بونامي دوبريه
قسطنطين كافافي
السكندري
لعل من المخاطرة، لا بل إن من المخاطرة بالفعل، أن يحاول المرء الكتابة عن رجل استناداً إلى التعرف على عددٍ قليلٍ من قصائده، وإلى إجراء عددٍ قليلٍ من الأحاديث معه. لكن ما حفزنا إلى مثل هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر ليس مجرد رغبة في إزجاء تحية سريعة. فما حفزنا إلى ذلك هو إحساس بأن هناك بالتأكيد ما يستحق الكتابة عنه، بالرغم من قلة المادة المتاحة: لقد قابلتُ سكندرياً، بكل ما ينطوي عليه ذلك من معنى.
المعنى، هذه الكلمة مهمة عند التفكير في السيد كافافي، فقصائده كحديثه وحديثه كالإسكندرية والإسكندرية كلها معنى. وهذا واضح بما يكفي من الناحية الظاهرية ذاتها، البحر الأزرق الرائق، البيوت ذات اللون الرملي الصافي، الميناء، محطة السكك الحديدية، لقد بدت دائماً هكذا، أو شيئاً مساوياً لذلك، شيئاً بسيطاً تماماً، ولكن ما الذي لا تعنيه؟ القمح أم القطن أم البيض المكشوف على الأرصفة، أم احتفالات عيد الجلوس الملكي؟ ولكن خلف كل ذلك، تحته، مستتراً في أحجارها وترابها، وإن كان موجوداً مع ذلك بالنسبة لمن يمكنهم السماح له بالتسلل إليهم، يكمن العقل المتسائل عن الأشياء، المتسائل عن الرب، ولكن الميال إلى الشك العميق في نفسه، أو في قيمة الأشياء التي يتوصل إليها منتشياً بالانتصار. ما الذي لا يخطر ببالك عندما تفكر في الإسكندرية؟ إنك لا تفكر فقط في الإسكندر، أو في الولاة الرومان العظام، أو في كليوباترا، أو في عمرو، بل إنك تفكر أيضاً في رياضيات إقليدس، في الشعر وكاليماخوس وثيوكريتوس، في الأفلاطونية الجديدة وأفلوطين وهيباتيا. سكندرياً كان أول من قاس العالم، سكندرياً كان من استنبط اللوغوس (وما أكثر ما ينطوي عليه ذلك من المعاني !)، وبين جنباتها، ضمت الإسكندرية عوام بسطاء مثل فيزيولوغوس، الذي اكتشف أن عادات إحدى الرخويات أو عادات فرس بحري، أو أي كائن آخر، إنما تذكر على نحو مفعم بالحيوية بشخص المسيح، كما ضمت أشخاصاً على درجة قصوى من الرهافة. وقد ضمت بالدرجة الأولى آلافاً مؤلفة من الأساقفة، الذين ابتدعوا كل الهرطقات الرائعة، العرفانية والآريوسية ومذهب وحدة طبيعة المسيح ومذهب وحدة مشيئته، وهناك أقامت هيلين بينما كانت امرأة أخرى جد شبيهة بها محاصرة في طروادة، وهناك قصت ملكة شعرها الذي سبح بعد ذلك في الفضاء ليصبح مجموعة من الكواكب. ولكن ما علاقة ذلك كله بالسيد كافافي؟
ليس من الصعب إدراك الصلة، ففي إحدى قصائده المنشورة بالإنجليزية، يناشد السيد كافافي شاعراً أن يكتب أبياتاً قليلة عن شاعرٍ آخر مات لتوه، وهو يقول له:
رافاييل،
اكتب أبياتك بحيث يكون فيها،
تدري،
شيءٌ من حياتنا،
بحيث يكشف الإيقاع وكل جملة
أن سكندرياً يكتب عن سكندري
وهو، علاوة على ذلك، سكندري مات في عام 610. وسرعان ما تدرك أن السيد كافافي هو أيضاً سكندري، ليس سكندرياً معاصراً فقط (فلا أحد يشك في حداثته) بل إنه سكندريٌ ينتمي إلى الإسكندرية القديمة، المركبة، جد المرهفة، وربما المتحضرة أكثر من اللازم. إنه، من الناحية الظاهرية، يبدو بسيطاً كالبحر الأزرق الرائق أو محطة السكك الحديدية، وقصائده تتحدث عن شاهدة قبر أو حفل تتويج أو عن إنسان من المفترض أنه ميت، لكنه يختبر القيم دائماً، قيم الموضوعي وقيم الذاتي، القيمة الذاتية للموضوعي. وهو إلى بهجة ثيوكريتوس يضيف ريبية لوكيانوس، الذي يجد غراماً في الاستشهاد به. كما أنه سكندري يكتب للسكندريين، ولذا فإنه سوف يلجأ إلى التلميح لا إلى التصريح، وهو على يقين من أشياء متناقضة كثيرة، لكنه لا يتمسك بهذا اليقين في الوقت الواحد إلاَّ فيما يتعلق بشيءٍ واحدٍ من هذه الأشياء. ولذا فإنه يدعو أنطونيو إلى التحلي بالشجاعة عندما يسمع في منتصف الليل موسيقى الرب الذي يتخلى عنه:
اقتَرِب من النافذة ثابت الجنان
وانصت وأنت مفعمٌ بالعاطفة الجياشة
لا بتوسلات وضراعات الجبان
(آه، ياللغبطة السامية!)
انصت إلى النغمات،
إلى الآلات الموسيقية الرائعة للجوقة الخفية، وودعها،
ودع الإسكندرية التي تفقدها.
أو أنه يرى قيمة الحذر، كما في حالة أحد الوثنيين القلائل الذين كانوا لايزالون هناك:
في العلن كان يتظاهر بأنه مسيحي
وكان يذهب إلى الكنيسة
فقد كان ذلك هو زمن حكم جوستين العجوز
المستند إلى إفراط في التقوى:
وكانت الإسكندرية،
المدينة الخائفة من الرب،
تمقت الوثنيين المكروهين.
فما دام العقل يحتفظ برجاحته، فإن الإهاب الذي يرتدي ثياباً يمكن أن يتصرف كما يجب. وهكذا، فمع أن قصائده قد تبدو بسيطة، فإن في داخلها دائماً شيءٌ مُرَكَّبٌ إلى حدٍ بعيد، شيءٌ معقد تَعَقُّدَ مدينته، التي لا يبرحها أبداً. إنه شبيهٌ بشاهدة القبر التي كتب عنها، والتي لا يمكنه أن يفك مما كُتب عليها من كلمات غير كلماتٍ قليلة، بينما تبقى بقية الكلمات موضوعاً لفعاليات التخيل. لكنه، بطبيعة الحال، يترك هذه البقية لفعاليات تخيلٍ مرهفٍ ولا ينسى تزويد هذه الفعاليات بشارة هادية بارعة.
وبما أنني أجهل "الديموطيقية المعتدلة" التي يكتب بها، فإنني لا أستطيع الحديث عن لغة قصائده. ولا مفر بالطبع من أن تفقد شيئاً في الترجمة، حتى عندما يقوم بها على نحوٍ رائع مترجم كالسيد ج. فالاسوبولو. ولكن حتى مع بساطة أسلوبها الواضحة فإنها تشهد على أصالة عميقة. إنها لا تذهلك بأنها بسيطة، فقصائد السيد كافافي لا تذهلك. بل تتسرب برقة إلى نفسك، دون ادعاء، لكن بثقة ودون أن تواجه مقاومة بالمرة. إنها كحديثه من حيث إنها تبدو وكأنها تدور عن شتى أنواع الأمور. وهو قد يتحدث عن ترام الإسكندرية أو عن البطالمة أو عن استعمال كلمة ما في إنجليزية القرن السابع عشر: فنادراً ما يعرف المرء عن أي شيءٍ تحدث مع السيد كافافي. وطبيعي أن القصائد أكثر تركيزاً، فمن المؤكد أنها أعمال فنية، لا حياة، وهي تنفذ إلى صميم الأشياء، متخليةً عن تشعبات وتفرعات الحديث، لكنك في كل من حديثه وقصائده تحس أنك لا تناقش بالفعل الموضوع الظاهري بل الشيء الذي ينطوي عليه ذلك الموضوع، سواءٌ أكان ذلك الموضوع هو الترام أم تتويج قيصرون، فهذه الموضوعات ليست غير رموز لشيء آخر. وهكذا فإن كلاً من حديثه وقصائده يخلف لديك نكهة ما، شيئاً لم تصادفه قط من قبل، صوتاً معلقاً في الهواء، جملة تتدفق في الوعي، مع ما يصاحب كل ذلك من إحساس بشيء قديم إلى درجة لا تصدق وإن كان يظل مع ذلك فتياً، بشيء جرت معايشته على نطاق واسع وإن كان حياً بشكل متدفق، بشيء سخي لكنه لا يعرف المساومة، بشيء عليم بالإنسانية يجعلك تشعر بالإمتنان لواقع أنه مع أن السيد كافافي قد يكون سكندرياً يكتب للسكندريين، فإنه أيضاً شاعر يمكنه التحدث، أحياناً، للأغراب.
"لا سومين إيجيبسيان الفرانكوفونية اليونانية المصرية"
25 أبريل 1929
ترجمة بشير السباعي
0 التعليقات:
إرسال تعليق