني أنادي أي موت،
سوف أنازله، حتى النهاية
وربما أمكنني، بذراعِ ميتٍ،
إيقاظ السوسنة الزرقاء من سباتها.



1903
ترجمة بشير السباعي
(عن الأصل الروسي)

استيهامات_15

6 أبريل 2010


على الرغم من أن أحاديثي الصحافية ومداخلاتي في الندوات ليست كثيرة، إلاَّ أنني لا أكاد أذكر أن الصحافة العربية عموماً، والمصرية خصوصاً، نقلت ما صدر عنّي بعد احتسائها قهوة الصباح! وهو ما يدفعني إلى أن أؤكد أنني لستُ مسئولاً إلاَّ عما أنشره في مدونتي، ذئبتي الوفية!

ماياكوفسكي

للتاريخ


حين يتوزع الجميع على الجنة وعلى الجحيم،
سوف تتوصل الأرضُ إلى الحساب -
فلتتذكروا:
في عام 1916
اختفى من بتروجراد البشر الرائعون


1916
ترجمة بشير السباعي
(عن الأصل الروسي)

استيهامات_14

1 أبريل 2010

هذا سببٌ إضافيٌ لكي أُحب جويس منصور:

في مؤتمر المثقفين المعقود في هافانا في أواخر الستينيات، صَادَفَتْ جويس الرسام المكسيكي سيكيروس – قائد محاولة اغتيال تروتسكي الأولى – فدست خنصرها في مؤخرته أمام جميع الحاضرين، مُردِفَةً :
"هذا من طرف بريتون"!

ومع أن مغفل الأربعينيات كان قد أدرك – لاشك – بحلول الستينيات، إن لم يكن قبل ذلك – أنه كان مجرد واحد من حمقى كثيرين، إلاَّ أن من المؤكد أنه كان يستحق هذا الإذلال، من طرف أي أحد!

قسطنطين كافافي

(29 أبريل 1863- 29 أبريل 1933)

في الميناء

رَكَبَ إيميسُ البحرَ
متجهاً إلى سوريا
عُمرهُ ثمانية وعشرون عاماً
بالكادِ يبدأُ حياته
يَأملُ في أن يعمل
صبياًّ لدى عَطَّار.
خَذَلَهُ هواءُ البحرِ العليل
سَقَطَ المسكينُ مريضاً
وفي أَوَّلِ ميناءٍ في طريقهم
أنزلوه إلى الشاطئ
وهناك،
محموماً، حيال الموت،
فَكَّرَ كثيراً
في كُلِّ شيءٍ
في البيت والأهل.
النوتيةُ المُراعون للأصول
حاولوا البحث عن ذويه
ولكن أين يجدونهم
والإغريق في كلِّ مكان
على ألفِ جزيرةٍ منتشرون
عندئذٍ قالوا من يدري
أليس الأفضل أنَّه مات
في بلدٍ غريبٍ وبعيد
هكذا قد يحسب أهله على الدوام
أنه مازال حياًّ
لم يَمُت!


ترجمة بشير السباعي

(عن ترجمة ر. دوبروفكين الروسية)

فولاذ يكن

(1901-1947)

رؤيا

الشفقُ يُرخي غلالاتهِ الشفيفةِ،
عندما أراكِ جالسةً في ركنٍ قصيٍّ:
سماءٌ متوهجةٌ وعامرةٌ بالنجوم
تُنَوَّرُ وَجهكِ المتأمل بضيائها الجميل.

حالمةً، تراقبين المشهد الطبيعي الرحب
الذي تتراءى وجوهه المتباينة في عينيك،
وإذ تجتازُ النسمةُ أوراق الشجر المخضوضرة
تَطبع قبلتها المديدة على ذَهَبِ شَعركِ.

أخال أنني أرى فيكِ، يا ذات الحُسنِ الذابلِ الفخور،
فنظرتُكِ تعرفُ جيداً إبداء ذلك،
شعاعاً شمسياً هادئاً وحيداً،
بحيث إن النهار، إذ يرحلُ، يَنسى جَرَّه وراءه!


سونيت

بينما كُنتُ أبحثُ عن الكائن البريء الرقيق
عَلَّني أتَحسس فرحةً طال اشتهائي لها،
أشعلتِ في حواسي، بنظرةٍ عابرة،
الرغبة َ التي بَرَّحَها انتظارُك.

منذ ذلك الحين صرنا أحباء. فمن ذا الذي يعيد لنا
تلك الأيام التي ولَّت، الممتلئة صفاء،
تلك اللقاءات الرائقة في أمسيات الصيف الجميلة
حيث تَوَحَّدَ قلبانا المخلوقان للتواصل؟

أُخرياتٌ جَعلنني أقضي ساعاتٍ من المسرة
لكن ما من واحدة منهن تَسنَّى لها قهري
تحت التباريح الحلوة لنشوةٍ حبيبة.

وربما، في أيام زاهية أكثر، وأكثر صفاءً،
تصوغ مشاعري القديمةُ القصيدةَ
التي سيكونُ حُبِّيَ الأولُ أجملَ أبياتها.


ترجمة بشير السباعي
(عن الأصل الفرنسي)