قسطنطين كافافي

آثاناس بوليتيس

[ مقتطف من الجزء الثاني من كتاب "الهيلينية ومصر الحديثة" نُشر في مجلة "لاسومين إيجيبسيان" – 25 أبريل 1929، قبل صدور الجزء المذكور. ]


ترجمة بشير السباعي



وُلد الشاعر قسطنطين كافافي في الإسكندرية لكن أصول عائلته البعيدة ترجع إلى القسطنطينية. وقد قضى في حداثته عدة سنوات في انجلترا، ثم ذهب إلى القسطنطينية حيث قضى نحو عامين. وعاد إلى انجلترا وهو يافعٌ بالفعل وزار فرنسا حيث قضى فترة جد قصيرة. وهو يسكن، في الإسكندرية، منذ أكثر من عشرين عاماً في البيت رقم 10، شارع ليبسيوس. وقد عمل لآخر مرة في مكتب تابع لوزارة الأشغال العمومية المصرية، ثم تركه، منذ بضع سنوات، ليتمكن من التفرغ للشعر.


وبالرغم من أن كافافي يُعَد متقدماً في العمر إلى حدٍ ما، فإن سيرته الأدبية قصيرة نسبياً. فمنذ نحو 15 عاماً لا أكثر كان لا يزال غير متمتع بمكانة متميزة في الحركة الهيلينية الجديدة الحديثة، بل إن بالإمكان القول إنه كان شبه مجهول من جانب الجمهور الواسع، بالرغم من وقوف عدد محدود من الأدباء على عمله. والحال أن جريجوار زينوبولوس هو أول من جعل قصائده معروفةً في اليونان.


وقد يبدو الأمر غريباً للوهلة الأولى، خاصةً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن كافافي كان قد بدأ نشر قصائده منذ 1896-1897. فآنذاك رأت النور قصيدته "الشموع" والتي يبدو فيها كافافي متمكناً بالفعل من فنه. وحتى قبل ذلك التاريخ، كان كافافي قد نشر خمس عشرة قصيدة، تنصل منها بعد ذلك. وهو ما يعني أن مسيرته الأدبية تبدأ بالفعل منذ 1896-1897.


إلاَّ أنه لا تتوافر، حتى منذ ذلك التاريخ، أية مجموعة كاملة لقصائد كافافي. ففي عام 1904، نشر مجموعة أولى، تضم 14 قصيدة، وفي عام 1910 نشر مجموعة ثانية تضم 21 قصيدة. وكانت هاتان المجموعتان، حيث صدرت الأولى في 150 نسخة بينما صدرت الثانية في 200 نسخة، خارج التوزيع التجاري ومخصصتين للتوزيع على أصدقاء الشاعر.


وفي عام 1915، ظهرت مجموعة من قصائد كافافي أكثر أهمية، لا تحمل غير عنوان: "قصائد 1907-1915".
والحال أن الطابع الذي كانت تُطبع عنده صحيفتا "نيا زوي" و "جراماتا" كان قد نشر في كراسٍ مستقل من ثلاثين نسخة قصائد منشورة في هاتين الصحيفتين وأتاح بذلك الفرصة لتكوين هذه المجموعة. وقد دخلت أيضاً في هذه المجموعة ثلاث أو أربع قصائد كُتبت بين عامي 1897 و1907.


ويواصل كافافي نشر قصائده في أوراق منفصلة حتى عندما توقف هاتان الصحيفتان نشرها مؤقتاً. وبعد ذلك يجري جمع هذه الأوراق في مجموعة يوزعها الشاعر على أصدقائه.


وشأنها في ذلك شأن أسلوب نشرها، تتميز قصائد كافافي بأصالتها. وهو أول ما يثير الانتباه عند قراءة هذه القصائد. فهي لا تشبه قصائد أي شاعرٍ آخر يوناني أو أجنبي.
وهو ما يجعل تحليلها صعباً.


وقبل تحليل هذا الشعر لننظر مم يتكون. بالإمكان تصنيف قصائد كافافي في ثلاث مجموعات:
أ‌) القصائد التأملية،
ب‌) القصائد التاريخية.
ج‌) القصائد الحسية أو الجمالية.


في قصائد المجموعة الأولى، يدعونا كافافي، بمناسبة حدث يرويه، إلى التأمل. وقد أسماها البعض بالقصائد الفلسفية. ووفقاً لكافافي نفسه، فإن من الخطأ تسميتها بهذا الإسم. فالواقع أن الفلسفة تستوعب العمومية وتقدم، بمناسبة حقيقةٍ جزئية ما، القاعدة العامة، في حين أن هدف كافافي محدود أكثر. فالشاعر يتحدث عما يمكن أن يحدث في حالات معينة لكنه لا يزعم أن ذلك سوف يحدث بالضرورة. ومن ثم فغالبية قصائده، بالرغم من دعوتها إيانا إلى التأمل، ليست قصائد فلسفية بالمعنى المحدد للمصطلح.


وعندما نلقي نظرة على قصيدتي كافافي "إيثاكا" و "المدينة"، فإننا نرصد بسهولة أسلوبه الإجرائي جد المميز للشاعر.


والمجموعة الثانية من قصائد كافافي هي القصائد التاريخية. وأحياناً ما لا يكون هذا الشعر تاريخياً بالمعنى الضيق. فالشاعر لا يفعل سوى اختيار عصر تاريخي لوضع شخصياته فيه وأغلب هذه الشخصيات، من جهة أخرى، غير حقيقية. فما هو ذلك العصر؟ لقد فكر كافافي في بداية مسيرته الشعرية في العصر البيزنطي. والحال أن التراث الهيليني ووطنيته وربما أصله قد اجتذبته إلى ذلك العصر. لكنه، كما صرح لنا بذلك بنفسه، ترك هذا المشروع، حيث إن ذلك العصر لم يكن ملائماً كإطار لشخصياته.


والواقع أن هناك عصراً يعتبر ملائماً يشكلٍ خاص كسياق لقصائده. هذا العصر هو العصر الهيلينستي. وهو العصر الذي يمتد من فتوحات الإسكندر إلى الفترة البيزنطية. ويضم إليه كافافي جزءاً من التاريخ الروماني، ليس هو المائة سنة السابقة على يسوع المسيح، حيث كانت روما لا تزال إيطالية، بل الجزء الذي يتلو يسوع المسيح عندما تحسست روما بشكل كامل آثار الهيلينية. ومن ثم فإن كافافي يستلهم – ولنستخدم هذه الكلمة بالرغم من أن الشاعر لا يحبها – الفترة الهيلينستية أو السكندرية شرط أن نأخذ هذه الكلمة بمعنى عام، أي دون أن نقصد حضارة مدينة الإسكندرية. وقليلون هم العلماء الذين يعرفون هذه الفترة معرفة أفضل من معرفة كافافي بها.


إن أياً من التفاصيل لا يغيب عن بال الشاعر، بل ويمكن القول إن الشاعر يبدو أحياناً وكأنه يحيا في تلك الأزمنة القديمة فوصفه مفعمٌ بالحيوية إلى أقصى حد.


ومن ثم فإن كافافي هو شاعر اسكندرية اللاجيين كما أنه شاعر البلاد التي أضفى عليها فتح الإسكندرية حضارة هيلينية. كما أن الشاعر يتواصل مع سلالة السلوقيين تلك التي أحرزت الحضارة الهيلينية في ظل حكمها تقدماً أسرع مما في مصر، ربما لأنه لم يكن عليها أن تناضل في سوريا ضد حضارة محلية جد قديمة بالفعل كما في وادي النيل.


وبوسعنا أن نتساءل عن الأسباب التي تجتذب الشاعر إلى العصر الهيلينستي. وهي تكمن في أن هذه الفترة التاريخية هي التي تعتبر ملائمة بشكلٍ خاص كإطار للشخصيات التي يريد بعثها إلى الحياة من جديد. ففي الإسكندرية وفي مصر آنذاك، كما في الإسكندرية ومصر الآن من جهة أخرى، كان هناك أجانب إلى جانب المصريين. ومن بين هؤلاء الأجانب كان كثيرون يتكلمون باليونانية، بالرغم من أنهم لم يكونوا جميعاً هيلينيين. لقد كانوا ناطقين بالهيلينية. وكانوا عديدين. وكانت الحضارة الهيلينية قد صهرت في قالب واحد أناساً من قوميات مختلفة أسهم السلام الروماني في إضفاء خصائص متماثلة عليها، إلى درجة أن العالم اليوناني – الروماني آنذاك يمكن أن يقارن من هذه الزاوية بقرنينا التاسع عشر والعشرين. والخلاصة أن ما يميز هذا العصر إنما يكمن بشكلٍ خاص في غياب وطنٍ خاص وفي غياب نزعة قومية ضيقة وفي غياب تراث كابح وفي سهولة الاتصالات وأخيراً في حرية السلوك وفي أخلاق جنسية مشابهة لحرية السلوك وللأخلاق الجنسية للقرنين التاسع عشر والعشرين. وهذه الأسباب وخاصة الأخير إنما تحددان بشكلٍ خاص ذلك العصر كإطارٍ لقصائد كافافي.(1)


أما المجموعة الثالثة من قصائد كافافي فهي، أخيراً، المجموعة التي سميناها بالحسية أو بالجمالية.


ومن جهة أخرى، فإن عدة قصائد يمكن أن تندرج في هذه المجموعة أو تلك من المجموعتين الأخيرتين ويمكن اعتبارها إما قصائد تاريخية أو قصائد جمالية.


وقد وجهت انتقادات كثيرة إلى كافافي بصدد هذه القصائد الأخيرة، حيث يأخذ عليه البعض أخلاقه المتساهلة وافتقاره إلى السمو العاطفي. على أن هذا النقد الأخير لا يبدو مشروعاً. لأن كافافي، بالرغم من كونه حسياً، بعيد عن أن يكون مبتذلاً. واللقاءات التي يصفها ليست وقتية بل دائمة: فهي تفترض عاطفة نبيلة ما، وإلا فسوف يكون من الصعب فهم دوام لقاء تحت تأثير الجنس وحده.


إن قصيدة واحدة من قصائد كافافي، وهي قصيدة "شروعهما"، تشير إلى لقاء عابر. لكن العاطفة، هنا أيضاً، ليست غائبة، لأن هذا اللقاء الوقتي، كما تشير إلى ذلك الأبيات الأخيرة من القصيدة، قد ساعد فيما بعد على إلهام الفنان. ومن ثم فإن العاطفة هنا مترتبة على الفعل.
ذلك إذاً هو شعر كافافي. إنه شعر فكريّ تماماً. وما يميزه هو أصالته التي لا حد لها. وسواء شئنا أم أبينا، فإن ما يجب الاعتراف به – وهو مالم يتخلف جميع النقاد عن إبرازه – هو أن هذا الشعر أصيل تماماً وأنه لا مثيل له في أية لغة. كما أنه لا غرابة في أن كافافي يجد، إلى جانب المعجبين المتحمسين، شاجبين حاسمين. بل إن البعض يذهب إلى حد نفي الطابع الشعري لقصائد كافافي. وهناك من يأخذ عليه لغته المختلطة وخاصة أسلوبه الشعري والذي غالباً ما تختفي منه القافية.


وفيما يتعلق بالشكوى الأولى، سوف يتذكر القارئ ما قلناه في بداية هذا الفصل، بشأن مسألة اللغة في اليونان. فحتى عام 1885، كانت اللغة الأدبية الوحيدة المستخدمة هي "الكاثارفوسا" أو اللغة الصفائية. على أن هناك عدداً من الشعراء، مثل فالاوريتيس وآخرين، كتبوا بعضاً من أعمالهم باللغة الشعبية (الديموطيقية) لكنهم استخدموا هذه اللغة مثلما يستخدم بعض الشعراء الأجانب لهجة محلية؛ والدليل على ذلك هو أن فالاوريتيس قد كتب مقدمات لجميع أعماله باللغة الصفائية. ومن جهة أخرى، فإنه فيما عدا هذه الاستثناءات – القليلة جداً من جهةٍ أخرى - لأن شعراء عديدين كتبوا قصائدهم نفسها باللغة الصفائية – فإن الكاثارفوسا كانت واسعة الاستخدام. كما استخدمت في اللغة المكتوبة كلمات مختلفة عن الكلمات المستخدمة في اللغة المنطوقة.


بل إن هناك من ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فقد جرى إجبار بعض كلمات الديموطيقية المستخدمة في الكتابة على الخضوع لقواعد الكاثارفوسا. وهو إجبار يطال النحو من ثم. وكما رأينا، فإن البناء المترتب على ذلك إنما يتميز بطابع مصطنع.


ذلك هو ما كان عليه الوضع حتى عام 1885 عندما قام بسيكاري بالثورة الأدبية المتمثلة في الدعوة إلى الكتابة بالديموطيقية. وقد وصفنا بالفعل النجاح الذي أحرزته هذه الحركة. ومما يؤسف له أنه، كما هي الحال في هذه الأنواع من ردود الفعل، جرى قطع شوط أبعد من المأمول. فبما أن الديموطيقية تعوزها الكلمات المناسبة للتعبير عن أفكار معينة فقد جرى أخذ كلمات من اليونانية القديمة ومن لغات أجنبية وجرى الإعراب عن رغبة في إخضاعها لقواعد اللغة الشعبية.


وفي هذه الحالة، فإنه يجري أيضاً ارتكاب ما يؤخذ على أنصار الكاثارفوسا أي الانكباب على عمل نحاة، وهو عمل مفتعل، ويشوه ديموطيقية اللغة المنطوقة التي تستخدم في آن واحد – فيما يتعلق بالأشخاص الحائزين لقدر معين من التعليم على الأقل – أنماطاً لغوية تنتمي على حدٍّ سواء إلى الكاثارفوسا وإلى الديموطيقية.


وقد حاول كافافي على وجه التحديد عدم اقتراف هذا الخطأ، وهو يستخدم في شعره لغة مختلطة تجمع في آن واحد بين اللغة الصفائية واللغة الشعبية وتوجد فيها جنباً إلى جنب أشكال نحوية مستمدة من اللغتين.


على أن الشاعر السكندري قد أراد بشكل خاص استخدام اللغة المنطوقة في شعره. وبما أنه ليس هناك اعتياد بوجه عام على اعتبار هذه اللغة معبرة عن الشعر – ففي النثر ، على سبيل المثال، تستخدمها الصحف – فإن هذا الواقع يسبب صدمة لدى الوهلة الأولى وربما كان ذلك نفسه يشكل أصالة إضافية لشعر كافافي.


لكن النقطة التي تعرض الشاعر بشأنها إلى أقسى نقد، هي تلك المتصلة بأسلوبه الشعري.


إن الانطباع الذي يكونه المرء من قراءة شعره هو أن شعر كافافي شعر حر. والواقع أن هذا بنسبة 50 في المائة. إنه شعر حر أو "شعر متحرر". على أن هذا الشعر يخضع أيضاً لقواعد، والقاعدة الأساسية هي قاعدة الإيقاع الايامبي. فما هي هذه القاعدة؟ إنها تتمثل في أن مقطعاً غير مشدد النطق أو مشدد النطق بطريقة جد خفيفة يتلوه مقطع مشدد النطق بدرجة قوية.


وعندما ترد أربعة أو حتى خمسة مقاطع غير مشددة النطق، فإنها تتلو بطبيعة الحال الإيقاع الايامبي للمقاطع السابقة والتي يبرز فيها الإيقاع الإيامبي.


تلك هي قواعد الإيقاع التي يتبعها كافافي. ويمكن الاعتراض بأن هذه التقنية الشعرية تعتبر رتيبة أحياناً. ويعالج الشاعر ذلك بالترقيم الذي يدخل تنوعاً في الشعر بمساعدته على نقل الشعر من الإيقاع الإيامبي إلى الإيقاع التفعيلي. ويبحث الشاعر أحياناً عن قصائد ترتب فيها أصوات الكلمات بشكل يساعد على إنتاج تناغم محاكٍ للأصوات الطبيعية. لكن هذه القصائد قليلة للغاية.


وفيما يتعلق أخيراً بالمأخذ الموجه إلى كافافي والذي يتمثل في أن القافية غالباً ما تكون غائبة عن قصائده، فإننا لا يجب أن ننسى أن كافافي، كما يشير إلى ذلك الشاعر نفسه، هو شاعر هيليني وأن القافية لم تشكل قط عنصراً ضرورياً في الشعر اليوناني.


وتغيب القافية عن كل ما لدينا من وفرة رائعة مزدهرة من القصائد والأغاني الشعبية (اليونانية). والشيء نفسه حاصل في بعض الآداب الأجنبية. وهكذا فإن القافية ليست عنصراً ضرورياً في الشعر الانجليزي. وإذا كنا نقابلها في الشعر الفرنسي في أغلب الأحيان، فإن بعض الشعراء الفرنسيين الحديثين قد هجروها، دون أن يتذرع النقد الأدبي مع ذلك بهذا لنفي صفة الشعراء عنهم. ثم إن كافافي لا يفهم البتة كيف لا يكون شعره، أو أي شعر آخر، شعراً لمجرد غياب القافية عنه أحياناً.


ذلك هو شعر كافافي في خطوطه العريضة. إن هذا الشعر، الذي يذمه البعض ويعجب به البعض الآخر بحماس، لم يكن له في البداية، كما ذكرنا بالفعل، أي تأثير على الأدب الهيليني الجديد أو على الأدب الأجنبي. لكن هذا الشعر، الذي أصبح معروفاً معرفة أفضل منذ بضع سنوات، قد حاز نجاحاً بالغ الاتساع، إلى درجة أنه لا يكاد يمر شهر، سواءٌ أكان ذلك في اليونان أم في فرنسا، أم في انجلترا، إلا وتنشر قصيدة مكتوبة وفقاً لأسلوب كافافي.(2)


وقد بدا هذا النجاح للبعض جد هائل بحيث إنهم أخذوا يتساءلون عما إذا كان يمكن له أن يكون دائماً وما إذا لم يكن بالإمكان رده إلى موضة عابرة، إلى نزوة. هذا وارد. إلا أنه بما أن كل شيء، في شعر كافافي، يتعارض مع القواعد المقررة، فمن المحتمل لاستثناءٍ، في هذه النقطة أيضاً، أن يؤكد القاعدة العامة. ومن جهة أخرى، فإن الكثير من قصائد كافافي لا تفهم إلا من خلال الصلات التي تربط بعضها بالبعض الآخر.



(1) لا بد من الإشارة إلى اتجاه كافافي مؤخراً إلى العودة إلى الفترة البيزنطية ومن الواضح أن ذلك ليس من أجل وضع أساطيره في سياق هذه الفترة الذي لا يعتبر ملائماً لها، وإنما من أجل وصف هذه الفترة بالطريقة التي يتخيلها بها.
(2) لا بد من الإشارة مع ذلك إلى أنه بالرغم من أن الكثير من هذه القصائد مع كونها كافافية من حيث الشكل فإنها ليست كذلك من حيث الموضوع. ولا يجب أن ننسى ما قلناه عن الإطار الذي يضع كافافي فيه قصائده: الفترة الهيلينستية.

شعرية الهبة

دنيا أبو رشيد



قراءة في إهداءات دواوين أنسي الحاج



ترجمة بشير السباعي

أنسي ودنيا


إلى الأغلى، إلى الأجمل، التي تغمر بالنور قلبي، إلى الملاك، إلى المعبودة السرمدية. (بودلير)

الإهداء تحية يقدم بها كاتب عمله إلى شخص ما، عبر كلمة مطبوعة على رأس العمل. إلا أن هذه التحية يمكن أن يتم التعبير عنها بثلاثة أشكال مختلفة. وأول هذه الأشكال يتمثل في قيام المبدع بتوقيع نسخة من عمله بصفة شخصية، كما يفعل أحد المغنين عندما يهدي شريطه، مصحوبا بتوقيعه، لواحد من المعجبين.. أمٌا الشكل الثاني للتعبير عن الإهداء فهو يتمثل في إخضاع العمل الإبداعي لمقصد مسبق، يحكم تنفيذه، وفي هذه الحالة يندرج العمل الإبداعي في خانة نوع أدبي وشكل خطابي محدد (التحيات، الكلمات القصيرة التي تُلقى في مهرجانات التكريم، المديح وقصائد المناسبات المعروفة جيدا في التراث الشعري العربي) ، لكن الشكل الذي يهمنا هو الشكل الذي يدرج العمل الإبداعي في المجانية الفنية، والذي ينطلق في مجانية الهبة التي تصبح منذ تلك اللحظة احتفالا مطلقا، بما يفتح مجالا للثناء الموجه إلى الفوز بانتباه واهتمام شخص ما _ وليس بعد كمجرد تحية له. ومن ثم يكون الإهداء، كما قال رولان بارت، "حدثا لغويا يرافق كل هدية عشق، فعلية أو منتواة و، بشكل أعم، كل إيماءة، فعلية أو باطنية، تهدي بها الذات شيئا ما إلي المحبوب" .

والإهداء شائع عموما في النصوص التي تحمل العلامة الأكثر وضوحا للإهداء، والتي تتمثل في استخدام أداة الجر: إلى أو حرف الجر: ل. والحال أن أنسي الحاج، في منطقه التقويضيّ المطلق، إنما يدخل أصالة جديرة بالإعجاب في أشكال كتابة الإهداء.


ديوان 'لن'
إلى زوجتي


إهداء الديوان الأول، ديوان فترة الشباب، هو وحده الذي يظل مندرجا في مسار استخدام تقليدي للإهداء: إلى زوجتي. وإنه لأكثر من مدعاة للاستغراب، عندما نعرف الإهداءات الأصيلة المرتبطة بنصوص غنائية كـ ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة، أو كـ الرسولة بشعرها الطويل حتي الينابيع، أن نرصد تقليدية، بل سطحية إهداء الديوان الأول، الأكثر تقويضا في مضمونه وفي لغته.


فهل يعني ذلك أن الشاعر لم يكن قد بلغ بعد نضجه، أو أن هذا الإهداء تحية بالفعل من جانب عاشق أبدي _ ومن العاشق المفتون الذي سوف يكتشفه في نفسه فيما بعد _ لتلك التي اصطفاها في حياته الواقعية، لتلك التي يتعذر العثور عليها في الديوان إن لم يكن خلف قسمات المرأة التي يتواري خلفها:


يُسلمني النوم، ليس للنوم حافة، فأرسم على الفراش طريقة: أفتح نافذة وأطير، اختبي تحت امرأتي.


أو أيضا، خلف قسمات أم ثانية، لكنها لا تقوم مقام الأم الراحلة.


دون أن أزعم الخوض في البعد الخاص بسيرة الشاعر، لا شك أن هذه المرأة هي، بكل بساطة، تلك التي تحملت ورافقت الجنون التدميري لمؤلف ديوان كـ (لن) . فالإهداء المعبر عنه بهذا الشكل (إلى زوجتي)، والمكتوب بخط اليد وليس بحروف الطبع، إنما يصور الشاعر كضحية بالمعنى التضحوي للمصطلح: فشاعر لن، في اللحظة التي يعبر فيها عن إهدائه (حيث يجيء هذا الإهداء، عادة، بمجرد الانتهاء من تأليف العمل) لا يمكن في الواقع إلا أن يكون مستنزَفا من جراء سيرٍ خبطَ عشواء إلى هذا الحد.


الرأس المقطوع
انتفاء الإهداء!


علي سبيل التفسير، يمكن أن نقول إن غياب الإهداء إنما يتماشى عموما مع فترات اعتزال الشاعر. والكلام ينطبق هنا علي الفترة التالية لصدور لن، ذلك أن الثورة المأمولة لم تحدث، على الأقل في الاتجاه وبالمعنى الذي كان الشاعر يصبو إليه: تغيير الحياة!. والقول نفسه ينطبق على الديوان السادس الذي صدر بعد سنوات من الصمت.


بيد أن "القصائد" كما يشير إلي ذلك باول تسيلان الذي لا يرى فارقا بين مصافحة وقصيدة، "إنما تُعد هي أيضا هدايا". ويوضح رولان بارت محقا أن "المرء لا يمكنه مناولة اللغة (إذ كيف يمكن نقلها من يد إلي أخرى؟)، بل يمكنه إهداؤها _ فالآخر إله صغير. والشيء المُهدى إنما يذوب في كلمة النذر الجليلة، المهيبة، في إيماءة الإهداء الشعرية، والهبة تكتسب زخما في الصوت الوحيد الذي يقولها ... ".


ومن ثم يكون إهداء قصيدة بمثابة تقديمها كهدية، منحها ومن ثم منح شيء من ذات مهديها، وهو شيء ثمين. وعندئذ يتم التعويض عن غياب الإهداء بإيماءة تجعل الشعر نفسه نوعا من القربان. وعبر هذه الإيماءة، هناك نوع من توليد الكتابة الشعرية يعبر عن نفسه، بما يجعل من القصيدة موقعا مقدسا حيث تحتفظ القصيدة بعلاقة مؤرقة مع القربان..


وهكذا، فعلى غرار فيرلين الذي يقدم قلبه قرباناً "هاك قلبي!" ، يقدم أنسي الحاج رأسه قرباناً. والإهداء غائب عن الديوان لأن الديوان يتضمن (منذ العنوان) التنازل عن أغلى ما في الكائن، رأسه. ثم إن الشاعر، مقطوع الرأس، إنما يقدم نفسه ممتنعا عن استهلال ديوانه بصيغة من صيغ الإهداء، إذ يبدو أن من المستحيل عليه توجيه إيماءة المنح الخاصة، لأن المنح إنما يؤول بالنسبة له، في مرحلة قطع الرأس هذه، إلى تلطيخ وإثارة رعب وهلع المحبوب (أو القارىء).


ديوان ماضي الأيام الآتية
إليَّ


من الاتجاه إلى أو لذاتٍ أخري غير الشاعر، يتجه الإهداء هنا إلى كاتبه (إليَّ)، بما يشكل ذروة توليد الكتابة الشعرية، ذروة التعبير عن نرجسية أكيدة لدى الشاعر عبر إيروسٍ (بالمعنى الأفلاطوني) محتدم.


فالشاعر، "يستسلم للتراب"، ليس بمعنى اضطراره إلي "معانقة" "الحقائق الواقعية الفظة" (حسب عبارة رامبو) بل بمعنى الاستسلام لما هو جوهري، أي للحياة بألف ولام التعريف. وذلك كما لو أن الشاعر يتبنى كلمات بندار: "آه يا روحي الغالية، لا تطمحي إلى الحياة الخالدة، بل استنفدي حيز الممكن" مع تفاوت طفيف: فحيز الممكن المقصود هنا هو الحب، هو معرفة الجوهر الأنثوي.


والإهداء إلى الذات يتطابق في هذا الديوان مع استبطان يتم القيام به انطلاقا من الدواوين الأولى. وهو يترافق مع تأمل للماضي الشعري في الاتجاه الذي يسائل فيه الديوان الكتابة العنيفة والتقويضية المميزة للديوانين الأولين، بيد أن هذا أيضا عمل عميق يتفحص به الشاعر نفسه، فيجعله يستكشف أغوار كينونته الأعمق ويقود إلى المعرفة النهائية (وهو ما يعيد إلينا صيغة أراجون الشهيرة) والتي سوف تحدد ملامح الدواوين التالية: "وعلمت شيئا: احتلت المرأة مكاناً في المستقبل: سوف تكون الماضي".


والواقع أنه انطلاقا من هذا الاكتشاف إنما يحدث انقلاب التوجه الشعري عند أنسي الحاج. فهو يهدي ديوانه لنفسه لأنه علي حافة التنازل عن كل شيء، حيال المحبوبة، حيال الرقة، حيال الحب. وهو يهدي لذاته كما لو أنه يستجيب لحاجة أساسية، بحسب ريلكه ، قوامها العمل علي الذات قبل أن ترتمي أو أن تنسكب في الآخر بما هي عليه من انعدام للتماسك ونزو وتلعثم وارتباك وتشوش. وإذ يشدد ريلكه على ضرورة توافر وحدة باطنية عظمى لأجل الإبداع، فإنه يشير أيضا إلي الدور المهم الذي يلعبه هذا المجهود الاستبطاني في الحب: "الحب صعب. فالتحاب من كائن بشري نحو كائن بشري آخر، ربما كان أصعب مهمة يمكن أن تفرض علينا، فهو أقصى وأسمى امتحان وبرهان، وهو المجهود الذي ليس من شأن أي مجهود آخر بالنظر إليه أن يكون سوى تمهيد ".


فالحب شاق وفادح. وتيمة المشقة والفداحة محورية لدى ريلكه كما لدى أنسي الحاج. فهي ترتبط بتيمة العمق التي تستدعي" إنسان الأعماق" لدى نيتشه والذي يعد ثقيلاً إلي أبعد حد، و"يسقط بلا توقف، لكي يهبط أخيرا، إلي الأعماق". وفي هذا الصدد يلخص ريلكه على نحوٍ يدعو إلي الإعجاب، السيرورة التي يتحقق بموجبها هذا المجهود الذي يبذله أنسي الحاج كيما يخرج أخيرا من مرحلة السير خبط عشواء ويلج المرحلة الغنائية: "ينبغي أن تكون بالنسبة لنفسك كونا، وأن تكون فداحة مشقتك في مركزك وأن تجتذب هذا المركز. ويوما ما، سوف تمتد قوة جاذبية هذه الفداحة إلى ما هو وراءك، إلي مصير، إلى كائنٍ بشري، إلى الله. وعندئذ، عندما تصل إلى أقصى مدى لها، سوف يدخل الله في مشقتك".


ومن ثم فالعمل على الذات متضَمن برمته في الإهداء إلى الذات. والمصير هو الحب. والكائن البشري هو المرأة. وهذه الأخيرة سوف تقود الشاعر إلى الله في الرسولة بشعرها الطويل حتي الينابيع!


ماذا صنعت بالذهب
ماذا فعلت بالوردة

منكِ


ينعكس انقلاب كتابة أنسي الحاج من ثم أيضا في صيغ الإهداء، فالتوجه الذي اتخذه الشاعر في الديوان الثالث إنما ينبئ بإهداء الديوان الرابع ويشكل دافعا ويقدم تفسيرا لهذا الإهداء.


بل إن الانقلاب إنما يحدث في التقليد المرتبط بالإهداء: فبدلا من إلى أو لـ، ومن ثم بدلا من أن ينبع الشيء المُهدى من الكاتب لكي يذهب إلى شخص آخر، ترسَلُ إليه الهبة، نجد أن أنسي الحاج يقدم التحية إلى المرأة المحبوبة بعزوه النص إليها، وليس بعد بإهدائه إليها: "منكِ".


وأداة الجر "من" يمكن أن تعني المكان الذي يأتي منه المرء (هو آتٍ من بيروت) أو الزمان (من البداية). كما أنها تشير إلى الأصل (هو من بيروت). وهذا يوضح حجم استنتاجات الديوان الثالث المطروحة هنا، فالمرأة هي نبع القصيدة، نبع الكتاب، وهي ليست نبعا بمجرد المعنى الشعري لنبع الإلهام (ليس بهذا المعنى وحده علي الأقل) بل هي النبع بمعناه الرمزي من حيث هو مبدأ وأصل، بل سبب الوجود ومبرر الوجود. كما أنها النبع بمعناه الخاص من حيث هو مكان الارتواء الذي يمتد إليه شعر الرسولة.


وهكذا نجد أن إهداء هذا الديوان الرابع إنما يتميز بشكل حاسم عن الإهداءات السابقة بالاستخدام الأصيل للأداة "من" وإن كان أيضا بكتابته الخطّية علي بياض الصفحة: فخلافا للإهداء السابق الذي كان مكتوبا بحروف الطبع، نجد أن "منكِ" بخط اليد، أي من يد الشاعر مباشرة. وخلافا للديوان الأول الذي كان إهداؤه أيضا مكتوبا بخط اليد لكن بحروف صغيرة الحجم فيها شيء من الخوف والخجل والتقوقع، نجد أن إهداء "منكِ" مكتوب بحروف أكبر وأكثر دائرية وحرارة وانفتاحا وأنوثة وحسية (والقراءة نفسها تنطبق على الإهداء التالي). وهذا يوضح مدي سخاء إيماءة منح النص الذي يرتبط به هذا الإهداء. فقصائد ماذا فعلت بالذهب تعد منذ تلك اللحظة هدايا توضح حضور الشاعر الذي يحتفي بحضور محبوبته فيه. فهو يمنحها ما يدين به لها، أي يعيده إليها. وهو ليس سوى ناقل. لكن ما ينقله إنما يعد فادحا جدا بالنسبة له وحده: وإهداء قصيدة إنما يعني منحها، والحال أن القصيدة من لغة، أي أنها رؤية معينة للعالم يتم التعبير عنها من جانب الشاعر، ووفق توزيع معين. ومن ثم فإن الشاعر إنما يسلم نفسه بالكامل، أي يتمومس، إذا ما اجترأنا على تطبيق تعبير بودلير على هذا العاشق الذي هو، منذ تلك اللحظة، مملوك ولا يملك شيئا في آن واحد.


الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع
مغلوبكِ


"ساعدني / ليكن فيّ جميع الشعراء / لأن الوديعة أكبر من يديّ ".


يبلغ الضنى وسلب اللب والولع أقصى مدى. وإهداء الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع هو عين تجلي الحب من خلال فناء المحب في المحبوبة، وخضوعه لها. وبما يشكل أوجا لشعرية الهبة الحاجية، نجد أن الشاعر يهب أيضا ما يعوزه.


وإذا كانت "منكِ" تعبر عن الاتحاد في الآخر، فإن تعبير "مغلوبكِ" إنما يعد مستلهما من روح الديوان حيث يعلن الرجل إذعانه للرقة. فالشاعر يستسلم أمام سلطة الضعف الذي تمثله المرأة، العظيمة بنعومتها وقدرتها على العفو وخصوصا برقتها ("غلبتني الرّقة"). تلك الرقة جد الغالية في نظر ريلكه الذي يشبهها بالشهد الذي يدخره المرء للمستقبل، "نحن نحلات اللامرئي. نجني بجنون شهد المرئي، كيما نراكمه في قفير اللامرئي الذهبي الشاسع".


هنا نجد مثالا صارخا للهبة المجانية والتي تطالب في الوقت نفسه. فهو إذ يهب كلمات، إنما يطالب بالحب. والحال أننا نعرف إلي أي مدى تعتبر العلاقة باللغة إيروتيكية عند أنسي الحاج. فالقصيدة جد الطويلة هي من هذه الزاوية محاكاة للحب الذي يريد الانصهار، الفناء. والجمل الطويلة، النفس المتواصل، إنما يحاكي الحالة الدائمة _ المشتهاة _ لمتعة الاتحاد بالآخر، متعة احتواء الآخر مثلما تحتوي الجمل الكلمات ومثلما تحتوي الصفحات الجمل ومثلما يحتوي الديوان القصيدة.


إلا أننا لا يجب أن ننخدع، فالنشوة إنما يتم بلوغها بمخاطبة الآخر، بالحلم به. والحال أن الشعر هو من حيث جوهره تعبير عن الغياب، عن الفقد. وبهذا المعنى، فإن القصيدة الممنوحة إنما تظل "في الطريق"، فهي" تتجه صوب شيء مجهول، صوب مكان مفتوح يتوجب حصاره، صوب أنت قابل للمناداة، صوب واقع يتعين استحضاره".


والمرأة في شعر أنسي الحاج نوع من التجريد، فهي الحاضرة _ الغائبة. ومن ثم فإن كل المجهود الشعري إنما يتمثل في تأكيد حضور هذا الغياب، فهو غياب مُشتهى بشكلٍ ما لكي تظل الرغبة مقيمة. ولا شك أن ذلك هو ما يدفع باول تسيلان إلى تشبيه القصيدة بـ "زجاجة ملقاة في البحر، متروكة على أمل أن يتم يوماً ما، في مكان ما، التقاطها على شاطيء، ربما شاطيء القلب". وهذا هو ما يقوله نزار قبانـي (1923­-1997 ) في تصديرٍ لـ "قالت ليَ السمراءُ":


شعري أنا قلبي... ويظلمني
من لا يرى قلبي علي الورق


ديوان "الوليمة"
انتفاء الإهداء


يصدر ديوان الوليمة بعد نحو عشرين عاما من الصمت. وهو ديوان خيبة الأمل، ديوان تهاوي القوى، لكنه أيضا ديوان تسوية الحساب، مع الشعر ومع الشعراء ومع عبثية الوجود. والديوان، الخالي من صيغ الإهداء، إنما يقدم نفسه عبر عنوانه كمثال صارخ على القربان بالمعنى المباشر. فإذا كان الشاعر يستغني عن صياغة إهداء يُقدّم به ديوانه، فما ذلك في واقع الأمر إلا لأنه يقدم نفسه قربانا للقارئ في مأدبة.


فالقصيدة "هبة" مجانية وسخية. والحال أن السخاء إنما يفترض خسارة، إنفاقا لفظيا من جانب من يهب كلاماً، إنفاقاً عاطفياً من جانب من يفضي بحالة روحية، بعاطفة، ويتعرى ويجعل نفسه مهدَّدا ومحل مساءلةٍ، وإنفاقاً مادياً من جانب من يقوم، علي حافة هاويته، بإبعاد موضوع رغبته حتى يشتهيه اشتهاءً أفضل.


والواقع أن الوليمة إنما يقدم تشكيلة معجمية مدوِّخة تدخل في باب الهاوية والخسارة والسقوط والفقد، إذ يقيم المرء وليمة تكريما لشخص ما. وسوف يكون بوسعنا تخمين أن الوليمة إنما تقام هنا تكريما للمحبوبة. والحال أننا نجد في القصيدة قبل الأخيرة، والتي تحمل عنوان المتفرج المجهول (والذي قد يكون القارئ مثلا)، أن أنسي الحاج يفضي بما يلي:


لم أكن أعرف،
أن الوليمة التي دعوت إليها بغباوة ألمي، لعنة ودمار
وأن الوليمة التي دعيت إليها هي روحي وجسدي.


ويظل الشاعر بالرغم من كل شيء جائعا:


جائع، تسمعون جائع وظمآنا، و:


النبع، أكثر حزنا من العطشانة


ومن ثم لا تكفي القصيدة للتجاوب مع رغبة الشاعر في غمر محبوبتة بالهدايا، إذ يعلن الشاعر "في أحد الأيام سيرجع الكون جميلا": "ففي بلادنا أنا وأنت، العاشق لا يهدي حبيبته أقل من حياته"


بيد أن التعبير المأساوي الذي يميز علاقة المحبين عند أنسي الحاج إنما يصل إلي أقصى توهج له في قصيدة يوم بعد المطر على الأخص:


"- ما هو الوعد؟
- ­ يوم بعد المطر.
- ­ ماذا تقطفين؟
- ­البستان والعالم.
- ­ ماذا تتركين له؟
- ­ صوت الصيف ليناموا.
- ­ ما اسمك؟
- ­ اسمي على الشاطئ.
- ­ متي نلتقي؟
- ­في غيابٍ آخر"


ومن الواضح أنه يبقى النظر في تلقي القصيدة. ويعرف أنسي الحاج أن قصائده لن تُغَنَّى كقصائد نزار قباني، الذي جرى تلحين نحو عشرين قصيدة من قصائده عن المرأة، وذلك بفضل شكل القصائد القبانية الغنائي شبه الكلاسيكي، والمكتوبة كشعر حر يعتمد القافية والتفعيلة. وهو يعرف أنها ربما تُقرأ، في صمت. ومع قصيدة يجري تقديمها في صمت، سوف يتجاوب تلق صامت، ومع وحدة الكتابة، سوف تتجاوب وحدة القراءة. وسوف يقول الشاعر في ماضي الأيام الآتية:


"وحدة عرفت،
ووحيدين صنعت"


وهذه الوحدة هي في آن واحد وحدة الخلوة مع النفس والتأمل والتساؤل والتوحد، كما أنها الوحدة التي تسمح، في سواد الليل والحبر، بقيام علاقة القراءة / الكتابة، الإيروتيكية، في الصمت.


"إن علاقة القراءة / الكتابة، سواء أكانت معلنة أم غير معلنة، هي دوما علاقة جنسية". والحال أن أنسي الحاج غالبا ما يعتبر نفسه، في أحاديثه الصحافية، شاعرا إيروتيكيا، أو يوافق، علي أية حال، على أن شعره، في جانب كبير منه، يندرج في مسار الأدب الإيروتيكي، خاصة دو لاكروا، إلا أنه إذا كان هذا الملمح جليا في بعض فقرات الديوانين الأولين، على المستويين المعجمي والنحوي، فإنه لا يكاد يظهر بعد ذلك علي المستوي النحوي. فالقصيدة تتشبث، في الواقع، كما يقول مارسلان بلينيه بصدد نص دوني روش، "بعين موقع التناقض بين المباح به أو غير المباح به"، وذلك لأن دينامية الكتابة / القراءة لا تبوح في الواقع أبدا، أو لا تبوح إلا في مناسبات نادرة، بعلاقتها بالجنس، بالموت، بالرغم من عدم توقفها عن الضرب علي وترها. وربما، على وجه التحديد، عندما يبدو أن على هذه العلاقة أن تكون أكثر وضوحاً (أعني في المروية الأيروتيكية) فإنها تكون أكثر عرضة للنقد _ فالأدب الإيروتيكي يشدِّد لا محالة على الطابع التمثيلي _ الحضوري للعلامة، علي إمكانية ترجمتها، علي فاعليتها كمترجم، بحيث إن التصوير الإيروتيكي التوجه إنما يجد نفسه محكوما بأنه في هذا الموقع، بأكثر مما في أي موقع آخر، وإنما كأساس لهذه الثقافة، تعد العلامة، في تنوع ترجماتها، تعبيرا عن القضيب. فالذات تضفي طابعا إيروتيكيا لا محالة على هذا الغياب المعبر عنه في آخَرها: العلامة.


وفي سياق ما يسميه م. بلينيه بـ "توتر الواقع / الخيال، الذي يجب تمييزه عندئذ بوصفه توتر الواقع / الاستيهام"، نجد أن عناوين القصائد والعناوين المتقابلة إنما تكتسب دورا له الصدارة _ يسمح بالتوحدات فيما بين الذات والعلامة: "الغزو"، "في إثرك"، "فصل في الجلد"، "للدفء"، "فقاعة الأصل أو القصيدة المارقة"، "على ظفرك إلى ضعفي“


ومن ثم فإن عين نشاط القراءة من حيث هي رغبة هو الذي يقود إلى إشباع كتابة هي، دوما ومن حيث الجوهر، معوزة.

السكندري

بونامي دوبريه

قسطنطين كافافي
السكندري

لعل من المخاطرة، لا بل إن من المخاطرة بالفعل، أن يحاول المرء الكتابة عن رجل استناداً إلى التعرف على عددٍ قليلٍ من قصائده، وإلى إجراء عددٍ قليلٍ من الأحاديث معه. لكن ما حفزنا إلى مثل هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر ليس مجرد رغبة في إزجاء تحية سريعة. فما حفزنا إلى ذلك هو إحساس بأن هناك بالتأكيد ما يستحق الكتابة عنه، بالرغم من قلة المادة المتاحة: لقد قابلتُ سكندرياً، بكل ما ينطوي عليه ذلك من معنى.

المعنى، هذه الكلمة مهمة عند التفكير في السيد كافافي، فقصائده كحديثه وحديثه كالإسكندرية والإسكندرية كلها معنى. وهذا واضح بما يكفي من الناحية الظاهرية ذاتها، البحر الأزرق الرائق، البيوت ذات اللون الرملي الصافي، الميناء، محطة السكك الحديدية، لقد بدت دائماً هكذا، أو شيئاً مساوياً لذلك، شيئاً بسيطاً تماماً، ولكن ما الذي لا تعنيه؟ القمح أم القطن أم البيض المكشوف على الأرصفة، أم احتفالات عيد الجلوس الملكي؟ ولكن خلف كل ذلك، تحته، مستتراً في أحجارها وترابها، وإن كان موجوداً مع ذلك بالنسبة لمن يمكنهم السماح له بالتسلل إليهم، يكمن العقل المتسائل عن الأشياء، المتسائل عن الرب، ولكن الميال إلى الشك العميق في نفسه، أو في قيمة الأشياء التي يتوصل إليها منتشياً بالانتصار. ما الذي لا يخطر ببالك عندما تفكر في الإسكندرية؟ إنك لا تفكر فقط في الإسكندر، أو في الولاة الرومان العظام، أو في كليوباترا، أو في عمرو، بل إنك تفكر أيضاً في رياضيات إقليدس، في الشعر وكاليماخوس وثيوكريتوس، في الأفلاطونية الجديدة وأفلوطين وهيباتيا. سكندرياً كان أول من قاس العالم، سكندرياً كان من استنبط اللوغوس (وما أكثر ما ينطوي عليه ذلك من المعاني !)، وبين جنباتها، ضمت الإسكندرية عوام بسطاء مثل فيزيولوغوس، الذي اكتشف أن عادات إحدى الرخويات أو عادات فرس بحري، أو أي كائن آخر، إنما تذكر على نحو مفعم بالحيوية بشخص المسيح، كما ضمت أشخاصاً على درجة قصوى من الرهافة. وقد ضمت بالدرجة الأولى آلافاً مؤلفة من الأساقفة، الذين ابتدعوا كل الهرطقات الرائعة، العرفانية والآريوسية ومذهب وحدة طبيعة المسيح ومذهب وحدة مشيئته، وهناك أقامت هيلين بينما كانت امرأة أخرى جد شبيهة بها محاصرة في طروادة، وهناك قصت ملكة شعرها الذي سبح بعد ذلك في الفضاء ليصبح مجموعة من الكواكب. ولكن ما علاقة ذلك كله بالسيد كافافي؟

ليس من الصعب إدراك الصلة، ففي إحدى قصائده المنشورة بالإنجليزية، يناشد السيد كافافي شاعراً أن يكتب أبياتاً قليلة عن شاعرٍ آخر مات لتوه، وهو يقول له:
رافاييل،
اكتب أبياتك بحيث يكون فيها،
تدري،
شيءٌ من حياتنا،
بحيث يكشف الإيقاع وكل جملة
أن سكندرياً يكتب عن سكندري

وهو، علاوة على ذلك، سكندري مات في عام 610. وسرعان ما تدرك أن السيد كافافي هو أيضاً سكندري، ليس سكندرياً معاصراً فقط (فلا أحد يشك في حداثته) بل إنه سكندريٌ ينتمي إلى الإسكندرية القديمة، المركبة، جد المرهفة، وربما المتحضرة أكثر من اللازم. إنه، من الناحية الظاهرية، يبدو بسيطاً كالبحر الأزرق الرائق أو محطة السكك الحديدية، وقصائده تتحدث عن شاهدة قبر أو حفل تتويج أو عن إنسان من المفترض أنه ميت، لكنه يختبر القيم دائماً، قيم الموضوعي وقيم الذاتي، القيمة الذاتية للموضوعي. وهو إلى بهجة ثيوكريتوس يضيف ريبية لوكيانوس، الذي يجد غراماً في الاستشهاد به. كما أنه سكندري يكتب للسكندريين، ولذا فإنه سوف يلجأ إلى التلميح لا إلى التصريح، وهو على يقين من أشياء متناقضة كثيرة، لكنه لا يتمسك بهذا اليقين في الوقت الواحد إلاَّ فيما يتعلق بشيءٍ واحدٍ من هذه الأشياء. ولذا فإنه يدعو أنطونيو إلى التحلي بالشجاعة عندما يسمع في منتصف الليل موسيقى الرب الذي يتخلى عنه:

اقتَرِب من النافذة ثابت الجنان
وانصت وأنت مفعمٌ بالعاطفة الجياشة
لا بتوسلات وضراعات الجبان
(آه، ياللغبطة السامية!)
انصت إلى النغمات،
إلى الآلات الموسيقية الرائعة للجوقة الخفية، وودعها،
ودع الإسكندرية التي تفقدها.

أو أنه يرى قيمة الحذر، كما في حالة أحد الوثنيين القلائل الذين كانوا لايزالون هناك:

في العلن كان يتظاهر بأنه مسيحي
وكان يذهب إلى الكنيسة
فقد كان ذلك هو زمن حكم جوستين العجوز
المستند إلى إفراط في التقوى:
وكانت الإسكندرية،
المدينة الخائفة من الرب،
تمقت الوثنيين المكروهين.

فما دام العقل يحتفظ برجاحته، فإن الإهاب الذي يرتدي ثياباً يمكن أن يتصرف كما يجب. وهكذا، فمع أن قصائده قد تبدو بسيطة، فإن في داخلها دائماً شيءٌ مُرَكَّبٌ إلى حدٍ بعيد، شيءٌ معقد تَعَقُّدَ مدينته، التي لا يبرحها أبداً. إنه شبيهٌ بشاهدة القبر التي كتب عنها، والتي لا يمكنه أن يفك مما كُتب عليها من كلمات غير كلماتٍ قليلة، بينما تبقى بقية الكلمات موضوعاً لفعاليات التخيل. لكنه، بطبيعة الحال، يترك هذه البقية لفعاليات تخيلٍ مرهفٍ ولا ينسى تزويد هذه الفعاليات بشارة هادية بارعة.

وبما أنني أجهل "الديموطيقية المعتدلة" التي يكتب بها، فإنني لا أستطيع الحديث عن لغة قصائده. ولا مفر بالطبع من أن تفقد شيئاً في الترجمة، حتى عندما يقوم بها على نحوٍ رائع مترجم كالسيد ج. فالاسوبولو. ولكن حتى مع بساطة أسلوبها الواضحة فإنها تشهد على أصالة عميقة. إنها لا تذهلك بأنها بسيطة، فقصائد السيد كافافي لا تذهلك. بل تتسرب برقة إلى نفسك، دون ادعاء، لكن بثقة ودون أن تواجه مقاومة بالمرة. إنها كحديثه من حيث إنها تبدو وكأنها تدور عن شتى أنواع الأمور. وهو قد يتحدث عن ترام الإسكندرية أو عن البطالمة أو عن استعمال كلمة ما في إنجليزية القرن السابع عشر: فنادراً ما يعرف المرء عن أي شيءٍ تحدث مع السيد كافافي. وطبيعي أن القصائد أكثر تركيزاً، فمن المؤكد أنها أعمال فنية، لا حياة، وهي تنفذ إلى صميم الأشياء، متخليةً عن تشعبات وتفرعات الحديث، لكنك في كل من حديثه وقصائده تحس أنك لا تناقش بالفعل الموضوع الظاهري بل الشيء الذي ينطوي عليه ذلك الموضوع، سواءٌ أكان ذلك الموضوع هو الترام أم تتويج قيصرون، فهذه الموضوعات ليست غير رموز لشيء آخر. وهكذا فإن كلاً من حديثه وقصائده يخلف لديك نكهة ما، شيئاً لم تصادفه قط من قبل، صوتاً معلقاً في الهواء، جملة تتدفق في الوعي، مع ما يصاحب كل ذلك من إحساس بشيء قديم إلى درجة لا تصدق وإن كان يظل مع ذلك فتياً، بشيء جرت معايشته على نطاق واسع وإن كان حياً بشكل متدفق، بشيء سخي لكنه لا يعرف المساومة، بشيء عليم بالإنسانية يجعلك تشعر بالإمتنان لواقع أنه مع أن السيد كافافي قد يكون سكندرياً يكتب للسكندريين، فإنه أيضاً شاعر يمكنه التحدث، أحياناً، للأغراب.

"لا سومين إيجيبسيان الفرانكوفونية اليونانية المصرية"
25 أبريل 1929
ترجمة بشير السباعي

في عِزِّ النهار

قسطنطين كافافي

كنت جالساً ذات مساء بعد العشاء في كازينو سان ستيفانو بالرمل. وكان صاحبي ألكسندر أ.، الذي أقام في الكازينو، قد دعاني وشاباً آخر، صديقاً لكلينا، إلى تناول العشاء معه. ولما لم تكن الأمسية أمسية موسيقية، فقد كان الرواد جد قليلين، وهكذا أصبح المكان خالياً لثلاثتنا.
تحدثنا عن أشياء متباينة. وبما أن أياً منا لم يكن ثرياً جداً، فقد تحول الحديث بشكل طبيعي بما يكفي إلى المال، إلى الاستقلال والمسرات التالية التي تترتب عليه.
قال صديقنا الشاب إنه يود لو كان معه ثلاثة ملايين من الفرنكات وأخذ يصف ما سوف يفعله، وخاصة ما سوف يكف عن فعله، لو توفر لديه مثل هذا المبلغ الضخم.
أمَّا أنافقد رأيت، بشكلٍ أكثر اعتدالاً، أن بوسعي القناعة بعشرين ألف فرنك في السنة.
عندئذ قال ألكسندر أ. : "لو كنت قد شئت، لأصبحت اليوم مليارديراً – لكنني لم أجرؤ".
أحسسنا أن هذا كلامٌ غريب. فقد كنا نعرف حياة صاحبنا أ جيداً، ولم يكن بوسعنا أن نتذكر أنه قد أتيحت له في أي وقت من الأوقات فرصة لكي يصبح مليارديراً. ولذا فقد تصورنا أنه كان يستخف بنا، وأنه سوف يُثَنِّي بنكتة. لكن وجه صاحبنا كان ممتقعاً، فطلبنا إليه أن يوضح كلامه الغامض.

تردد للحظة – ثم قال: "في صحبةٍ أخرى – لو كنت وسط أناس يسمون أنفسهم "متطورين" مثلاً – لما أوضحت كلامي، لأنهم سوف يسخرون مني ويهزءون بي. لكننا نعتبر أنفسنا أرقى قليلاً من هؤلاء الناس "المتطورين" المزعومين. أعني أن تطورنا الروحي الكامل قد ردنا إلى البساطة مرة أخرى، لكنها بساطة دون جهل. لقد أكملنا دورتنا. وعدنا من ثم، بالطبع، إلى نقطة انطلاقنا. لكن الآخرين لم يتجاوزوا منتصف الطريق. وليس بوسعهم أن يعرفوا أو أن يتخيلوا إلى أين تفضي بهم السبل".
لم يذهلنا البتة هذا الكلام. فكل واحد منا كانت فكرته سامية عن نفسه وعن الإثنين الآخرين أيضاً.
كرر ألكسندر: "أجل، لو كنت قد جرؤت، لأصبحت مليارديراً – لكنني كنت خائفاً.

"ترجع الحكاية إلى عشر سنوات خلت. لم أكن أملك مالاً كثيراً – فحالي بالأمس كحالي اليوم – أو بالأحرى لم أكن أملك مالاً بالمرة؛ على أنني، بشكل أو بآخر، كنت أشق طريقي وأواصل العيش بشكل معقول بما يكفي عموماً. كنت أقيم بشارع شريف باشا. وكان البيت يخص أرملة إيطالية. كانت شقتي تتألف من ثلاث غرف مؤثثة بأثاث جميل، وكانت عندي خادمة، ناهيك عن صاحبة العقار التي كانت مستعدة لعمل أي شيء من أجل راحتي وهنائي.

"كنت قد ذهبت ذات مساء إلى روسيني. ولما كنت قد سمعت هناك ما يكفي من الهراء، فقد قررت مغادرة المكان والعودة إلى البيت لأنام. كان عليّ أن أستيقظ مبكراً في الصباح التالي، لأنني كنت مدعواً إلى رحلة إلى أبو قير.
"عندما دخلت غرفتي، رحت كالعادة أتحرك فيها، مستعيداً أحداث اليوم. لكنها لم تكن مهمة، وسرعان ما استولى عليَّ الخدر، فرقدت مستسلماً للنوم.

"لابد أنني نمتُ ساعة ونصفاً أو ساعتين دون حلم، إذ أذكر أنني استيقظتُ ربما بعد ساعة من منتصف الليل بسبب جلبة في الشارع، وبوسعي أن أتذكر أنني لم أحلم. استلقيت للنوم مرة أخرى نحو الواحدة والنصف، وبدا لي عندئذ أن رجلاً قد دخل غرفتي – متوسط القامة، في نحو الأربعين من عمره. كان يرتدي نوعاً ما ثياباً سوداء وقبعة من القش. وقد بان من يده اليسرى خاتم تزينه زمردة جد كبيرة. صدمني ذلك لكونه لا يتماشى مع بقية ملابسه. كانت له لحية سوداء تتخللها شعرات بيضاء، وكان في نظرته شيء خاص، فهي نظرة ساخرة وسوداوية في آن واحد. لكنه بشكل عام، كان يبدو شخصاً عادياً تماماً، كأي واحد نصادفه مراراً وتكراراً. سألته ماذا يريد مني. لم يجب على الفور، بل رمقني بنظرة فاحصة لدقيقة طويلة كما لو كان مرتاباً، أو كما لو كان لكي يتأكد من أنه لم يخطئ ضالته. ثم تكلم بنبرة، متوسلة، ذليلة:
" " أنت فقير. أعرف ذلك. ولذلك جئت إليك لكي أدلك على طريق يمكن أن تصبح عبره ثرياً. أعرف موضعاً قرب عمود السواري يرقد مدفوناً تحته كنز ضخم. لا أريد شيئاً من هذا الكنز لنفسي – سآخذ صندوقاً صغيراً من الحديد، يوجد أسفل الكنز. وما عدا ذلك، كل ذلك الكنز، سوف يكون من نصيبك".
"سألته: "ومم يتكون هذا الكنز الضخم؟"
"قال: "من عملات ذهبية، لكنه يتكون أساساً من أحجار كريمة. هناك عشرة أو اثني عشر حُقاً ذهبياً تمتلئ كلها بالماس واللؤلؤ وأظن " – كما لو كان يحاول التذكر – " أن بها ياقوتاً أزرق".

"عجبت لماذا لم يذهب وحده لأخذ ما يريد، ولماذا يحتاجني. وقبل أن يتسنى لي طرح السؤال أجاب: "بوسعي رؤية ما يجول بخاطرك. أنت تتساءل، لماذا لا أذهب أنا وآخذ ما أريده بنفسي؟ هناك سبب لا يمكنني ذكره لك، ويمنعني من عمل ذلك. بعض الأشياء لا يمكنني القيام بها حتى أنا نفسي". عندما قال "حتى أنا نفسي"، أشرق شيءٌ من اللمعان من نظرته، ولثانية قلب كيانَه شعورٌ بالعظمة المريعة. لكنه استعاد على الفور مسلكه المتواضع. "هكذا سوف تسدي لي معروفاً جليلاً بالمجيء معي. فأنا بحاجةٍ ماسة إلى أحدٍ ما، وقد اخترتك لأنني أتمنى لك الخير. قابلني غداً. سوف أنتظرك منذ الظهيرة حتى الرابعة بعد الظهر، في الميدان الصغير، في القهوة المتاخمة لدكاكين الحدادين".
"وما إن قال ذلك اختفى.

"وعندما استيقظت في الصباح التالي، كان الحلم قد تلاشى تماماً من ذهني. لكنه بعد أن غسلت وجهي وجلست لتناول طعام الإفطار، عاد، وبدا لي غريباً تماماً. قلت لنفسي "آه لو كان ذلك صحيحاً"، ثم نسيته مرة أخرى.
"انضممتُ إلى الرحلة إلى الريف وقضيت وقتاً جد ممتع. كنا مجموعة كبيرة – نحو ثلاثين رجلاً وامرأة، كانوا كلهم في حالة معنوية مرتفعة بشكل غير عادي. لن أروي لكما تفصيلات الرحلة، فهي لا تتصل بموضوعنا".
هنا قال صديقي د. : "ولا ضرورة لها. لأنني أنا على الأقل أعرفها. فقد اشتركت في تلك الرحلة، إن لم أكن مخطئاً".
"هل كنتَ معنا؟ لا أذكر أنك قد جئت".
"ألم تكن تلك هي الرحلة التي أعد لها ماركوس ج. ، قبل رحيله النهائي مباشرة إلى انجلترا؟"
"بلى، تلك هي. تتذكر إذاً مزاحنا. لقد كانت أزمنةً رائعة. أو بالأحرى، أزمنة ولت منذ زمن بعيد. والأمر سيان. ولكن لنعد إلى حكايتي – عدت من رحلتنا مجهداً تماماً وفي وقتٍ جد متأخرٍ من المساء. كان من الصعب عليَّ أن أجد متسعاً لأغير ملابسي ولأتناول العشاء، قبل أن أتجه إلى منزل بعض الأصدقاء حيث كانت أمسية عائلية للعب الورق على قدم وساق، حيث بقيت، مواصلاً اللعب حتى الثانية والنصف ليلاً. ربحت ليلتها مائة وخمسين فرنكاً وعدت إلى البيت، أكثر من مسرور. وتمددت على فراشي مرتاح القلب ثم استولى عليَّ النومُ فوراً، إذ كنت مُجهَداً جراء يوم طويل حافل.

"لكنني ما كدت أنام حتى حدث شيء غريب. رأيتُ نوراً في الغرفة، وعجبت لماذا لم أطفئه قبل الذهاب إلى الفراش، وعندئذ رأيت قادماً من عمق الباب – كانت غرفتي جد واسعة – رجلاً تعرفت عليه فوراً. كان يرتدي الملابس السوداء نفسها، وقبعة القش العتيقة نفسها. لكنه بدا مستاءً، وقال لي: "انتظرتك منذ الظهيرة وحتى الرابعة في القهوة. لماذا لم تأتِ؟ أدلك على سبيل الثراء، ولا تقفز إليه؟ سأنتظرك مرة أخرى في القهوة بعد ظهر اليوم، من الظهيرة إلى الرابعة. لا تتأخر عن المجيء". وعندئذٍ، كما في الليلة السابقة، اختفى.

"لكنني هذه المرة استيقظت وقد استولى عليَّ الرعب. كانت الغرفة مظلمة. أضأت اللمبة. كان الحلم حقيقياً وحَياًّ إلى حدٍ مثير، بحيث إنني وجدت نفسي معه في حالة من الذهول والهلع. لم يكن بوسعي مقاومة النهوض للتأكد من أن الباب كان مغلقاً. فوجدته مغلقاً، كالعادة. نظرت إلى الساعة، كانت الثالثة ونصفاً، وكنت قد ذهبت إلى الفراش في الثالثة.

"لا أخفي عليكما، ولا أخجل البتة من الاعتراف بأنني كنت مرتاعاً جداً. لقد خفت أن أغمض عينيَّ حتى لا أرى مرةً أخرى زائري الخيالي، إن استولى عليَّ النوم. جلست على مقعد، وكل أعصابي مستثارة. ونحو الخامسة، بدأ النهار يطلع. فتحتُ النافذة وراقبتُ الشارع وهو يستيقظ تدريجياً. كانت أبواب قليلة قد فُتحت، وكان أوائل بائعي اللبن القلائل يمرون، وكانت تمر عربات أوائل بائعي الخبز. أدخل ضوء النهار السكينة إلى نفسي نوعاً ما، وتمددت على الفراش مرة أخرى، ونمتُ حتى التاسعة.

"عندما استيقظت، وتذكرت الأرق الذي انتابني خلال الليل، أخذت صورهُ تفقد الكثير من قوتها. بل إنني قد تعجبت لاستسلامي لمكابدات تلك الحالة. فكل إنسان يحلم بالكوابيس – وقد حلمت بكثيرٍ منها في حياتي. ثم إن هذا الحلم يصعب أن يكون كابوساً على الإطلاق. صحيح أنني قد حلمت الحلم نفسه مرتين. فعلى أي شيء يدل ذلك؟ وبادئ ذي بدء، هل حلمته مرتين فعلاً ؟ أليس من المحتمل أنني حلمت أنني رأيت الرجل نفسه مرة ثانية ؟ وبعد أن راجعت ذاكرتي جيداً، استبعدت هذه الفكرة. لاشك في أنني حلمت بالحلم قبل ذلك بليلتين. وحتى لو كان الأمر كذلك، فلماذا يجب أن أعتبر ذلك غريباً؟ يبدو أن الحلم الأول كان جد قوي، وأن أثره عليّ كان من القوة بحيث إنني قد حلمته مرة أخرى. لكن منطقي، هنا، كان هشاً إلى حدٍ ما. لأنني لا أذكر أن الحلم الأول قد أثر عليّ بهذه الدرجة. فعلى مدار اليوم التالي له، لم أفكر فيه للحظة. وفي الرحلة، وفي لقاء ذلك المساء، مر بخاطري كل شيءٍ يمكن تخيله، إلاَّ ذلك الحلم. فما الذي يدل عليه ذلك أيضاً ؟ ألا نحلم كثيراً بأشخاصٍ لم نرهم ولم نفكر فيهم لسنواتٍ طويلة ؟ يبدو أن صورتهم تظل منقوشة في مكانٍ ما داخل الروح، لتعاود الظهور فجأة في حلم. فما الغرابة في أن أحلم الحلم نفسه خلال أربع وعشرين ساعة، حتى وإن لم أكن قد تذكرته خلال النهار ؟ ثم قلت لنفسي لعلني قرأت في مكان ما عن كنزٍ مستتر، شغل ذاكرتي؛ لكن أي إمعانٍ في التأمل لم يذكرني بأنني قرأت أي شيءعن ذلك.

"أخيراً، إذ أرهقني التفكير، أخذت في ارتداء ملابسي. كان عليَّ أن أحضر عرساً، وسرعان ما أدت عجلتي ومسألة أي ثياب ألبس إلى إبعاد الحلم كليةً عن ذهني. عندئذ جلست لتناول طعام الإفطار، و، لتمضية الوقت، انهمكت في قراءة دورية صادرة في ألمانيا، أظن أنها دورية هيسبيروس.

"ذهبت إلى العرس، حيث التقيت كل شخصيات المجتمع الراقي الموجودة في المدينة. في تلك الأيام، كانت لي صلات كثيرة، ولذا كنت مضطراً، بعد الحفل، إلى أن أكرر مراتٍ لا حصر لها أن العروس جميلة، ولو أنها شاحبة إلى حدٍ ما، وأن العريس شاب وسيم، كما أنه ثري، وما إلى ذلك. ونحو الحادية عشرة ونصفاً، كان الحفل قد انتهى، فخرجت إلى محطة بولكلي لأتفقد بيتاً كنت قد سمعت عنه، لاحتمال استئجاره لأسرة ألمانية من القاهرة، كانت تعتزم قضاء الصيف في الإسكندرية. والواقع أن البيت كان يتمتع بحسن التهوية وكان رائع التنسيق، لكنه كان أصغر مما قيل لي. ومع ذلك، وعدتُ المالكة بأن أقول إنه مناسب. وبعد أن أغدقت عليّ هذه السيدةُ الشكرَ، وأملاً في أن تكسب تعاطفي معها، أخذت تحدثني عن كل عذاباتها، وكيف ومتى مات المرحوم زوجها، بل وكيف أنها زارت أوروبا وأنها ليست أصلاً ذلك النوع من النساء اللاتي يؤجرن بيوتهن، وأن والدها كان طبيباً خاصاً لباشا لا أذكر الآن اسمه، إلخ، إلخ. وبعد أن أديت هذه المهمة، عدت إلى المدينة. وصلت إلى شقتي حوالي الواحدة وتناولت غداءً طيباً. وبعد أن تناولت القهوة، خرجت لزيارة صديق كان نزله قريباً من قهوة باراديزو، آملاً أن نرتب شيئاً للمساء. كان ذلك في شهر أغسطس، وكانت الشمس حارقة. هبطت إلى شارع شريف باشا ببطء لأتفادى رشح العرق. وكما هو معتاد في مثل هذا الوقت، كان الشارع مهجوراً. لم أقابل غير محام طلبت إليه إعداد الوثائق المتصلة ببيع قطعة أرض صغيرة في محرم بك. كانت القطعة الأخيرة من أرضٍ كبيرةٍ تماماً كنت أبيعها قطعةً قطعة على فترات لكي أغطي جانباً من نفقاتي. والحال أن المحامي، وهو رجل نزيه – وهذا مبرر اختياري له – كان أيضاً ثرثاراً عظيماً. وكان الأفضل عندي أن يحتال عليّ قليلاً من أن يدفعني إلى الضجر إلى حد الخروج عن طوري بسبب هرائه. لقد كان يتذرع بأتفه الذرائع لكي ينطلق في ثرثرة لا تنتهي – فهو يتحدث عن القانون التجاري والقانون الروماني ويستدعي جوستنيان ويستشهد بقضايا قديمة كان قد ترافع فيها في أزمير، ويمتدح نفسه، ويكشف النقاب عن آلاف التوافه، بل ويمسك بطية صدر سترتك، وهو شيء لا يمكنني تحمله. وكان عليّ أن أصبر على ثرثرة هذا الأحمق لأنه كلما كانت قدرته على الكلام تخونه، كان بوسعي أن أطرح سؤالاً عن الصفقة التي كنت في أمس الحاجة إليها. وقد أخرجتني هذه المحاولات عن طوري، لكنني تحملته. وبعد السير على رصيف البورصة في ساحة القناصل، دخلنا إلى الشارع الصغير، المتصل بالميدان الصغير، حيث، حال وصولنا إلى مركزه أخيراً، كنت قد حصلت على كل المعلومات التي تهمني، ثم تركني المحامي ما إن تذكر عميلاً قريباً كان عليه أن يزوره. وقفت لحظة أراقبه وهو ينسحب، ولعنت هراءه الذي ضلل خطواتي في مثل هذه الحرارة والشمس الحارقة.
"كنت على وشك أن أعود في اتجاه قهوة باراديزو. عندما زلزلني فجأة أن أجد نفسي هنا في الميدان الصغير. قلت لنفسي "هنا حدَّدَ موعدَ لقائِنا صاحبُ الكنزِ الشهير" ، وابتسمت وأدرت رأسي تلقائياً إلى تلك الوجهة حيث توجد دكاكين الحدادين.

"ياللهول! لقد كانت هناك بالفعل قهوة صغيرة، وكان هو جالساً هناك بالفعل. كان رد فعلي الأول نوعاً من الدوار، وقد أحسست أنني على وشك السقوط. استندت إلى كشك تاجر، وعاودت النظر. إنها الثياب السوداء نفسها، والقبعة القش نفسها، والملامح نفسها، والنظرة نفسها. أما هو، فقد كان يراقبني، دون أن يطرف له رمش. توترت أعصابي كما لو أن توترها ناشيء عن نقل حديد سائل إليها. أصابني بالشلل خاطر أننا في عز الظهيرة – أن الناس يواصلون السير غير عابئين بشيء، كما لو أن شيئاً غير عادي لا وجود له، بينما أنا، أنا وحدي، أعرف أن أكثر الأشياء إثارةً للرعب ماثل: أنه يجلس هناك شبح يملك ما لا أحد يدري من القدرات ويجيء من أي عالم لا نعرف عنه شيئاً، من أي جحيم، من أي ظلام سحيق. رحت أرتعد. لم تحد قط نظرةُ الشبح عني. فاستولى عليَّ الرعب من أن ينهض من مكانه ويدنو مني – ويتحدَّث إليّ – ويأخذني معه! فلو حدث ذلك، ما العون الذي يمكن أن تقدمه لي أية قوة بشرية؟ قفزت في عربة حنطور، طالباً من الحوذي أن يسرع بي إلى ناحية نائية لا أتذكرها الآن.

"وعندما تمالكت نفسي قليلاً، انتبهت إلى أننا قد وصلنا تقريباً إلى سيدي جابر. وإذ أصبحت أكثر هدوءاً، بدأتُ في تأمل ما جرى. طلبت من الحوذي أن يرجع بنا إلى المدينة. قلت لنفسي "إنني مجنون، لقد خدعت نفسي. لقد كان شخصاً شبيهاً بالرجل الذي رأيته في الحلم. يجب أن أرجع لأتأكد من ذلك. والأرجح أنه سيكون قد غادر المكان، وهو ما سوف يثبت أنه ليس الرجل نفسه – لأنه كان قد وعد بأن ينتظر حتى الرابعة".

"عندما اكتملت هذه الأفكار في رأسي، كنتُ قد وصلت إلى مسرح زيزينيا؛ وهنا، مستجمعاً كل شجاعتي، طلبت من الحوذي أن يتوقف، شاداً يده بعنف بحيث إنه كان على وشك السقوط عن مقعده، فقد كنا نقترب جداً – جداً – من القهوة؛ ولأنه كان هناك، هناك كان الشبح جالساً لا يزال.

"قررت أن أفحصه بإمعان نظر، آملاً في أن أجد اختلافاً ما بينه وبين الرجل الذي رأيته في الحلم، وكأن هناك حاجة إلى برهان أكثر من واقع جلوسي في عربة حنطور وتحديقي فيه بنظرة تخترق صميمه بحيث إن أي شخص سواه كان من الطبيعي أن يعتبر ذلك شيئاً غريباً وأن يسأل عن سببه. وهو مالم يحدث بالمرة، فقد رد على نظرتي بنظرةٍ نافذةٍ مثلها، وكان تعبير وجهه يدل تماماً على أن الخيار الذي يواجهني يستبد بفكره. وبدا أنه يقرأ أفكاري، مثلما قرأها في حلمي، ولكي يريحني من أي شكٍ حول شخصه، حول يده اليسرى نحوي كاشفاً – بشكل جد ملحوظ بحيث إنني خشيت أن يلحظ ذلك الحوذي – عن خاتم الزمرد الذي كان قد صدمني به في حلمي الأول.

"صرخت رعباً وطلبت إلى الحوذي، الذي كان آنذاك قد أصبح قلقاً على صحة زبونه، أن يأخذني إلى ميدان الرمل. كان هدفي الوحيد هو الابتعاد بعيداً جداً. وعندما وصلنا إلى ميدان الرمل طلبت إليه أن يتجه إلى سان ستيفانو، ولكنني عندما رأيت الحوذي متردداً، يكلم نفسه، نزلت من العربة ودفعت له أجرته. أوقفت عربة أخرى وطلبت إلى حوذيها أن يتجه بي إلى سان ستيفانو.

"وصلت في حالة مريعة. وعندما دخلت قاعة الكازينو الرئيسية، هالني منظر وجهي في المرآة – لقد كان شاحباً شحوب جثة. ومن حسن الحظ أن القاعة كانت خالية. ارتميت على كنبة وحاولت التفكير في خطوتي التالية. كانت العودة إلى البيت مستحيلة. فمن غير الوارد أن أعاود الدخول إلى تلك الغرفة التي تسلل إليها، ليلاً، كخيالٍ غيبيٍ، ذلك الذي رأيته الآن لتوي جالساً في قهوة عادية تحت مظهر إنسان عادي. لكن هذا منطق فاسد من جانبي، لأنه، بطبيعة الحال، يملك القدرة على أن يصل إليَّ في أي مكان على الأرض. لكنني ساعتها كنت لوقت معين فاقداً رشدي.
"وبعد لأي قررت العثور على صاحبي ج. ف. في محرم بك".
سألتُ: " أي ج. ف. ؟ غريب الأطوار الذي اعتاد قضاء وقته في دراسة السحر؟"
"هو بعينه – وقد لعب ذلك دوراً في اختياري له. أما كيف ركبت القطار، كيف وصلت إلى محرم بك، متلفتاً يميناً ويساراً كمجنون في رعب من أن يظهر لي الشبح مرة أخرى إلى جواري، وكيف وصلت إلى غرفة ج. ف. ، كل هذا لا يمكنني تذكره إلاَّ بشكلٍ غائم ومشوش. كل ما أذكره هو أنني وقد وجدت نفسي معه أخيراً أخذت أبكي بشكلٍ هستيري، مرتعداً من قمة رأسي إلى أخمص قدمي، وأنا أحكي له محنتي المريعة. تمكن ج. ف. من تهدئتي، وقال لي، شبه جاد، شبه مازح، ألاَّ أخاف؛ وأن الشبح لن يجرؤ أبداً على دخول بيته، وأنه لو دخل، فسوف يطرده فوراً. قال إنه يعرف هذا النوع من الأشباح الغيبية، كما أنه يعرف سبل طردها. ثم توسل إليَّ أن أصدق أنني لم يعد لديَّ أيّ مبرر للخوف، لأن الشبح كان قد جاء إليَّ من أجل هدف محدد، هو الحصول على "الصندوق الحديدي الصغير"، والذي يبدو أنه كان عاجزاً عن تحقيقه دون وجودِ ومساعدةِ إنسان. وقد فشلت هذه الخطة؛ ولابد أن الشبح قد أدرك الآن، من هلعي، أنه لم يعد أمامه أي أملٍ في النجاح. ولاشك في أنه سوف يحاول إقناع شخص آخر. وكل ما أعرب ف. عن أسفه بشأنه هو عدم اتصالي به في الوقت المناسب حتى يتسنى له الذهاب ورؤية الشبح والتحدث معه، لأنه، كما أوضح، تَرِدُ إشارةٌ في كتاب تاريخ الأشباح إلى أن ظهور هذه الأرواح أو الشياطين في عزِّ النهار غير عادي إلى حد بعيد. لكن كل هذا الكلام لم يفلح في تهدئة خاطري. قضيت ليلة جد قلقة واستيقظت في الصباح التالي مصاباً بالحمى. والحال أن جهل الطبيب وتوتر جهازي العصبي قد تسببا في إصابتي بحمى دماغية، كنت على وشك الموت بسببها. وعندما تماثلت للشفاء إلى حدٍ ما، سألت عن تاريخ اليوم. كنت قد رقدت على فراش المرض في الثالث من أغسطس، وتصورت أننا في السابع أو الثامن منه. لكنه كان الثاني من سبتمبر.

"لكن رحلة قصيرة إلى جزيرة في بحر إيجه، عجلت وأكملت شفائي. قضيت فترة مرضي كلها عند ف. الذي اعتنى بي بكل ما تعرفانه عنه من لطف ورقة. كان مستاءً من نفسه لأنه لم يكن لديه من قوة الشخصية ما يكفي لأن يطرد الطبيب، ولأن يتولى معالجتي بالسحر وحده، الذي أعتقدُ أنه كان بوسعه أن يشفيني، في هذه الحالة على الأقل، بالسرعة نفسها التي شفيت بها على يد الطبيب.
"هاكما، صديقاي : فرصتي في أن أصبح مليونيراً – وكل ما في الأمر هو أنني لم أجرؤ. لم أجرؤ ولست نادماً على ذلك".
هنا توقف ألكسندر عن الكلام. كانت الثقة التامة والبساطة التامة اللتان روى بهما ما حدث له كافيتين لاستبعاد أي تعليق قد يعنُّ لنا. ثم إن الساعة كانت سبعًا وعشرين دقيقة بعد منتصف الليل. وبما أن القطار الأخير المتجه إلى المدينة يتحرك في الثانية عشرة ونصفاً، فقد كنا مضطرين إلى توديعه والخروج مهرولين إلى الشارع.


ترجمة بشير السباعي عن الإنجليزية

معركة موتسارت الأخيرة

ديفيد بيتشام

المؤلفون الموسيقيون الكلاسيكيون العظماء هم الأبطال الثقافيون للميثولوجيا البورجوازية. فبانعزالهم عن المجتمع، تلمع عبقريتهم الفردية، رمزاً للفكرة القائلة بأن التاريخ هو ببساطة من عمل العظماء.



والنص الكلاسيكي المستخدم للتعبير عن ذلك هو رسالة من بيتهوفن إلى إخوته عن ضعف قدرته على السمع: "لا يمكن لي أن أجد ارتياحاً في المجتمع الإنساني.. ويجب عليّ أن أحيا بمفردي تماماً وقد لا أرجع إلى المجتمع إلاَّ بالقدر الذي تقتضيه الضرورة المحضة".



لقد كان صمم بيتهوفن واقعاً مريعاً، لكن حيوات المؤلفين الموسيقيين العظماء قد زينت بالأسطورة والأسطورة المضادة. ومنذ يوم موت موتسارت في ديسمبر 1791، تقاتل كُتَّاب السيرة والنقاد على الرفات دون توقف تقريباً.



وعلى مدار القرن التاسع عشر، كانت صورة الفنان النبيل الطاهر، روح فيينَّا المستنيرة نفسها، تغذي متطلبات النزعة القومية النمساوية. وقد جرى كبت أي أثر للقصص البذيئة وللجنس في رسائل موتسارت الكثيرة. وكتبت كلمات جديدة تستراً على أغانيه الخمرية الماجنة.
أما في أيامنا، خلافاً لذلك، فقد أبرز النقاد الجانب "الإنساني" إلى درجة أن فولفجانج الصغير يبدو الآن – خاصةً في الفيلم المأخوذ عن مسرحية بيتر شافير: "آماديوس" – كغلام دائم متعلق بأبيه تعلقاً شاذاً، ومتقلب بين الإبداع الملهم والمجون المخمور.



والسمة المشتركة لكلٍّ من هاتين الصورتين عن حياة موتسارت هي أنهما تقومان على الفكرة الرومانسية التي تتحدث عن طفلٍ لم يكبر البتة في الواقع. وهما تفسران الخاصية الفريدة لموسيقى موتسارت، تقلبها المُرَكَّب بين المزاج المرح والمزاج الأسود، على أنه نتيجة لأمزجته المتقلبة هو نفسه: ما يقال عن عدم إخلاص زوجته له، ومحاولاته الدؤوبة لأن يخلق اسماً لنفسه، ناهيك عن توقعه لموته الوشيك.
وليس أياً من ذلك كافياً ولو من طرف بعيد لتفسير هذه الخاصية.



فمن بين أعمال موتسارت التي تصل إلى 660 عملاً تحمل أرقام ك (والتي سُمِّيت بهذا الاسم نسبةً إلى الكتالوج الذي صنفه لودفيج كوتشيل)، يرجع البعض إلى أعوامه المبكرة، عندما كان يجري عرض موتسارت وشقيقته في كل بلاطٍ في أوروبا كطفلين معجزين. وقد كتبت مقطوعاته الأولى عندما كان في الخامسة من عمره. وكُتبت مقطوعات أخرى كثيرة بناءً على تكليف أو سعياً إلى سداد ديون. وكان هذا هو الحال بشكلٍ خاص في السنوات القليلة الأخيرة، عندما هددت الضغوط المالية باجتياح أسرته ولم يعد عمله يجد حظوةً لدى نبلاء فيينا.
وهذه المقطوعات رائعة من الناحية التقنية لكنها لا تختلف بحال اختلافاً أساسياً عن عمل المؤلفين الموسيقيين الآخرين في ذلك الزمن. إلاَّ أنه عندما بلغ موتسارت النضج في أوائل سبعينيات القرن الثامن عشر – عندما كان في السابعة عشرة من العمر – بدأ يؤلف أعمالاً تحدت المعايير الموسيقية للقرن الثامن عشر. ففي كونشيرتات الفيولين الخمسة التي ألَّفها، والمكتوبة في الأشهر الأربعة الأخيرة لعام 1775، تظهر الأداة المنفردة للمرة الأولى كقائد للأوركسترا. وقد بدأ في الوقت نفسه سلسلة من الأعمال للبيانو والأوركسترا. وفي نهاية الأمر توافر 27 عملاً من كونشيرتات البيانو هذه، والتي تعتبر شكلاً ابتكره موتسارت من الناحية الفعلية.



وكونشيرتو البيانو من مقام دي صغير (ك 466) المكتوب في فبراير 1785 هو مثال كلاسيكي لذلك. فالفواصل الموسيقية الأولى نفسها، بلحنها العميق الخفيض الحازم النابض، تخرج بشكل حازم على عرف القرن الثامن عشر. ويدخل البيانو بهدوء ثم ينفجر في شلالات من الصوت بحيث يبدو وكأنه ينافس الأوركسترا على الهيمنة. ويجري الحفاظ على الدراما في الحركتين التاليتين، بقفزاتهما وثمانياتهما المكسورة وأنغامهما غير المتوقعة.



"شيطانيّ" هي الكلمة التي استخدمها معظم النقاد الموسيقيين لوصف هذا العمل، كما لو كان ضلالاً مبيناً. لكن نغمته واندفاعته تبشران بالضراوة الهادرة التي سوف تميز أعظم مؤلفات بيتهوفن الموسيقية. والواقع أن كونشيرتو موتسارت من مقام دي صغير كان له تأثير رئيسي على بيتهوفن. وقد واصل الهيمنة على قاموس أدوات المؤلفين الموسيقيين في القرن التاسع عشر، تماماً كما أن أوبراته العظيمة الثلاث – زواج فيجارو، دون جيوفاني، والفلوت السحري – سوف تحدد التطور التالي للمسرح الموسيقي.



إن اثنين فقط من كونشيرتات موتسارت للبيانو (ك 466 و ك491 من مقام سي صغير) هما اللذان يستغلان الأنغام الدرامية التي سرعان ما تتحقق عن طريق استخدام المقام الصغير بوصفه المقام المهيمن – والواقع أن أعماله المكتوبة في المقام الصغير قليلة للغاية. لكن استخدام المقام الصغير خلافاً لمقامٍ كبيرٍ مهيمن، وهو مصدر لتوتر دينامي متواصل، هو أمر أساسي بالنسبة لمؤلفات موتسارت الموسيقية الأخيرة، خاصةً الأوبرات.



إن أوبرا "زواج فيجارو" التي عرضت لأول مرة على نحوٍ مناسب في أول مايو 1786، كانت غزوة موتسارت الأولى لموضوع سياسي. فمسرحية بومارشيه الجديدة، بموضوعها الذي يتحدث عن إقصاء الخدم لسيدهم، قد اعتبرتها السلطات النمساوية ذات أهداف هدامة شديدة الوضوح ومن ثم فقد جرى حظرها. وكان من الشجاعة البالغة إنتاج أوبرا تحمل الاسم نفسه، خاصةً بالاشتراك مع الكاتب أندريا دابونتي، وهو قسٌ معين من أصلٍ يهودي، كان قد ترك إيطاليا بسرعة بعد أن نظم حلقة دراسية تشكك في سلطة الكنيسة والدولة.



والواقع أن العنصر السياسي في الحبكة قد جرى التخفيف من نبرته، لكن الأوبرا لم تدخل السرور على أفئدة النبلاء. فالتيمات الجذابة التي رصد موتسارت التعبير عنها في الشارع لم تعجب الطبقة التي كانت في موضع السخرية. وفي ذروة إبداعه، أخذ موتسارت يفقد الحظوة في فيينا. وبدلاً من ذلك، حققت أوبرا "زواج فيجارو" أولاً ثم أوبرا "دون جيوفاني" نجاحات كبيرة في براغ.



والواقع أن العملين كانا هدامين بدرجة قوية وذلك بسبب الأسلوب الذي تربطان به بين العلاقات الاجتماعية والعلاقات الجنسية. ففي "زواج فيجارو" نجد أن ما يتعرض للتساؤل هو تفوق الذكر شأنه في ذلك شأن النظام الإقطاعي. فالشخصية الرئيسية ليست فيجارو بل سوسانا، المرشحة لأن تكون عروساً له. وفي "دون جيوفاني" نجد أن شخصية البطل المضاد المتناقضة تهدد كل الأعراف الراسخة. فدون جيوفاني يعلن "تحيا الحرية الشاملة"، لكن الحرية الشاملة تلتهمه في الوقت نفسه. فهو يستغل ويسخر من النساء اللاتي يغويهن، لكنه يفشل في تحقيق فتح واحد على مدار الأوبرا. والنساء يطاردنه سعياً إلى كلٍّ من الحب والثأر. وإذ يجد نفسه مهدداً بنار جهنم لقاء أفعاله الشريرة، فإنه يرفض التوبة – وبذلك تتحقق البطولة.



والواقع أن الموسيقى التي كتبها موتسارت لهذه الأعمال هي التي خلقت المسرح الموسيقي من الناحية الفعلية. فقبلها لم يجر تأليف شيءٍ يدانيها ولو من طرفٍ بعيد. وبالدرجة الأولى، فإن الموسيقى لم تكن مصاحبةٍ للغناء وحسب، وإنما كانت مصاحبةً للكلمات المنطوقة التي تتفوَّه بها الشخصيات، معبرةً بذلك عن المشاعر العميقة بقوةٍ مذهلة. وفي المشهد الأخير ولكن الواحد لأوبرا "دون جيوفاني"، لم يخرج موتسارت على أعراف القرن الثامن عشر وحسب، بل وعلى أعراف القرن التاسع عشر أيضاً. فقد استخدم الأنغام المتنافرة لمجمل السلم اللوني لخلق مناخ الرعب والمصير المحتوم. وباستثناء بيتهوفن – في أواخر أعماله – لن يفعل أحدٌ ذلك مرة ً أخرى على مدار مائة عام.
وقبل شهورٍ قليلة من بدء موتسارت تأليفه أوبرا "زواج فيجارو" كان قد انضم إلى أحد المحافل الماسونية الجديدة في فيينا. وكان الماسونيون في أواخر القرن الثامن عشر بعيدين عن القوة الرجعية التي نعرفها اليوم. فقد عبروا عن كثيرٍ من أفكار التنوير – الإخاء والعدالة وحرية الفكر - وتجمعوا كممثلين للبورجوازية الصاعدة وللمؤسسة في آنٍ واحد. وعبرت فلسفتهم الاجتماعية عن كثير من تناقضات الأقسام الإصلاحية من الطبقة الحاكمة، لكن أفكار الماسونيين كانت في نظر الشرطة السرية النمساوية غير منفصلة عن اليعقوبية الثورية. وقد بدأ الإمبراطور بالحد من حريتهم قبل أن يحظر نشاطهم في عام 1794.



وفي هذا المناخ أنتج موتسارت أوبراه العظيمة الثالثة "الفلوت السحري" بصورها الماسونية الحاشدة وفكرتها الرئيسية عن الإرشاد والإخاء. وكان العمل فاشلاً في نظر النقاد لكنه كان ناجحاً في نظر الشعب. وقد اجتذب ألف مشاهدٍ يومياً في أرخص مسرح في فيينا، حيث كانت أغانيه تؤدى بالألمانية، في مشاهد مثيرة.



ويبين نجاح أوبرا "الفلوت السحري" ما كان يمكن أن يصير إليه موتسارت لو كان قد عاش: لقد مات بعد شهرين فقط من أداء العرض الأول. وحتى في ذلك الوقت كانت هناك شائعات بأن غريمه الحسود، سالييري، قد دسّ له السم. ومن شبه المؤكد أن الحقيقة أكثر ابتذالاً، وإن كانت فظيعة في الوقت نفسه، فالأعوام الأولى التي شهدت تسويقه من جانب أبيه ومعركته هو من أجل بيع نفسه قد استنفذت حياته في سن السادسة والثلاثين.



إن تقلب مكانته هو، الثورة في مكانة المؤلف الموسيقي من خادم أو موسيقار بلاط ملكي إلى منتج مستقل، والقوى الجبارة التي كانت على وشك الانطلاق في مجمل أوروبا، خاصةً الانقلاب في العلاقات الإنسانية – تجد كلها تعبيراً عنها في أعمال موتسارت الأخيرة وتناقضاتها غير المحلولة. وموسيقى أعوامه الأخيرة تضعه جنباً إلى جنب بيتهوفن بوصفه الموسيقار الأكثر روعة للثورة البورجوازية.



ترجمة: بشير السباعي

عقيدة المصريين القدماء الرمزية

إدوين بولاك


في زمنٍ لم تكن فيه فكرة الله قد وُجدت بعد، كان البشر يكوِّنون لأنفسهم تصوراتٍ متباينة عن الحياة والكون. والتصورات التي تستحق أكثر من سواها جذب انتباهنا، لكونها الأكثر قرباً من الحقيقة، هي تصورات المصريين القدماء.
لقد كانوا يرون أن الحياة تتركز في كل ما يمارس الفعل، أي في النوع الحيوانيّ وفي النوع البشريّ.

وقد لاحظوا أن الحياة لا تمارس الفعل إلاَّ من جراء فعل الشمس، وهو واقعٌ دقيق يؤكده العلم الحديث.
ورغبةً منهم في ترجمة هذا التصور بشكل مرئيّ، فقد جمعوا في تمثالٍ رمزيٍّ واحد بين النوع الحيوانيّ، مُمَثَّلاً تحت شكله الأقوى، جسد الأسد، والنوع البشريّ، ممثلاً تحت جانبه الروحيّ، الرأس البشرية.
وهذا التمثال هو أبو الهول، رمز الحياة.
وبما أن الروح هي التي تهيمن في الحياة، فإن الروح هي التي تعلو وتهيمن على تمثال الحياة.
ولإبراز الصلة التي توحد الحياة بالشمس، فقد جعلوا الشمس الوجهة التي يتجه إليها أبو الهول.

كما لاحظ المصريون أن الحياة تتطور في الزمن؛ وأن الزمن هو وحدة تتجدد تجدداً أبدياً، متألفة هي نفسها من أربعة فصول تتعاقب على دوراتٍ منتظمة، وأن اجتماع هذه الفصول الأربعة يُشَكِّلُ السنة وهي وحدة زمنية.
ومن ثم فقد مثلوا فصول السنة الأربعة بأربع زوايا لمتوازي أضلاع منتظم، متحدة بقمة مشتركة شأنها في ذلك شأن الفصول في الزمن. والأثر الذي نتج عن ذلك هو الهرم، رمز الزمن أو الأبدية.
ودقة هذا التفسير تنشأ عن واقع أنه في الهرم، فإن كل وجه من وجوهه الأربعة له ثلاث جوانب، تتشكل من خلال تقاطعات مسطحات الهرم، وهذا التكوين الثلاثي يتطابق مع التكوين الثلاثي للفصول، التي يشغل كل منها ثلاثة أشهر من السنة.

وترتبط صورة أبي الهول ارتباطاً لا ينفصل بصورة الهرم، تماماً كما أن الحياة ترتبط ارتباطاً لا ينفصل بالزمن الذي تتطور فيه والذي تستمد منه خصائصه.
فالحياة، شأنها في ذلك شأن الزمن، لها فصولها: الربيع والصيف والخريف والشتاء. وكما هي الحال في الزمن، فإن كل فصلٍ من فصول الحياة الأربعة له تقسيمه الثلاثي.

فالربيع، عند الإنسان، هو الشباب، المقسم هو نفسه إلى الطفولة والصبا والبلوغ؛ والصيف هو الزواج وتكوين أسس الأسرة وتكوين الأسرة، والخريف هو تربية الأجيال الجديدة وتوجيه جهودها في عمل الحياة وتكوين أسر جديدة من بين الأسرة الأولى، والشتاء هو الضمير المستريح إلى المهمة المنجَزة وهو سلام الروح والنفس وهو الخلود إلى الراحة.
وهكذا تظهر الحياة كصورة مصغرة للزمن، تحت شكل واعٍ وفعال.

وقد لاحظ المصريون أخيراً أن الحياة تنتظم مسيرتها حول مسار الشمس؛ أن كل يوم من حياة الإنسان يتضمن، ككل سنة وكالحياة نفسها، أربعة أوقات تتطابق مع الأوقات الأربعة للساعة الشمسية؛ وأن الزمن، في مسيرته المتجددة بلا نهاية، ليس في النهاية غير انعكاس لمسار النجم الشمسي المتجدد بلا توقف.

وهكذا فقد كانوا مدفوعين إلى أن يروا في الشمس، كما هي الحال تماماً مع العلم الحديث، المركز الميكانيكي للعالم.
وبما أن الأوقات الأربعة لليوم تجد مركز اجتماعها في اللحظة التي تكون فيها الشمس في الذروة، فقد رأوا في شمس الظهيرة نقطة تركز الحياة الكونية.

وسعياً منهم، كعادتهم، إلى أن يجعلوا هذا التصور مرئياً، فقد أقاموا أثراً له قاعدة رباعية الأضلاع، وهي قاعدة تتطابق مع الأوقات الأربعة لليوم أو للزمن، تتصاعد متصاغرةً إلى أعلى وتنتهي بقمة هرمية، هي رمز الأبدية.
وهذا الأثر هو المسلة، رمز الشمس المنظور إليها كمركز ميكانيكي للعالم.

ومن ثم فإن أبا الهول والهرم والمسلة هي رموز.

وفيما بعد، سوف يرى المصريون في ذلك شيئاً آخر، فسوف يرون في أبي الهول عبادة الشمس وسوف يعبدون الشمس، وسوف يرون في الهرم وعد الأبدية وسوف يتخذونه قبراً.


ترجمة: بشير السباعي
مقتطف من كتاب "الإيمان" الصادر بالفرنسية
عن دار بيرتييري إي فانزيتِّي، ميلانو، عام 1925.

جورج حنين_21

من هو السيد أراجون؟

نحيا أزمنةً غريبة. أزمنة يتسنى فيها لتموجات كبرى على السطح أن تظهر بمظهر تحولات حقيقية في الأعماق. حيث يتلهى البعض دون طائل بالفكرة التي تتحدث عن حدوث تحولاتٍ هامة في الرأي في حين أن الشيء الوحيد الذي يتحول، وفي اتجاه الانحطاط والخذلان هذه المرة، هو الصرامة القديمة للمبادئ واليقظة القديمة للمدافعين عنها. ويهنئ المرء نفسه على أن جمهوراً جديداً يتبنى بهذه الدرجة أو تلك من الإجماع مثلاً أعلى كان حتى ذلك الحين غير مبالٍ به أو معادياً له. إلاَّ أنه إذا كان الأمر يتعلق بجمهورٍ هو هو، فهل نحن على ثقة من أن الأمر يتعلق بالمثل الأعلى نفسه...؟

سوف يقال إن الناس يتغيرون. بالتأكيد، بل إنهم يفعلون ذلك عن طيب خاطر ما أن تتاح لهم إمكانية الظهور بمظهر من يتغيرون. فالواقع أن وهم التغير يجنب كثيرين من بينهم التمزقات الكورنيوية بين مصالحهم وقناعاتهم. وشأنها في ذلك تماماً شأن تلك السياحات التي يقوم بها المرء دون أن يبرح مقعده، بالاقتصار على ترك صور الديوراما المتحركة تتعاقب أمام بصره، فإن بعض تبنيات المواقف التي لا نشهد منها اليوم سوى الكثير، إنما تحدث أمام صحيفة حيث يصبح "إشعاع الشرق العظيم" السابق قابلاً لأن يترجم أخيراً إلى سعرٍ في البورصة أو إلى صلواتٍ ورعةٍ مملة. فيا له من مشروع "عشاء" سياسي "أخير" جميل يمكن اقتراحه على رسامٍ مواكبٍ لعصره!

إن عدداً من إيماءات "التضامن" التي كان من شأنها، قبل وقتٍ غير بعيد، أن تستثير العجب، تنتشر الآن بسخاءٍ تحت كل التسميات الخيرية حيث يتدافع عالمٌ لم يكن سخاؤه بهذه الدرجة من العفوية قط. ويعلن أولئك الذين يتعارفون خلال ذلك، الأشخاص العليمون جداً بالفعل، العليمون بشكلٍ يفوق المألوف: "إنها مجرد أقساط تأمين" . ولمَ لا؟ ولماذا لا تؤتي مثل هذه التأمينات، هي أيضاً، ثمارها وترضي آمال وتوقعات طالبي التأمين الأسخياء؟ ومن الذي قال أن مندوب التأمينات لن يكون، في نهاية الأمر، الشخصية الأكثر تمثيلاً للعصر؟ إن الحاجة إلى أمانٍ معنويٍّ "قياسيٍّ" وإلى سلامةٍ "قياسيةٍ" وإلى خطٍ سياسيٍّ "قياسيٍّ"، لن تتأخر في أن تجعل منه البطل المتواضع ولكن الحقيقي للأزمنة الجديدة.

ففي أي شيءٍ يمكن لهذا الكلام أن يخص السيد أراجون؟
في كلِّ شيء
فقراءةُ السيد أراجون، والدفاع عن قضيته سريعة الفوز، وتوزيع كتبه سريعة الرواج، كلُّ ذلك هو أيضاً شكلٌ من أشكال التأمين.

تأمينٌ ضد الجهل بالشعر.
تأمينٌ ضد انعدام القلب.
تأمينٌ ضد إفراط المرء في الولاء لـ "حماقات شبابه" الخاصة.

الشعر؟

من كلِّ حدبٍ وصوب – أو من كلِّ حدبٍ وصوبٍ تقريباً – يسود الاتفاق على تأكيد أن السيد أراجون يقدم لنا الكلمة الأخيرة في الشعر – أو الكلمة الأخيرة تقريباً. والحال أنه، بالرغم من كلِّ شيء، قد تحدَّث عن السوريالية بشكلٍ زائدٍ عن الحد، وكما لو كان من أساتذتها! حتى لا يكلف المرء نفسه في آنٍ واحدٍ مشقةَ ورجفةَ التصدي للشعر الحديث في شخص ذلك الذي عرف السوريالية، ومارسها ثم تجاوزها بالطريقة التي يروق بها اليوم للمرء تجاوز الأشياء، أي بخيانتها. ومن بين المتحمسين الحاليين للسيد أراجون، نادرون جداً أولئك الذين يملكون نزاهةً روحية تسمح لهم بالعودة إلى عملٍ ما من أعماله الأولى، ولو لمجرد التمكن على نحوٍ أفضل من قياس المسافة التي تبعده عن " الحسرات" و "الألزات" الأخرى الرائجة. نادرون هم أولئك الذين يعرفون وجود "فلاح باريس" و "بحثٍ حول الأسلوب"، اللذين يعتبران عملين متفجرين وناجزين تتأكد فيهما لا تزال، بعد عشرين عاماً من التقهقر، عبقريةٌ شعريةٌ هازئةٌ إلى أبعد حدٍ بكلِّ وصاية وبكلِّ قيدٍ خارجيٍّ على زخمها الخاص، على تحققها الطبيعي. ومن هذا الماضي المتقد، لم تعد هناك غير عباراتٍ غائمة ونائية، كما لو كانت ذنباً يجري التكفير عنه إلى حدٍ بعيد من خلال حسن السلوك و"آفات"* التائب العديدة. إن عودته إلى القافية، وإذعانه للقواعد المقررة، ودفاعه عن أكثر الحيل الشعرية ذبولاً وأقلها مؤاتاة للوثوب الحر للإلهام هي أيضاً "جواز مرور"، هي أيضاً ذرائع للعب دور "الولد الشقي" ولتأمين فوزه بالاستحسان وبالتدليل بهذه الصفة وحدها.

إن الذين يجعلون من "حسرة" كتابهم المفضل لا يجهلون وحسب أعمال شباب أراجون هذا نفسه، أو بتعبيرٍ أدق أراجون الآخر، بل إنهم يجهلون أيضاً في أغلب الأحيان عمل جيوم أبوللينير الرئيسي الذي، بما يتميز به من غزارة ونضارة، كان بوسعه أن يعفيهم من التشقلب افتتاناً بثرثرات معبودهم الجديد المجهدة والعديمة البهجة.

وبالنسبة لأولئك الذين راعوا دائماً الاستهانة بالحفاظ على الاتصال بالشعر، فإن أراجون الرائج يتخذ شكل مدرب – سريع. فلا أهمية تذكر لمن سبقوه، ولا أهمية تذكر لذلك الجزء من نفسه الذي يجحده وينفر منه اليوم، فقد أصبحت كلمته قرص الشفاء الشعري بامتياز. إن أراجون، "على حد القبلات..."، موعودٌ بجميع أمارات الود، بجميع أمارات العطف. إنه يحيطُ المرءَ علماً بما يجري، ويريحه، وهو يملك كلمة غزل للنساء ومداعبة للصغار. فلتسيروا في أثر الدليل!

القلب؟


المراد، أكثر من ذي قبل، هو ألاّ يكون المرء عديم القلب. والحال إنه يبدو بشكلٍ محدد أن أراجون قد أنسن الشعر الحديث. ولابد بالفعل للشعر الحديث أن يكون الشعر المقروء أقل من سواه عموماً حتى يتسنى لأسطورةٍ على هذه الدرجة من البلاهة أن تكون جديرة بالاعتبار. ألا يمرُّ كلُّ (عمل) أبوللينير، وأفضل ما عند إيلوار وكل (عمل) أندريه بريتون وكلُّ (عمل) جوليان جراك، ألا يمرُّ قطُّ بالقلب، وبقلبٍ أكثر نقاءً وخصوبةً من قلب أراجون؟

إن ما ينتصر عند أراجون ليس هو القلب، بل الزغردة. وحتى حيثما يظن أن عليه التحرك بلمساتٍ حذرة، فإن أراجون لا يستطيع الإمساك عن أن يكون مبالغاً وعن الإشارة إشارةً واضحةً إلى ما كان يجب الاكتفاء بتركه في ضبابٍ إيحائيّ وعن التذكير في كل لحظة بوضعه كمحدث نعمة. محدث نعمة في الاندفاعات العاطفية الكبيرة، مجدث نعمة في زفرات النحيب المتكلفة وجد المؤثرة، محدث نعمة في ارتعاشات الشفاه وخفقات الرموش: إن أراجون قياساً إلى شعراء القلب الصادقين هو كالندابات قياساً إلى التعبير الصادق عن ضياع الأمل. ونجاحه، وهو في المقام الأول نجاح استسهال ومجاملة للذات، إنما يرجع إلى الخمول الذهني لأولئك الذين، بالنسبة لهم، يصبح فيون منسياً ونيرفال مجهولاً تماماً وأبوللينير غير جدير بقراءة ولو سريعة. والحق أنه لا "أنشودة هولميير الجميلة" ولا "ال ديسديكادو"، ولا "أغنية المحبوب الذي أشقاه الحب"، قد تمتعت قط بالتعبئة الدعائية الموضوعة في خدمة أراجون. ولا مراء في أن ذلك إنما يرجع إلى أن "النبرة الإنسانية العميقة التي تنبثق من عمل أراجون" هي، قبل كلِّ شيء، نبرة متكلفة، نبرة يتحمل هو مهمة رعايتها ويتحمل وكلاء دعايته مشقة كبيرة في إثبات صدقها... نبرة متكلفة؟ إن قصيدة جديدة تماماً عنوانها "الوردة والخزامى" نشرتها صحيفة "لامارسييز" في عددها الصادر في 2 سبتمبر 1944، طبعة القاهرة، إنما تقدم في هذا االصدد برهاناً غير متوقع. إن القصيدة التي تبدأ بهذه الأبيات:

ذلك الذي آمن بالسماء
وذلك الذي ما آمن بها
كلاهما هاما بالجميلة
أسيرة الجنود...

لا جدال في أنها لا تدعي غير تصوير، ذي شكلٍ غنائيٍّ إلى هذا الحد أو ذاك، للخط السياسي للحزب الذي يرتبط به الكاتب، أي الحزب الشيوعي الفرنسي. وكل نقدٍ للقيمة الخاصة بهذا النص تصبح عديمة الجدوى، ما أن يقارنه المرء ببعض الأبيات التي كتبها أراجون في عام 1931، والتي كتبت، هي أيضاً، لكي تكون مسايرةً للخط. ويبدو أن هذه المقارنة البسيطة لابد لها من أن تكون كافيةً لحسم مسألة الصدق.
إلاَّ أنه ليس بالإمكان إنهاء هذا الفصل الخاص بالقلب دون أن نعيد إلى الأذهان هنا أن أراجون لم يتردد قط في استخدام قلبه ضد أصدقائه الأعز، كلما سمح له ذلك بارتقاء درجة في هيراريكية الوصولية.

فعندما سافر في نوفمبر 1930 لتمثيل الحركة السوريالية في مؤتمر خاركوف، كتب من هناك إلى صديقه أندريه بريتون: : إننا نعتمد على ثقتك في كل شيء، على ثقتك أنت بالتحديد، للتحدث باسمنا في خاركوف". وبعد ذلك بأيامٍ قلائل، أعلنت برقيةٌ مشرقة: "هنا، النجاح تام، أراجون". وبعد ذلك بأيامٍ قلائل أيضاً وقَّع أراجون، مع جورج سادول، وثيقةً علنية أعلنا فيها تنصلهما من كلِّ الأعمال "السوريالية" وبالأخص من "البيان الثاني للسوريالية" الذي كتبه أندريه بريتون. وهكذا فإن أراجون، ممارساً بخفة متساوية خيانةَ الثقة الممنوحة له والشهادة الزور، قد وصل إلى انتزاع مكانة مختارة في إدارة حزبه. ومن عام 1937 إلى عام 1939، عمل رئيساً لتحرير الصحيفة اليومية الكبرى "سوسوار". وأقل ما يمكن للمرء قوله عن هذا الرجل المتعدد القلوب هو أنه قد تميز دائماً بالجحود المؤدي إلى المغانم.


حماقات الشباب؟

إن أراجون، بالنسبة لكثيرين ممن يملكون فكرةً عمومية عن مساره الأخلاقي والسياسي، دون أن يكونوا على علمٍ بتفاصيل انفلاتاته المتعاقبة، إنما يصور أفضل من أي أحد آخر ما هو أبدي ومؤسف "من الخير أن ينقضي الشباب"! ففي مجتمع، ثم في حزب، مكرسين بكاملهما لتدجين ولضبط سلوك أعضائهما، تعتبر وظيفة المثقف المستأنس واحدة من الوظائف التي تتميز مكانتها وعائدها المادي باستقرارهما الرائع. خاصةً عندما يجعل المثقف، على غرار أراجون، من استئناسه هو قيمة خطابية في مؤتمرٍ للكُتَّاب. ألم يصرخ أراجون في الواقع باعتزاز في المؤتمر الدولي الثاني للكُتَّاب للدفاع عن الثقافة، في باريس في 16 يوليو 1937: "لقد بخست صداقات شبابي!". لقد كان من الجميل قول ذلك، على لسان المرتد نفسه، بمصطلحاتٍ تجارية. نعم أيها السيد أراجون، إن لك الحق مائة مرة في التعبير عن نفسك بهذه الطريقة، إنك، شأنك في ذلك شأن من هم على شاكلتك، قد قمت بتجارة مربحة. لكنك خلافاً لذلك، كنت سافلاً سفالةً لا تغتفر، عندما اجترأت، فور هذا الاعتراف، على وضع نفسك على مستوىً واحد مع رامبو، لقد اجترأت على الهتاف: "لك يا رامبو أقول : إنني أعرف اليوم، كما كنت تقول، كيف أحيي الجمال".

إن أراجون، شأنه في ذلك شأن من هم على شاكلته في الفن، في الشعر، في السياسة، يستشعر الحاجة إلى تدنيس شيءٍ عظيم ما في سقوطه. وفي هذا الوقت الذي نشهد فيه جميع الحيل الرائجة، فإن المغامرة الرامبوية تنحط بالنسبة للمثقفين البورجوازيين الصغار إلى تمرين مريح في صالات تحرير صحافة اليسار. ومنذ تلك اللحظة، وفاقداً لكل حس قياس ولكل وعي، فإن أحقر هؤلاء الموظفين، في أثر رئيسه، سوف يسمح لنفسه برفع الكلفة مع رامبو.

إن أراجون، في اللحظة الراهنة، لا يشد اهتمامنا لا كشاعر ولا كمناضل بل أساساً كظاهرة اجتماعية. فأراجون يرمز إلى أوج الخديعة المعاصرة، الاحتيال العاطفي الكبير الذي يكسب كل يوم أرضاً ثمينة على حساب صدق القلب واستقلال الحكم النقدي في آن واحد. إنه مستعرض للحب:

أحبكِ يا إلزا، آه يا مصدر شجني،
آه يا مصدر عذابي

ومستعرض للحمية الوطنية:

أحييك يا فرنساي لأجل راسين ولأجل ديدرو،
لن نذهب بعدُ إلى الأحراج و موريس شوفالييه...

ومستعرض للأمل أو للكراهية، لا فرق، لكنه متواجدٌ دائماً لكي يستر الأضاليل والإفلاسات والخيانات بطلاءٍ من المؤثرات العاطفية. لأنه لا يجب أن ننسى بشكلٍ خاص أن خطب ونصوص أراجون قد لعبت، منذ أربعة عشر عاماً، دور تأكيدٍ غنائيٍّ لبياناتٍ كالبيان التالي: " قبل عدة أسابيع، في منافسةٍ دوليةٍ رياضية، هُزم الفريق الفرنسي هزيمة محزنة. وقد عمَّ الاستياءُ كثيرين من الفرنسيين. إن الشيوعيين الفرنسيين يشاطرونهم شعورهم " (كلمة موريس توريز في قاعة واجرام، نقلتها صحيفة لومانيتيه في عددها الصادر في 13 أكتوبر 1935)، أي دور تأكيدٍ غنائي لجميع تحركات وانقلابات مبادئ حزب حريص، هو أيضاً، على أن يدفن إلى الأبد "حماقات شبابه"!

إن عدوى "الحسرات" و"عيون إلزا" – إن لم نتحدث عن مصنوعات الأدب البطولية أو الغرامية المصنفة في ظل الكريملين – إنما تؤكد لنا الضرورة المُلحة، الضرورة الفورية، لنهوضٍ نقديّ، لانتفاضٍ فكريٍّ يكبحُ أخيراً هذا "التراجع الروسيّ" الجسيم الذي تضيع فيه أفضل طموحات زماننا.

وفي هذه النهاية لعام 1944، في هذا الفجر للانتصار الديموقراطي، هل سيكون كثيراً على البشر أن ندعوهم إلى التفكير بأنفسهم، إلى التمرد على البشاعات الدعائية التي تخطب ودهم، إلى احترام قناعاتهم بعيداً عن الصورة التي يعرضها عليهم المزورون، شعراء كانوا أم غير شعراء، وإلى أن يجعلوا من استقلال رأيهم السلاح الفعال لصعودهم التحريري... !

فليغفر لنا القارئ رفعنا المناقشة فوق شخص أراجون وكل ما يزعم أنه يمثله.

إننا نعتقد أن الساعة قد حانت لرفع كل نقاش إلى منتهاه، إلى تجاوزه في فعلٍ قاسٍ وصافٍ لا يعود نفياً لكل تفكيرٍ تمهيديٍّ بل بالأحرى تتويجاً له في عالم الواقع.

* لعبٌ على الكلمات، فالآف سلامٌ ملائكي وعنوان قصيدة لأراجون في الوقت نفسه. – م.

ملاحق

"أيُّ آراجون يجبُ أن نصدق؟ ذلك الذي أوصانا، في "الإباحية" بالهرب من صفوف الجيش فوراً؛ ذلك الذي، في "بحثٍ حول الأسلوب"، "تغوط على الجيش الفرنسيّ بأسره"؛ أم ستالينيُّ "النار على ليون بلوم" و"مرحى للأورال"؛ البورنوجرافي اللوذعيُّ الذي كتب " كُ ... إيرين"، أم الديروليدي الجديد لأعوام 1936 – 1938، ذلك الذي تباكى على جان دارك وعلى قبعة موريس شوفالييه القش؛ ذلك الذي قرر أن "الواقعية الاشتراكية" يجب أن تكون أولاً "واقعية فرنسية"، لأن تلك كانت آنذاك سياسة ستالين في فرنسا ...؟ الفوضوي أم اليسوعي، السوريالي أم الكادرالحزبي المنضبط، أيهما الأصدق؟"


إيتيامبل (لتر فرانسيز، أول أبريل 1944)


أراجون ضد أراجون


الوردة والخُزامى

ذلك الذي آمن بالسماء
وذلك الذي ما آمن بها
كلاهما هاما بالجميلة
أسيرة الجنود
الذي صعد إلى المعراج
والذي راقب من تحت
ذلك الذي آمن بالسماء
وذلك الذي ما آمن بها
ما أهمية اسم
هذا النور الذي يضيء
الخطوات
ما أهمية أن الأول كان
من الكنيسة
بينما تجنبها الآخر
ذلك الذي آمن بالسماء
وذلك الذي ما آمن بها
كلاهما كانا مخلصين
شفاهاً وقلباً وسواعد
وكلاهما قالا إنها
حية ومن سيحيا سيرى
ذلك الذي آمن بالسماء
وذلك الذي ما آمن بها
عندما تكون السنابل تحت البَرَد
أحمقٌ من يتشدد
أحمقٌ من يفكر في منازعاته
في قلب المعركة المشتركة...
(إلخ، إلخ...)


لوي أراجون
لامارسييز 2-9-1944


إن أجمل نصبٍ تذكاريًّ يمكن إقامته في ساحة، والتمثال الأكثر إدهاشاً بين جميع التماثيل، والعمود الأكثر جسارةً والأكثر رشاقة، والقوس الذي يضاهي طيفَ المطر اللوني ذاتَه، لا تُساوي الركام الرائع والعشوائي – حاولوا لتروا – الذي يحققه المرء بسهولةٍ بالجمع بين كنيسة والديناميت.


لوي أراجون
(الجبهة الحمراء، 1931)



مونسنيور كُ... دولافيلرابيل، كبير أساقفة روان، مونسنيور دو مي دو دو لافيلرابيل، أسقف آنسي، مونسنيور باريت من بلايموث، السيد ميتاييه (المُخَابر) العمدة والسيد ديمار، مسئول الوضاعات الحقيرة، والجنرال شاربي (المهترئ) يستقبلون الكاردينال بورن، كبير أساقفة وستمنستر، سفير البابا، الذي بعد تَعَبُّدٍ قصير في دورة المياه، يظهر من جديد في قاعة تناول الطعام حيث يجري انتظار الكهنة من الأبرشية.

لوي أراجون
(مضطهِد مضطهَد، 1929)


أراجون ضد أراجون

ما أقرب الموسيقى البعيدة
إلى قلبي
إنها الصدى المُضَاعَفُ
لمُضَرَّج الأمس
حيث يختلج قلب جان دارك
لدى سماع أصواتٍ جديدة
وفي أعين الشعب
أرى اليوم من جديد
زانتراي الذي غسل وجهه
بماء النبع

أصبحت الكلماتُ المُثمِلةُ غريبة
ليس اللسان اللاتيني الذي يعلمونه في المدرسة
إنه الطنبورة التي مازالت تهدر على جسر آركول
إنه بارا، إنه كليبير وهذه الصيحة الهادرة
هذه الصيحة المقَدَّسة: الوطن في خطر.


لوي أراجون
(اسمعي يا فرنسا، فونتين، العدد29)


ما هذه الكلمة التي تُذَكِّرُنا
بأنه لا يجب إسكاتُ شعبٍ
بأنه لا يجب إخراسه
بسيف الجلاَّد المقوَّس
ين – باي
إليكم أيها الأخوة الصُفر هذا القَسَم
لقاء كل قطرة سالت من حياتكم سوف يسيل دمُ فارانيٍّ

اسمعوا صرخة السوريين المقتولين
بضربات قذائف
طياري الجمهورية الثالثة
اسمعوا صيحات المغاربة الذين قُتلوا
من دون ذكر عمرهم أو جنسهم.


لوي أراجون
(الجبهة الحمراء، 1931)


أراجون ضد أراجون

أحييكِ يا فرنساي، لأجل هذا الضوء في عينيكِ اللتين رأتا سقوط الباستيل، أحييكِ لأجل هاتين العينين القادمتين من قلب العصور ولأجل الأغنيات الرقيقة التي تحرك صدرك الذي من الحنطة واللبن، لأجل أغنية إنها تمطر أيتها الراعية [جان دارك] ولأجل الكارمانيول، لأجل راسين ولأجل ديدرو، لأجل أغنية لن نذهب بعدُ إلى الأحراج وموريس شوفالييه. أحييكِ يا فرنساي لأجل جان [دارك] واللورين الجميلة وبابيف الذي مات هو الآخر لأن قلبه كان عظيماً جداً.


لوي أراجون
"كلمة في المؤتمر الدولي الثاني للكُتَّاب من أجل الدفاع عن الثقافة،
باريس، 16 يولو 1937 (في كومين، العدد 48)"


إنني أعتبر كُلَّ مُعْجَبٍ بأناتول فرانس كائناً منحطاً. وإنه ليطيب لي أن المشتغل بالأدب الذي يحييه اليوم في آنٍ واحد التلميذُ مورَّا وموسكو البلهاء قد كتب، من أجل سكِّ عُملةِ غريرةٍ دنيئةٍ تماماً، مقدمةً من أكثر المقدمات خزياً لحكايةٍ لصاد، الذي قضى عمره في السجن، لكي ينال في النهاية ركلة من هذا الحمار الرسمي... لابد لبهلوان الروح الحقير هذا أن يدفع ثمن العار الفرنسي، لأن هذا الشعب الوضيع كان سعيداً إلى هذا الحد بمنح اسمه له.

لوي أراجون
(هل صفعتم بالفعل ميتاً، من كراس جثة، الصادر عند موت أناتول فرانس)

أراجون دائماً وأبداً

ذات يومٍ جميل، أُدرك أنني ربيتُ في داخلي هذا الشيطان: الحاجة إلى الخيانة.

لوي أراجون
(الإباحية ، 1924)


لقد بَخَسْتُ صداقاتِ شبابي.

لوي أراجون
(كلمة في المؤتمر الدولي الثاني للكُتَّاب، باريس، 17 يوليو 1937).


ترجمة بشير السباعي وهدى حسين
عن الأصل الفرنسي

إشارات

لوي أراجون: شاعر وروائي فرنسي (1897-1982)، ولد في باريس. كان أحد مؤسسي السوريالية ثم تخلى عنها.
جيوم أبوللينير: شاعر فرنسي (1880-1918)، ولد في روما. وجه الشعر الرمزي في طرق جديدة استشرفت السوريالية.
بيير كورنيّ: شاعر وكاتب مسرحي فرنسي (1606-1684). ولد في روان
جيرار دونيرفال: كاتب فرنسي (1808-1855)، ولد في باريس. شاعر متأثر يالرومانسية الألمانية.
أرتور رامبو: شاعر فرنسي شهير (1854-1891)، توقف مبكراً عن كتابة الشعر وتحول إلى مغامر.
فرانسوا فيون: شاعر فرنسي (1431 – نحو 1463)، ولد في باريس. عاش حياةً مغامرة وتعرض لحبل المشنقة أكثر من مرة. أول شاعر غنائي فرنسي كبير في العصر الحديث.
جان راسين: شاعر تراجيدي وكاتب مسرحي فرنسي (1639-1699).
أندريه بريتون: شاعر وكاتب فرنسي (1896-1966)، مؤسس السوريالية.
بول ديروليد: شاعر وسياسي فرنسي (1846-1914)، ولد في باريس، رئيس عصبة الوطنيين، مؤلف "أغنيات الجنود".
موريس شوفالييه: مطرب منوعات وفنان سينيمائي فرنسي (1888-1972)، ولد في باريس.
دوني ديدرو: فيلسوف تنويري فرنسي (1713-1784).
أناتول فرانس: أديب فرنسي (1844-1924).
موريس توريز: زعيم ستالينيٌّ فرنسي (1900-1964).
جان دارك: رمز من رموز الوطنية الفرنسية (1412-1431).
زانتري: رفيق جان دارك (؟-1461).
جوزيف بارا: رمز من رموز البسالة خلال حروب الثورة الفرنسية (1779-1793).
جان – باتيست كليبير: جنرال فرنسي (1753-1800). اغتيل في القاهرة على يد سليمان الحلبي.
جراشوس بابيف: ثوري فرنسي (1760-1797)، شيوعي طوباوي.
إيتيامبل: ناقد فرنسي.
المركيز دو صاد: روائي فرنسي (1740-1814).
ليون بلوم: سياسيٌّ اشتراكي – ديموقراطي فرنسي (1872-1950)