شاهدة قبر

والتر دو لا مار
(1873 - 1956)


هنا ترقدُ سيدةٌ فائقةُ الجمال:
كانت خفيفةَ الخطوةِ والقلب؛
أظن أنها كانت أجملَ سيدةٍ
عاشت في البرِّ الغربي.
لكن الجمالَ يزولُ؛ الجمال يرحلُ؛
مهما كان نادراً – وليكن نادراً؛
وعندما أَسقُطُ، مَن الذي سيتذكر
سيدةَ البَرِّ الغربي هذه؟



ترجمة بشير السباعي
عن الأصل الإنجليزي

الوغد


و. هـ. ديفيز




بينما كانت البهجةُ تمنحُ الغمامَ ضوءَ النجوم،
المشرقَ أينما تَطَلَّعَت؛
بينما كانت الجِراءُ والحملان تترنح رُكَبُها من النشوةِ
وهي ترضع من أثداءِ أمهاتها؛
بينما كان كُلُّ طائرٍ يستمتعُ بأغنيتهِ،
دون أدنى تفكيرٍ في الإيذاءِ أو الشر –
حَوَّلتُ بصري فرأيتُ موجَ الريح،
غير بعيدٍ عن المكان الذي أنا فيه،
يجذبُ الحنطةَ من ضفائرها الذهبيةِ،
إلى غابٍ مظلمٍ منعزل.



ترجمة بشير السباعي
عن الأصل الإنجليزي

الطينة والحصاة


ويليام بليك



’الحبُّ لا يرومُ مَسَرَّةً لنفسه
’ لا يهتمُّ البتةَ بنفسه
’ بل يَهَبُ الآخرَ سكينته،
’ ويبني جَنَّةً في يأسِ الجحيم ‘


هكذا غَنَّت طينةٌ ضئيلةٌ
داستها أقدامُ البهائم،
لكنَّ حصاةَ غديرٍ
صَدَحَت بهذه الأبياتِ رداًّ عليها:

’ الحبُّ لا يرومُ سوى مسرة لنفسه
’ وإلزام آخر بمتعته،
’ يَفرحُ لفقدانِ الآخر سكينته،
’ ويبني جحيماً في خُبثِ طَوِيَّةِ الجنة. ‘


ترجمة بشير السباعي
عن الأصل الإنجليزي

نحو تعريف للعلمانية الفرنسية


بقلم: موريس باربييه

ترجمة: بشير السباعي

درستُ في مقال سابق الأسئلة التي يطرحها قانون عام 1905 حول الفصل بين الكنائس والدولة والتعديل الذي لابد أن يطرأ عليه لأجل تكييفه مع الظروف الراهنة ومع المشكلات التي يطرحها الإسلام(1). ويجتمع الاحتفال بالذكرى المئوية لهذا القانون مع وجود طائفة مسلمة مهمة في فرنسا ليعيد تدشين النقاش حول العلمانية بشكل ملح. وهذا النقاش لم يعد يهم فقط المتخصصين في مختلف الفروع المعرفية (التاريخ، القانون، الفلسفة، علم الاجتماع...)، بل إنه قد دخل إلى المجال العام وهو يهم من الآن أعلى مستويات الدولة (رئيس الجمهورية، الحكومة، البرلمان). وفي هذه الظروف، فإن تأملاً جديداً حول العلمانية إنما يفرض نفسه، سعياً إلى تحديد هذا المفهوم وتحديد مستواه وسعياً إلى دراسة تطبيقه العملي، في آن واحد.

والحال أنه في حين أن العلمانية قد بدت مكتسبة بشكل نهائي ومقبولة من الجميع، فإنها إنما تخرج من النقاش الذي يدور حولها منذ نحو خمسة عشر عاماً وقد طرأ عليها تحول محسوس. والواقع أنه يجري طرح مفاهيم عنها جد متنوعة، تجر أحياناً إلى نتائج متباينة، بل ومتعارضة. وكل واحد يفسر العلمانية من زاوية وضعه وحاجاته أو رغباته. وهناك خلاف حول أسلوب تطبيق العلمانية في حالات ملموسة معينة. والمتخصصون أنفسهم لهم تصورات عنها مختلفة، وهو ما لا يمنعهم من توسيع مجالها إلى حد بعيد. والواقع أن حشد الدراسات (عشرات الكتب ومئات المقالات) المكرَّسَة لمفهوم العلمانية إنما يؤدي إلى إغراقه في الضباب بدلاً من توضيحه. فهذا الحشد من الدراسات يسهم في إضفاء طابع نسبي على مفهوم العلمانية وفي جعله ملتبساً، إذ يبعد به عن معناه الفعلي. وباختصار، يمكن القول إن العلمانية لم تعد فكرة بسيطة وواضحة، يسهل فهمها وتطبيقها. فقد أصبحت فكرة ملتوية أو معدَّلَة أو حتى مشوهة. وبدعوى إعادة التفكير فيها وتجديدها مرة أخرى، يمكن إضعافها أو تحويلها عن مسارها أو نسيانها دون وعي أو حتى التحايل على زحزحتها من موقعها. ولذا فمن المهم التساؤل عن طبيعتها الدقيقة واقتراح تعريف دقيق لها، مع الإشارة إلى النتائج العملية التي تترتب عليها.


الاتجاه إلى توسيع تعريف العلمانية

الواقع أنه ليس من السهل تقديم تعريف مُرضٍ للعلمانية، حتى وإن كانت هناك بالفعل عدة مفاهيم عنها(2). ومن المؤكد أن بوسعنا قول إن العلمانية تتمثل إمّا في الفصل بين الدولة والدين، أو في حياد الدولة في الشأن الديني. وعندئذ سنتكلم عن العلمانية ـ الفصل والعلمانية ـ الحياد، دون أن نعرف ما إذا كان هذان التعريفان متطابقين أو ما إذا كان أحدهما أفضل من الآخر. وفي جميع الأحوال، يتميز هذان المفهومان بمأثرة البساطة والوضوح وهما مقبولان من حيث المبدأ. إلاّ أننا عادة ما نجدهما غير كافيين وناقصين ومختزلين إلى حد ما وجد فقيرين. كما أن من مثالبهما أنهما يدوران حول الدولة، وهو ما لا يعد في صالحهما، وذلك بالنظر إلى عدم الارتياح الذي أخذ يحيط بالدولة. وعندئذ يجري السعي إلى إثراء مفهوم العلمانية، بمنحه محتوى أكثر أهمية وبتوسيعه توسيعاً كبيراً جداً. ونحن هنا بإزاء اتجاه عام، يتجلى بشكل متزايد باطراد منذ نحو خمسة عشر عاماً، إلى درجة أنه يصبح سائداًَ، بل وحصرياً. ويتألف هذا الاتجاه من مماهاة العلمانية بمفاهيم مرتبطة بها إلى هذا الحد أو ذاك لكنها مختلفة عنها بالتأكيد: حرية الضمير والدين، التسامح، التعددية، المساواة، العقل، الديموقراطية، إلخ. كما يجري السعي إلى منحها محتوى إيجابياً وملمحاً ملموساً، لجعلها جذابة وقادرة على كسب الأنصار إلى صف قضيتها. والواقع أن هذا الموقف، بالرغم من ادعائه الدفاع عن العلمانية وإنماء نفوذها، إنما يجازف إلى حد بعيد بإساءة فهمها أو بتحويلها عن حقيقتها أو حتى بالتحايل على استبعادها.

وأحد الأمثلة الأحدث والصارخة على هذا الاتجاه إلى توسيع مفهوم العلمانية توسيعاً مسرفاً إنما يقدمه تقرير لجنة ستازي (ديسمبر/ كانون الأول 2003)، التي كانت مكلفة بتحديد هذا المفهوم وبدراسة تطبيقه، والتي ضمت عدة متخصصين مشهورين في هذه المسألة. فالواقع أن هذا التقرير يعرض العلمانية بشكل بالغ التشوش، إذ يقوم بتضخيمها تضخيماً مصطنعاً، كما يقوم بتوسيعها توسيعاً سخياً. ويعلن التقرير، في مقدمته، أن العلمانية "تستند إلى ثلاث قيم لا يمكن الفصل بينها: حرية الضمير، المساواة القانونية بين الخيارات الروحية والدينية، حياد السلطة السياسية". والحال أن هذه الصياغة إنما تعد محل جدل بالفعل، وذلك لأنها تُدخل في العلمانية، دون وجه حق، حرية الضمير والمساواة الحقوقية بين الأديان. ثم إنها تقصر الحياد على السلطة السياسية، في حين أنه يخص مجمل الدولة أو المجال العام. ولمزيد من التشوش، يقترح التقرير بعد ذلك تحليلين متمايزين للعلمانية في جزئيه الأولين اللذين من الواضح أنه لم يجر التوفيق بينهما. وهو يبدأ بتقديم العلمانية على أنها "مبدأ عالمي شامل" صاغه التاريخ، بيد أنه ينتقل إلى تقديمها على أنها "مبدأ حقوقي" يستند إلى نصوص مختلفة. والحال أن هذين التحليلين إنما يعدان مختلفين وأحياناً متعارضين بشكل محسوس. فالتحليل الأول، الأكثر تميزاً بالطابع الفلسفي، إنما يجعل حياد الدولة نسبياً، بينما التحليل الثاني، وكله حقوقي، يجعل من هذا الحياد العنصر الجوهري في العلمانية.

ويؤكد التقرير في جزئه الأول أن " العلمانية لا يمكن اختزالها في حياد الدولة"، بيد أنها تتضمن أربعة "مبادئ رئيسية (الفقرة 1-2): 1) "استقلال السلطة السياسية ومختلف الخيارات الروحية أو الدينية" (وهو ما يعني غياب التدخل السياسي في الشأن الديني وغياب سيطرة الأديان على السلطة السياسية)؛ 2) ضمان حرية الضمير والعبادة، والذي يمثل "المحتوى الإيجابي" للعلمانية؛ 3) واجب الأديان والمؤمنين بها في بذل جهد من أجل التكيف والاعتدال بما يسمح بقيام حياة مشتركة، وذلك في مقابل ضمانات وحمايات تقدمها لهم الدولة؛ 4) ضرورة العيش المشترك وبناء مصير مشترك، وهو ما يقود إلى المماهاة عملياً بين العلمانية و"الميثاق الجمهوري". وهذه المبادئ الأربعة، مأخوذة بحد ذاتها، مبادئ صحيحة تماماً ومقبولة. بيد أن المبدأ الأول هو وحده الذي يشكل بالفعل ركناً من أركان العلمانية، بالرغم من أنه لا يتعلق إلاّ بالسلطة السياسية ويتحفظ حيال ذكر حياد الدولة. أمّا المبادئ الأخرى الثلاثة فهي تتجه إلى مفهوم جديد للعلمانية، يعد مفهوماً متضخماً بشكل محسوس وموسَّعاً بشكل ملحوظ. ويجري التشديد بشكل خاص على حرية الضمير والدين وعلى التنوع الروحي والحياة المشتركة. وبحكم ذلك، لا تعود العلمانية غير وسيلة في خدمة هذه الغايات، وهي غايات جوهرية كما هو واضح. بل إن العلمانية إنما تميل إلى التماهي مع هذه الغايات والذوبان فيها. ومن ثم، تملك هذه الغايات الصدارة على العلمانية ويمكن لهذه الأخيرة أن تتلاشى إذا كان ذلك ضرورياً لبلوغ هذه الغايات. والحال أن الجزء الثاني من التقرير قلّما يعد مرضياً أكثر من الجزء الأول. فهو يؤكد أن المبدأ الحقوقي للعلمانية يتضمن عنصرين: حياد الدولة وحماية حرية الضمير والعبادة. ومن الواضح أن العنصر الأول بشكل جزءاً من العلمانية، بيد أن هذا الحياد لا يجري تعريفه وتجري مماهاته بالمساواة أمام القانون، وهو أمر محل جدل إلى حد بعيد. ثم إن حرية الضمير والعبادة، كما أسلفنا الإشارة، لا تشكل جزءاً لا يتجزأ من العلمانية، حتى وإن كانت هناك صلة بين الاثنتين. وأخيراً، فمن الغريب جداً، في هذين التحليلين للعلمانية، أن فكرة الفصل بين الأديان والدولة يجري نسيانها تماماً، كما لو أنها لم تعد لها أي قيمة. والحال أن الاتجاه السائد الآن إلى تضخيم وتوسيع مفهوم العلمانية، والذي يتجلى في تقرير لجنة ستازي، إنما يقود إلى إدخال تحويل محسوس على العلمانية، بل وإلى حذفها فعلياً، إذ يجري نسيان خصوصيتها التي تميزها وإذ يجري خلطها بمبادئ مختلفة عنها.

العلمانية، مفهوم سلبي

حيال التشوش والالتباس اللذين يميزان الآن العلمانية الفرنسية، بات من الضروري أن نحدد هذا المفهوم تحديداً أفضل، عبر استبعاد توسيعاته غير الجائزة وتفسيراته الذاتية(3). ووصولاً إلى هذه الغاية، يجب الاستناد إلى أساس راسخ وأكيد. وبما أن المسألة مطروحة في إطار فرنسا والدستور الفرنسي، فلا يمكن لهذا الأساس أن يكون سوى النصوص الحقوقية نافذة المفعول: دستور عام 1958 (مع النصوص الأخرى ذات القيمة الدستورية) (4) والقوانين ذات الصلة (خاصة قانوني عام 1882 وعام 1886 بشأن علمانية المدرسة وقانون عام 1905 بشأن الفصل بين الكنائس والدولة).
ومن حيث المبدأ، فإن المعالجة التي يجب اتباعها تبدو بسيطة وسهلة، لكنها، في الواقع، مزروعة بالأكمنة المحتجبة كما أن النصوص الحقوقية تحتفظ بمفاجآت. فأولاً وقبل كل شيء، لا تستخدم هذه النصوص الحقوقية البتة الموصوف "العلمانية"، بل تستخدم الصفة فقط "علمانية". وهذه الصفة تستخدم ثلاث مرات، ولكن بمعان مختلفة: 1) في قانون عام 1886، الذي يفرض "هيئة تدريس علمانية" في المدرسة العامة، وهو ما لا يستبعد الكهنة وأعضاء الرهبانيات الدينية؛ 2) في ديباجة دستور عام 1946، التي تنص على تنظيم "التعليم العام المجاني والعلماني" في جميع المراحل التعليمية، وهو ما يعني استبعاد التعليم الديني؛ 3) في دستور عام 1958، الذي يؤكد، كدستور عام 1946، أن فرنسا "جمهورية علمانية"، وهو ما يستبعد الدين من الدولة. وهكذا نجد أن النصوص الرسمية لا تتجاهل فحسب الموصوف "العلمانية"، بل إنها تستخدم أيضاً الصفة "علمانية" بمعان مختلفة، يشير إليها السياق. لكن المقصود، في الحالات الثلاث، هو استبعاد الدين (أو ممثليه) من المجال العام (الدولة أو المدرسة). وهذا البعد الخاص بالاستبعاد يجازف بنسيانه في زمن يشدد بدلاً من ذلك على الدمج. والواقع أن العلمانية لها طابع سلبي، بينما يشار عادةً إلى جانبها الإيجابي.

وفي المقام الثاني، نجد أن علمانية الجمهورية، التي أكد عليها دستور عام 1958، لا تلقى تعريفاً في أي مكان [من الدستور] كما لم توضحها سوى المناقشات البرلمانية التي أدت إلى إدخالها في دستور عام 1946. والحال أن هذه المناقشات إنما تكشف عن مفهومين، على الأقل، للعلمانية مختلفين: فالعلمانية، في نظر البعض، يتم تعريفها على أنها الفصل بين الكنائس والدولة، وهو الفصل الذي قام به قانون عام 1905؛ وفي نظر البعض الآخر، تتألف العلمانية من حياد الدولة حيال الأديان، وهو ما يستتبع احترام الدولة للحرية الدينية. ومن الناحية الظاهرية، لا يوجد فارق جوهري فيما بين هذين المفهومين للعلمانية، واللذين تعايشا دون تعارض خلال مناقشات عام 1946. على أنهما ليسا متطابقين وسوف يظهر تباينهما فيما بعد. ويبدو أن دستور عام 1958 يفضِّلُ المفهوم الثاني، فمادته الأولى تؤكد أن فرنسا "تحترم جميع الأديان"، وهي صيغة أضيفت في آخر لحظة وتم إقرارها دون دراسة (ولا مراء في أن الهدف من إضفائها هو طمأنة الكاثوليك). وفي هذه الظروف، يمكن تعريف العلمانية الدستورية بأنها حياد الدولة في الشأن الديني، وهو ما يؤكد الطابع السلبي للعلمانية.

لكن قانون عام 1905، الذي لا يتحدث بشكل سافر عن العلمانية، إنما يقترح مفهوماً آخر لها، وذلك بتحقيقه الفصل بين الكنائس والدولة. والحال أن هذا التعبير، الذي لا يظهر في نص القانون، بل في عنوانه فقط، إنما يفتقر، بالرغم من المظاهر، إلى الوضوح. فالواقع أن هذا الفصل ينحصر في عنصرين محدَّدين، ثم إنهما عنصران سلبيان: غياب الاعتراف بالعبادات وغياب تمويلها العام على شكل مرتبات أو إعانات. ومن ثم فإن هذا الفصل لا يتألف إلاّ من إنهاء نظام العبادات الذي كان معتَرَفَاً به، والذي دشنه اتفاق الوفاق [بين الدولة والكنيسة] في عام 1801 والمواد القانونية الصادرة في عام 1802. بيد أن عدة مواد في قانون عام 1905، خاصة المواد المتعلقة بالجمعيات العبادية ومصير دور العبادة، إنما تشير إلى أن الدولة تندمج بشكل غير واعٍ في المجال الديني وتحد من حرية العبادة بشكل تعسفي: ومن ثم فإن هذه المواد تتعارض مع الفصل التام [فيما بين الكنائس والدولة].

ثم إن المادة الأولى من هذا القانون تؤكد (أو بالأحرى تعيد تأكيد) حرية الضمير وحرية العبادة. والواقع أنه لا جديد البتة في ذلك، لأن حرية الضمير كان قد جرى الاعتراف بها بالفعل عبر إعلان عام 1789 (المادة العاشرة) وكانت حرية العبادة قد جرى الإقرار بها على نحو متصل منذ دستور عام 1791. ومن ثم، فقد وجدت هاتان الحريتان قبل العلمانية وبوسعهما أن توجدا دونها، كما تثبت ذلك حالة البلدان التي لا تعرف العلمانية لكنها تحترم الحرية الدينية كل الاحترام. ومن ثم فهما غريبتان عن مفهوم العلمانية بمعناه الأصيل ولا يمكنهما التدخل في تعريفه. والقول نفسه صحيح عندما يراد تعريف العلمانية بالتسامح أو بالتعددية الدينية أو حتى بالديموقراطية، فهذه كلها يمكن فصلها عن العلمانية ويمكن أن توجد دونها، كما هي الحال في بريطانيا العظمى وفي البلدان السكانديناڤية. وتتطلب الدقة حصر العلمانية في جانبها السلبي، لأن القانون الفرنسي يقود إلى اعتبارها مفهوماً سلبياً بشكل خالص: فبحسب قانون عام 1905، تتألف العلمانية من غياب الاعتراف بالديانات ومن انتفاء تمويلها، وتعني العلمانية، بحسب الدستور، استبعاد الدين من المجال العام والدولة.


العلمانية التشريعية والعلمانية الدستورية

في ختام هذا التحليل، يمكن التوصل إلى محصلة أولى. بحسب النصوص الحقوقية سارية المفعول ـ وهي النصوص الوحيدة التي يجب أخذها بعين الاعتبار ـ، يوجد في فرنسا نوعان من العلمانية مختلفان: من جهة، العلمانية التشريعية، التي أقامها قانون عام 1905، والتي يمكن تسميتها بالعلمانية ـ الفصل، وهي معرَّفة تعريفاً واضحاً؛ ومن جهة أخرى، العلمانية الدستورية، التي دشنها دستورا عام 1946 وعام 1958، وإن كنا نجهل طبيعتها المحدَّدة، نظراً إلى غياب تعريف رسمي لها. والعلمانية الأولى واضحة، لكن الثانية ليست واضحة. وهو أمر يدعو إلى أسف أكبر وذلك بقدر ما أن الدستور له قيمة حقوقية أعلى من قيمة القوانين ومن ثم بقدر ما أن العلمانية الدستورية لها الصدارة، من حيث المبدأ، على العلمانية التشريعية(5). ومسألة العلاقات بين الدولة والأديان مهمة بما يكفي بحيث يتوجب أن تظهر بشكل واضح ودقيق في الدستور، كما هي الحال في البلدان الأوروبية الأخرى. والحال أن الدستور الفرنسي، وهذا أمر غريب، إنما يظل قاصراً فيما يتعلق بهذه المسألة، وهو الأمر الذي لا مراء في أنه علامة على قلق سياسي غير معلن وعلى مشكلة لم يتم حلها حلاًّ موفقاً منذ الفصل [بين الكنائس والدولة] في عام 1905.

ولسد هذه الثغرة ولإخفاء هذه المشكلة، جرى عادةً اعتبار أن العلمانية الدستورية لا تختلف عن العلمانية التشريعية، الأمر الذي يبدو أن نقاشات عام 1946 تسمح بتصوره. والواقع أن هذا الموقف قابل للنقاش، بل إنه مستحيل، وقد جاء الوقت الذي يسمح بإدراك ذلك، مما ينذر بإثارة قدر من المتاعب: فالعلمانية الدستورية لا يمكن أن تكون مطابقة للعلمانية التشريعية. والوضعية الخاصة للعبادات في الألزاس ـ الموزيل هي التي تقود إلى هذا الاستنتاج. فالواقع أن هذه المحافظات الشرقية الثلاث، بعد عودتها إلى فرنسا في عام 1919، قد احتفظت بنظام العبادات المعترف بها هي وتمويلها العام، وقانون الفصل [بين الكنائس والدولة] لعام 1905 لا ينطبق عليها. على أن هذا الوضع لا يتعارض مع الدستور (الذي لا مراء في أنه ينطبق على هذه المحافظات الثلاث) كما لا يتعارض مع العلمانية الدستورية. وترتيباً على ذلك، لا تتعارض العلمانية الدستورية مع الاعتراف بالعبادات كما لا تتعارض مع تمويلها العام، ومن ثم فهي مختلفة بالضرورة عن العلمانية التشريعية.

وهذا التأكيد، الذي يبدو مفاجئاً، يمكن البرهنة عليه حقوقياً. فالواقع أن الاعتمادات الموجَّهة لتمويل العبادات المعتَرَف بها في الألزاس ـ الموزيل تظهر كل سنة في موازنة الدولة، والتي هي موضع قانون خاص بالشئون المالية. والحال أن مشكلة تماشي هذا الإجراء مع الدستور لم تُطرح قط ولم يجر التفكير قط في إخضاعها لرقابة المجلس الدستوري. ومن جهة أخرى، تجنب هذا الأخير بحكمةٍ إصدار رأيه حول هذه المسألة، في حين أنه كانت أمامه فرصة واحدة على الأقل لعمل ذلك في ديسمبر/ كانون الأول 1994، عندما نَظَرَ في قانون الشئون المالية لعام 1995. ويمكن أن نستنتج من ذلك أن أحداً لا يعتبر أن هذا التمويل يتعارض مع الدستور. ومن ثم تجبرنا حالة الألزاس ـ الموزيل على تصور أن الاعتراف بالعبادات وتمويلها العام لا يتعارضان مع العلمانية الدستورية، وهو ما يؤكد أن هذه الأخيرة مختلفة عن العلمانية التشريعية. ويترتب على ذلك أنه لن يكون من قبيل التعارض مع العلمانية الدستورية منح تمويل عام لبناء المساجد أو لتدريب أئمة فرنسيين. بيد أنه سيتوجب عمل ذلك استناداً إلى قانون، وإلاّ فسوف يكون من الضروري تعديل قانون عام 1905 (وهو ما تم عمله من جهة أخرى في عام 1920 لأجل مسجد باريس).

ومن المؤكد أن هذا لا يحدد ممَّ تتألف العلمانية الدستورية، ولا ما يميزها عن العلمانية الأخرى. بيد أن هذا يمكنه الإسهام في ذلك، إذا ما أعدنا قراءة المناقشات البرلمانية لعام 1946، والتي قدمت مفهومين للعلمانية: والحال أن المفهوم الأول ـ العلمانية ـ الفصل ـ لا يمكنه توضيح العلمانية الدستورية؛ أمّا المفهوم الآخر ـ العلمانية ـ الحياد ـ فهو وحده الذي يمكنه توضيحها. ويمكن أن نستنتج من ذلك أن العلمانية الدستورية إنما تتحدد بحياد الدولة في الشأن الديني وليس بالفصل بين الكنائس والدولة. وهذا الاستنتاج مشروع من الناحية الحقوقية بما يكفي لاعتباره أكيداً. ويمكن تأكيده بالصيغة التي تقرر أن فرنسا "تحترم جميع الأديان"، والتي تنسجم تماماً مع حياد الدولة. كما أن هذه الصيغة تجري استعادتها في الرأي الاستشاري الذي قدمه مجلس الدولة في 27 نوڤمبر/ تشرين الثاني 1989، والذي يحلل علمانية التعليم والدولة من زاوية حياد المدرسين والبرامج والخدمات العامة. غير أنه يجب تحديد هذا المفهوم الخاص بحياد الدولة، والذي يمكن أن ينطوي على معنيين مختلفين. فهو يشير أولاً إلى غياب أو استبعاد الدين من المجال العام للدولة. ويمكننا عندئذ التحدث عن حيادٍ ـ فصلٍ، وهو ما يذكِّرُ بالطابع السلبي للعلمانية. كما يشير الحياد إلى عدم تحيز الدولة حيال الأديان، التي تعاملها بشكل متساوٍ، دون أن تتميز هي نفسها بطابع ديني، كما في حالة الألزاس ـ الموزيل. وعندئذ يمكننا الحديث عن حيادٍ ـ عدم تحيز، وهو ما يعني مساواة فيما بين الأديان(6).

وللمرة الأولى، أبدى المجلس الدستوري مؤخراً رأيه في مبدأ العلمانية وأشار إلى مفهومه عنه. وقد فعل ذلك في قرار صدر مؤخراً بتاريخ نوڤمبر/ تشرين الثاني 2004 (no 505 DC)، حيث فسر المادة الأولى من الدستور والتي تقرر أن "فرنسا جمهورية علمانية". فهو يؤكد أن الترتيبات المترتبة على هذه المادة "تحظر على أي إنسان التذرع بمعتقداته الدينية لكي يعفي نفسه من القواعد العامة التي تنظم العلاقات فيما بين الهيئات العامة والأفراد". ومن المؤكد أننا لسنا هنا بإزاء تعريف جازم وتام للعلمانية، بيد أن هذا هو أول تفسير رسمي تقدمه للعلمانية أعلى سلطة حقوقية.

وبوسعنا أن نميز في هذا التفسير أربع نقاط مختلفة: 1) فأولاً وقبل كل شيء، تطرح العلمانية حظراً، يجد ترجمة له في تقييد للحرية الدينية، وهو ما يؤكد الطابع السلبي لمفهوم العلمانية، إذ أن كل تقييد يعد سلباً؛ 2) وهذا الحظر موجه إلى الأفراد ويتعلق بشكل أكثر تحديداً بعلاقاتهم بـ"الهيئات العامة"، وهذا تعبير جد واسع يشمل الدولة والهيئات الإقليمية والإدارات والمصالح العمومية؛ 3) ويتصل هذا الحظر بمعتقدات الأفراد الدينية، ليس بهدف تقييدها، وإنما سعياً إلى استبعاد تدخلها أو تأثيرها في العلاقات بين الأفراد والهيئات العامة؛ 4) وأخيراً، يهدف هذا الحظر إلى إلزام الأفراد باحترام القواعد العامة في هذه العلاقات، دون أن يكون بوسعهم إعفاء أنفسهم منها بسبب صدارة هذه القواعد على المعتقدات الشخصية.

بيد أن مفهوم العلمانية هذا غير كافٍ ولا يتطابق مع تعريف تام وشامل. فالواقع أن العلمانية لا تتعلق فقط بالأفراد لأجل تقييد حريتهم الدينية. فهي تتعلق أيضاً بالدولة والإدارات والمصالح العمومية، لأجل فرض الحياد عليها في الشأن الديني، كما سبق وأن رأينا ذلك. وهذه الفكرة، التي سبق لنا تدقيقها، إنما تعد ضرورية لتعريف العلمانية بشكل كامل. وإذا ما جمعناها بالمفهوم الذي صاغه المجلس الدستوري، فسوف يكون بوسعنا التوصل إلى مفهوم مرضٍ للعلمانية.

وبما أن الدستور أعلى من القانون، فقد نجد إغراءً في الإعلاء من شأن العلمانية ـ الحياد على حساب العلمانية ـ الفصل [بين الكنيسة والدولة]، بل وفي الاستعاضة بالأولى عن الثانية. ومن المؤكد أن هذا ممكن تماماً، ولكن بشرط أن لا ننسى أن الحياد من نوعين. فالحياد ـ الاستبعاد يتطابق مع الحياد ـ الفصل، المعرَّف بأنه غياب الاعتراف بالعبادات وغياب تمويلها. بل إنه يشير، بشكل أوسع، إلى استبعاد الدين من المجال العام. أمّا فيما يتعلق بالحياد ـ عدم التحيز، فهو يعني أيضاً استبعاد الدين من الدولة، لأن هذه الأخيرة لا يمكن أن تكون غير متحيزة إذا كانت هي نفسها ذات طابع ديني. بيد أن الحياد ـ عدم التحيز لا يمنع الدولة من أن تكون لها علاقات مع الأديان، عن طريق الاعتراف بها وعن طريق تمويلها، مثلاً. وترتيباً على ذلك، نجد أن العلمانية الدستورية، المعرَّفَةَ على أنها حياد بالمعنى المزدوج لهذا المصطلح، إنما تستوعب، كما هو واضح، العلمانية التشريعية، بيد أنها أوسع (أو أكثر مرونة)، لأنها تفرض على الدولة فقط أن تكون غير متحيزة في علاقاتها مع الأديان. ومن ثم فلا طائل من وراء الرغبة في الاستعاضة عن العلمانية التشريعية بالعلمانية الدستورية، لأن الأخيرة تستوعب الأولى بالضرورة. غير أن الأخيرة مختلفة عن الأولى وتتجاوزها، إذ تسمح للدولة بأن تكون لها علاقات متساوية مع الأديان. وهذا هو السبب في أن التمويل العام للعبادات المعتَرَفِ بها في الألزاس ـ الموزيل لا يتعارض مع العلمانية الدستورية.

وإذا كانت العلمانيتان متمايزتين ومتعايشتين، فإن هناك ما هو مشترك بينهما، ألا وهو استبعاد الدين من الدولة. وهذا يوضح طابع العلمانية السلبي بشكل جوهري. فعندئذ تجد العلمانية تعريفها في نفي الدين من داخل الدولة واستبعاده من المجال العام: ومن ثم فهي مفهوم سلبي، لا يتميز بمحتوى خاص. وهذا هو التعريف المضبوط والدقيق للعلمانية الفرنسية، على نحو ما ينبثق من القانون الراهن. وبوسع هذا التعريف أن يساعد أيضاً على تقدير الأشكال الأخرى للعلمانية وعلى قياس درجة الواقعية فيها.

وهذا الطابع هو الذي يسمح بأن نحصر جيداً الطبيعة الحقيقية للعلمانية، والتي لا هي قديمة ولا جديدة، كما أنها لا هي مفتوحة ولا مغلقة. ومن المؤكد أن بوسعنا اعتبارها مبدأً أساسياً، ولكن بدرجة خاصة، لأنها مبدأ سلبي، وهو ما لا يقلل من أهميتها. وهذا هو السبب في أننا نجازف بأن يختلط علينا الأمر فيما يتعلق بموضوعها، عندما نحاول أن نجعل منها فكرة أو قيمة إيجابية أو عندما نقترح منحها محتوى جوهرياً يخصها. والحال أن هذه المحاولة، كما رأينا، قد أصبحت جد متكررة، بل وعامة، وليس فقط عند مناضلي العلمانية، وإنما عند منظِّريها وعند المسئولين السياسيين والدينيين. ولسد فراغ العلمانية الجوهري، يجري منحها محتوى إيجابياً ووجهاً مطَمْئِناً وجذَّاباً. وعندئذ تجري مماهاتها بأكثر الحالات الواقعية تنوعاً. وهو ما يؤول إلى نسيانها أو إلى الابتعاد عنها. وهكذا، فما الذي يبقى من العلمانية عندما تجري مماهاتها بالحرية الدينية أو بالتسامح أو بالتعددية؟ إنها تصبح، ببساطة تامة، غير ذات طائل وعديمة الأهمية، لأن هذه الأشياء كلها يمكنها أن توجد دونها. والواقع أن هذا أسلوب ذائع وخبيث لتجريد العلمانية من قيمتها ولهجرها من الناحية الفعلية. والحقيقة، على العكس من ذلك، أن هناك أهمية للإبقاء على طابع العلمانية السلبي، بعدم مماهاتها بأي واقع إيجابي. فليس فيها ما هو جوهري في حد ذاتها هي، بالرغم من إتاحتها إمكانية الحرية والتنوع والتعددية في الشأن الديني.


العلمانية والحرية الدينية

إذا كانت العلمانية هي استبعاد الدين من المجال العام، فهي تشمل جانباً آخر، لا يشكل جزءاً من طبيعتها، لكنه يترتب عليها بالضرورة. فالواقع أنه لا يجري نفي الدين تماماً وبوسعه أن يكون موجوداً خارج الدولة، أي في المجتمع المدني، حيث يمكنه أن يُمَارَسَ وأن ينظم نفسه بحرية. والعلمانية ليست نفياً للدين إلاّ في داخل الدولة، وهو ما يسمح بتأكيده خارج الدولة ويسمح من ثم بوجود الحرية الدينية. وبهذا الشكل بالتحديد يمكن للحرية الدينية أن ترتبط بالعلمانية، دون أن تشكل جزءاً من جوهرها بمعناه الأصيل(7). وهذا هو السبب في أن النصوص الحقوقية الفرنسية المتعلقة بالعلمانية تؤكد في الوقت نفسه هذه الحرية الدينية وتخصص لها مجالاً يخصها خارج المجال العام. وهكذا نجد أن قانون عام 1882، الذي يستبعد الدين من التعليم العام، إنما يخصص له يوماً في الأسبوع خارج المواقع المدرسية. وقانون عام 1905 يبدأ بتأكيد حريتي الضمير والعبادة قبل أن يحقق الفصل بين الكنائس والدولة. وأخيراً، ففي النص على أن الجمهورية العلمانية "تحترم جميع المعتقدات"، يخصص دستور عام 1958 للدين مجال حرية. بل إن رأي مجلس الدولة الصادر في عام 1989 يؤكد أنه، بحسب الدستور، "ينطوي مبدأ العلمانية بالضرورة على احترام جميع المعتقدات"، مع أن هذا الاحترام نتيجة للعلمانية ولا يتماهى معها.

وبالطبع، يعد الاعتراف بالحرية الدينية مهماً أهمية استبعاد الدين من المجال العام. وهو يعني أن الدولة لا تتدخل في المجال الديني ومن ثم فإنها، بدورها، تعد مستبعَدةً من هذا الأخير. وهذا يفترض فصلاً كاملاً بين الدولة والمجتمع المدني، بين المجال العام والمجال الخاص، وهو ليس مجال الأفراد وحدهم، بل هو أيضاً مجال جماعات وجمعيات (ومن ثم مجال كنائس وطوائف دينية). وهذا هو السبب في أن الحرية الدينية هي في آن واحد فردية (حرية الضمير) وجماعية (حرية الطوائف الدينية). وهي تعني أن هذه الأخيرة تنظم نفسها وتعمل بحرية. ومن ثم فلا يمكن أن يُفْرَضَ عليها تنظيم خاص أو نظام قانوني خاص. وهكذا نجد أن وجود الاتحادات العبادية، على نحو ما تصورها قانون عام 1905، إنما يعد هو نفسه قابلاً للنقاش. فالواقع أنه يتعارض مع الحرية الدينية. وقد رفضت الكنيسة الكاثوليكية تشكيل هذه الاتحادات، إذ رأت أنها تشكل مساساً بحريتها وبتنظيمها. وبالرغم من التسوية المرضية التي تمت في هذا الموضوع في 1923- 1924 بين الكنيسة الكاثوليكية والدولة، فإن المشكلة الأساسية لا تزال قائمة، أي مشكلة تدخل الدولة في الشأن الديني. وهذا هو السبب في أنه سوف يتعين إعادة النظر في وضعية الاتحادات العبادية أو حتى الاستعاضة عنها باتحادات عادية (ينظمها قانون عام 1901)، مكلفة بدعم نفقات وصيانة دور العبادة ويمكن أن تكون مؤهَّلَة لتلقي التبرعات والهبات المستندة إلى وصايا معفاة من رسوم الأيلولة.

وإذا كانت النصوص الحقوقية الفرنسية تؤكد حريتي الضمير والعبادة منذ زمن بعيد، فسوف يكون من حق الحرية الدينية أن تظهر بشكل معلن في الدستور، كما هي الحال في البلدان الأوروبية الأخرى. والحال أن لها مجالاً أوسع بكثير و، منذ نصف قرن، جرى النص عليها وتوسيعها من خلال عدة اتفاقيات دولية تُلْزِمُ فرنسا. والمقصود بشكل رئيسي هو الاتفاقية الأوروبية بشأن حقوق الإنسان والتي تم التوصل إليها في عام 1950 (المادة التاسعة) والعهد الدولي للأمم المتحدة والخاص بالحقوق المدنية والسياسية والذي تم التوصل إليه في عام 1966 (المادة الثامنة عشرة) واللذان صدقت فرنسا عليهما في عام 1974 وفي عام 1980 بحسب الترتيب. وهذه الاتفاقيات تتجاهل فكرة العلمانية، بيد أنها تكرس للحرية الدينية مادة محدَّدَة وتفصيلية، تستعيد المادة الثامنة عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والصادر في عام 1948. وتؤكد هذه الاتفاقيات إلى حد بعيد حرية الفكر والضمير والدين، وهو ما يعني حرية تغيير الديانة أو العقيدة وحرية التعبير عن الديانة أو العقيدة، فردياً أو جماعياً، علناً(8) أو دون علانية، عن طريق التعليم والممارسات والعبادة وأداء الشعائر. وفي عام 1981، يشير قرار للجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة، بشكل أكثر تفصيلاً بكثير (ولكن دون قيمة إلزامية)، إلى محتوى الحرية الدينية، بتوسيعه توسيعاً كبيراً جداً.

ومع أن الحرية الدينية لا تشكل جزءاً من العلمانية على نحو جازم، إلاّ أنها لا تنفصل عنها البتة. وأحياناً ما يشجع ذلك على الحديث عن العلمانية ـ الحرية، بيد أن هذا تعسف في استخدام اللغة ليس دون خطر، إذ أن بوسعه أن يقود إلى مماهاة العلمانية بالحرية واختزالها فيها، وذلك بنسيان طبيعتها الحقيقية وبنزعها دون وعي. والواقع أن هذه المماهاة قد أصبحت جد رائجة في آن واحد عند المسئولين الدينيين (الكاثوليك والپروتستانت واليهود والمسلمين) وعند القادة السياسيين (من اليمين ومن اليسار)، بل وعند بعض المتخصصين في العلمانية. وعندئذ تتغلب الحرية الدينية على العلمانية، بل وتنتهي إلى الحلول محلها، وهو ما تترتب عليه بالضرورة نتائج عملية. وهكذا، فإذا كانت العلمانية تؤول إلى الحرية الدينية (أو إلى التسامح)، فإن من الواضح أن ارتداء العلامات الدينية في المدرسة العامة ممكن، مثلما يتصور ذلك كثيرون من المسلمين. وسوف يكون بالإمكان تقديم أمثلة أخرى تستلهم هذا المبدأ.

وهذا التفكير هو ما جرى طرحه في رأي مجلس الدولة الصادر في عام 1989، والذي كانت السيدة مارتين لاروك مقرِّرَته. فبحسب هذا النص، نجد أن علمانية التعليم تفرض، من جهة، حياد المدرسين والبرامج الدراسية وتفرض، من الجهة الأخرى، "احترام حرية الضمير لدى التلاميذ" (وهذا صحيح). بيد أن النص يضيف أن هذه الحرية "تتضمن بالنسبة لهم الحق في التعبير وفي الإفصاح عن معتقداتهم الدينية في داخل المؤسسات المدرسية" (وهذا أمر قابل للجدل إلى حد بعيد). ويترتب على ذلك أنه "في داخل المؤسسات المدرسية، لا يعد ارتداء التلاميذ لعلامات يريدون التعبير من خلالها عن انتمائهم إلى ديانة ما متعارضاً في حد ذاته مع مبدأ العلمانية، بقدر ما أنه يشكل ممارسة لحرية التعبير ولحرية الإفصاح عن المعتقدات الدينية". والواقع أن هذا التفكير إنما ينطوي على خطأين لم يجر الانتباه إليهما، حتى من جانب خصوم هذا الرأي. فمن جهة، لا تقتصر علمانية المدرسة العامة، بالنسبة للتلاميذ، على احترام حرية ضمائرهم: فهي تتألف بشكل جوهري من استبعاد الدين من المدرسة العامة ومن ثم تفرض على التلاميذ واجب التحفظ في تصرفاتهم، لأنهم متواجدون في موقع ينتمي إلى المجال العام. ومن الجهة الأخرى، نجد أن حرية ضمائر التلاميذ، والتي هي حرية داخلية، لا تعطيهم البتة "الحق في التعبير والإفصاح عن معتقداتهم الدينية" في المؤسسات المدرسية، لأننا نكون آنذاك بإزاء أفعال خارجية تقوم بإدخال الدين، دون وجه حق، في مجال المدرسة الذي هو مجال عام. ويترتب على ذلك أن رأي مجلس الدولة تعوزه الدقة ويعوزه السند الحقوقي، والاجتهاد القانوني الذي أنجبه قابل للجدل إلى حد بعيد، حتى وإن كانت غالبية المسئولين السياسيين قد وافقت عليه.

وفي هذه الظروف، ولأجل وضع نهاية لهذا الاجتهاد القانوني، الذي جرى الإبقاء عليه بسبب تقصير المشرِّع، كان من الضروري سن قانون لحظر العلامات الدينية في المؤسسات المدرسية العامة. وليس هذا الحظر غير نتيجة وتطبيق للعلمانية إذا ما فهمناها فهماً صحيحاً، والتي يتعين بموجبها استبعاد الدين وتجلياته من المجال العام. والحال أن القانون الذي اعتمدته في فبراير/ شباط ـ مارس/ آذار 2004 الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ (بأغلبية كبيرة جداً في الحالتين) قد حسم المسألة بشكل مرضٍ وبالقدر الضروري من الحكمة: فقد حظر "ارتداء العلامات أو الملابس التي يعبر التلاميذ من خلالها تعبيراً ظاهراً عن انتماء ديني". والحق أن هذا القانون كان، قبل وبعد اعتماده، موضع انتقادات أو تحفظات عديدة، فقد جرى طرح حجج مقنعة إلى هذا الحد أو ذاك تتصل بمدى ملائمته أو محتواه أو تطبيقه أو آثاره. وبسبب عدد وتعقيد هذه الانتقادات فليس بالإمكان النظر فيها هنا. إلا أن بالإمكان تقييم هذا القانون من زاوية العلمانية. فإذا كان القانون يذكر "مبدأ العلمانية" في عنوانه، إلاّ أنه يصمت بعد ذلك صمتاً تاماً حيال هذه المسألة، التي كانت جديرة بالتوضيح. وبوجه خاص، كان سيكون من المفيد تحديد أن هذا المبدأ يستبعد الدين من المجال العام ومن ثم من المؤسسات المدرسية العامة ومن الإدارات، وأنه يفرض الحياد على المدرسين والموظفين وممثلي الإدارات والمصالح العمومية، وأنه ينطوي أيضاً على واجب التحفظ والامتناع من جانب التلاميذ. وهذا يستتبع، بالنسبة لهؤلاء ولأولئك، حظراً لجميع التجليات الدينية ومن ثم للعلامات الدينية الظاهرة. وكان يمكن تحديد التطبيق العملي لهذه القواعد العامة بعد ذلك عن طريق مرسوم أو قرار. وكان من شأن هذا النهج أن يسمح بصدور قانون حقيقي عن العلمانية، بالإشارة الواضحة إلى معنى وأهمية هذا المبدأ الدستوري، وبتوضيح مداه الواسع ودون إخفاء صرامته. وبتجاوز إطار المدرسة والتلاميذ، كان من شأنه أن يتجنب اقتصاره على أن يكون مجرد قانون حول العلامات الدينية، يستهدف الحجاب الإسلامي بشكل رئيسي. وأخيراً، فقد كان بإمكانه أن يكون ذا قيمة تربوية بتنبيهه إلى طبيعة ومتطلبات العلمانية، ليس فقط تنبيه الجماعة السكانية المسلمة (التي تجهلها وتكتشفها)، وإنما أيضاً تنبيه مجمل الجماعة السكانية الفرنسية (التي نسيتها أو بَدَّلَتْ معناها).


إعادة محورة العلمانية

لئن كانت العلمانية الفرنسية غير معرَّضَة حقاً للتهديد، إلاَ أنها تجد نفسها الآن في موضع مناقشة حادة. فالحال أن الدراسات العديدة التي كُرِّست لها منذ نحو خمسة عشر عاماً والمفاهيم المتنوعة التي جرى اقتراحها عنها قد أسهمت في تضبيب صورتها وفي بث التشوش، بل وفي إقلاق الخواطر. ومن الضروري الآن إعادة محورة العلمانية على ما هو جوهري فيها وإعادتها إلى خصوصيتها. ومن ثم فهناك مهمة توضيح وتبسيط ينبغي الاضطلاع بها فيما يتعلق بموضوعها، وذلك بتجنب التخمينات النظرية أو الفلسفية، التي من الواضح أنها تظل مشروعة، وإن كانت لا تراعي الواقع الفرنسي بما يكفي. وهذه المهمة ضرورية اليوم بشكل خاص لسببين، لهما تأثير مباشر على العلمانية: من جهة، تحول الدولة و، من الجهة الأخرى، وجود الإسلام في فرنسا.

فإذا كانت العلمانية الفرنسية محل تساؤل وتشهد تطوراً معيناً، فإن ذلك إنما يرجع بالدرجة الأولى إلى التحولات التي تمس الدولة منذ بضعة عقود. وبما أن العلمانية تتألف من استبعاد الدين من المجال العام، فإنها إنما تتوقف على الأسلوب الذي يُعَرَّفُ به هذا المجال ومن ثم على مفهوم الدولة. والحال أن مجال الدولة، مع بقائه مهماً، إنما يميل بقوة إلى الانحسار لصالح المجتمع المدني، المدعو إلى الاتساع. وترتيباً على ذلك، نجد أن الدين، الذي يحتل مكانه الطبيعي في المجتمع، يشهد اتساع حقله وتعزُّز دوره، بالرغم من العلمنة المتزايدة. وبحكم هذا الواقع، تجد العلمانية نفسها وقد تأثرت وانحسرت بالضرورة. فالدولة، بنقلها عدداً من الوظائف إلى المجتمع، في الشأن الثقافي أو الإنساني مثلاً، إنما تتيح للأديان إمكانيات جديدة بالفعل. وإذا كانت الأديان تمارس مسئوليات في المجتمع، فإن حقل تطبيق العلمانية سوف ينحسر من جرّاء ذلك. ثم إن الحدود التي تفصل الدولة عن المجتمع تميل إلى التلاشي وتصبح نَفَّاذَة ويسهل عبورها في الاتجاهين. فالدولة تتدخل دوماً في حياة المجتمع وتقدم له مساعدتها بأشكال عديدة. وبالمقابل، لا يتردد المجتمع (الأفراد، الجماعات، الجمعيات، المشاريع...) في التغلغل في الدولة، سعياً إلى الحصول على عونها (بما في ذلك العون المالي) وإلى إنماء مصالحه الخاصة.

وطبيعي أن الأديان لا يمكنها أن تظل غريبة عن هذه الحركة المزدوجة. فمن جهة، نجد أن الدولة تتحرى رأيها (في الشأن الأخلاقي، مثلاً) أو تطلب تعاونها أو تقدم لها مساعدات غير مباشرة (تخفيض الضرائب على التبرعات المقدَّمة إليها، الضمان الاجتماعي للعبادات، البرامج الدينية في الإذاعة والتليڤيزيون...). ومن الجهة الأخرى، تسعى الأديان إلى الفوز بوجود عام (وليس اجتماعياً فقط)، وإلى الفوز باعتراف الدولة وإلى جعلها تقبل مواقفها الخاصة بشأن مسائل عديدة (الأسرة، الإجهاض، المثلية الجنسية، الموت الرحيم، استخدام التكنولوچيا في إدخال تحويلات على الكائنات الحية، الهجرة، العدالة الاجتماعية، الفعل الإنساني الخيري...). ويسهم تخفيف الحدود فيما بين الدولة والمجتمع في تخفيف حدة الفصل بين الدولة والديانات التي تخلط بسهولة بين ظهورها الاجتماعي ودخولها في المجال العام. وعلى الدولة أن تميز بوضوح بين الشيئين، فتعترف بالأول، بينما ترفض الثاني. ونجد مثالاً صارخاً لهذا التطور في الإصرار المتكرر من جانب الكنيسة الكاثوليكية (خاصة البابا) وبعض البلدان الأخرى (خاصة بولنده) على أن يتضمن دستور الاتحاد الأوروبي الإشارة إلى تراثه المسيحي، استفادة من واقع أن المجال العام، في هذا الكيان السياسي، لم يتكون بعد بما يكفي ويظل مفتوحاً أمام المصالح والاهتمامات الخاصة، ومن ثم أمام الأديان. ومن الواضح أن دور المسيحية في تاريخ أوروبا مهم جداً، بيد أن الإشارة إليه لا مكان لها في دستور سياسي، هو، في الواقع، معاهدة دستورية بين دول. ومن الواضح أن التحولات الأخيرة للدولة لها أثر محسوس على أسلوب تصور وتطبيق العلمانية. ولابد للنقاش الدائر الآن حول العلمانية أن يراعي هذا العامل الحاسم. فواقع أن الدولة تتغير تغيراً عميقاً وأن المجال العام أصبح متحركاً إنما يجر إلى انعدام يقين عظيم بالنسبة للعلمانية وبقاء العلمانية يفترض تعريف مجال الدولة تعريفاً دقيقاً وصارماً.

والسبب الثاني الذي يفرض إعادة محورة العلمانية هو الوجود الدائم للإسلام ولطائفة مسلمة مهمة. والحال أن العلمانية الفرنسية قد ظهرت في سياق تاريخي خاص، يتميز بالنفوذ القوي للكنيسة الكاثوليكية، والتي رُؤيَ أنها معادية للجمهورية. وقد تشكلت العلمانية بشكل رئيسي ضد هذه الكنيسة، وهي تحتفظ بأثر هذه المعركة في قوانين علمنة المدرسة وفي قانون الفصل [بين الكنائس والدولة] والصادر في عام 1905. ولهذا السبب تحديداً تعتبر العلمانية الفرنسية جد مختلفة عن العلمانية الأميركية، التي ظهرت قبل الأولى بقرن، في سياق تاريخي آخر ودون معركة خاصة. وهذا يفسر أيضاً أنها تبدو غير متوائمة بل وعزلاء حيال دين آخر كالإسلام. فالحق أن الإسلام ليس مقصوداً بقانون عام 1905، الذي لا يستهدف سوى العبادات التي كان مُعْتَرَفَاً بها آنذاك، سعياً إلى إنهاء الاعتراف بها وإنهاء تمويلها.

ولهذا السبب فمن المناسب، مع استلهامنا لمبادئ قانون عام 1905، أن نحدد أسلوب تصور وتطبيق العلمانية حيال الإسلام. ومن حيث المبدأ، لا يطرح هذا الموقف مشكلة كبرى، إذا ما أعدنا محورة العلمانية حول ما هو جوهري فيها، أي حول استبعاد الدين من المجال العام. بيد أن هناك مع ذلك صعوبة جدية ينبغي حلها، وهي صعوبة جديدة ومحيِّرة: ألا وهي أن الإسلام ليس مجرد ديانة، وإنما يتضمن بعداً اجتماعياً وسياسياً ومن ثم إيديولوجية يمكن أن تكون مصدر إلهام لممارسة عملية. ويترتب على ذلك وجوب الفصل فيه بين ما هو ديني وما ليس كذلك. والحال أن هذه عملية حساسة، ليست الدولة مؤهلة للقيام بها وينفر المسلمون من إجرائها. ومن ثم يجب التصرف بشكل عملي لدفع الإسلام تدريجياً إلى الانحصار في بُعده الديني، مع ما يستتبعه ذلك من نتائج عملية. وهذه الطريقة جد مختلفة عن الطريقة التي تود إيجاد إسلام فرنسي، وهو تعبير لا يتميز بأي معنى محدَّد وبوسعه أن يجر إلى التشوش. وفي هذه الحالة الخاصة، يتمثل دور العلمانية في حث الإسلام على أن لا يكون سوى ديانة، لا مكان لها في المجال العام (ومن ثم لا مكان لها في المدرسة)، وإن كان بالإمكان ممارستها بحرية في المجتمع. أمّا فيما يتعلق بطموحات المسلمين السياسية، فبوسعها أن تعبر عن نفسها وأن تنظم نفسها في إطار الدولة العلمانية، وهو ما لابد له من أن يدفعهم إلى كسب وممارسة المواطنة الفرنسية. وهكذا فإن العلمانية إنما تهدف إلى حصر الإسلام في جانبه الديني، مع حث المسلمين على أن يكونوا مواطنين بشكل كامل.

وفي هذا الصدد، يعد القانون الأخير بشأن العلامات الدينية في المدرسة إجراءً أَوَّلَ لا ينبغي التقليل من قيمته، بالرغم من حدوده، ويجب إبراز أهميته. فالواقع أنه يشكل رسالة واضحة إلى جميع المسلمين الذين يحيون في فرنسا، بوضعه حداً معقولاً للإسلام وبتمييزه مجال الدولة تمييزاً واضحاً لا لبس فيه. ومن المؤكد أن هذا القانون يتميز بطابع إكراهي، بيد أن القانون إنما يطبَّق بالاعتماد على الحوار والإقناع. وإلى جانب هدفه المباشر، نجد أن له وظيفة رمزية وقيمة تربوية، لأنه يحدد الطريق الذي يجب اتِّباعه للاندماج في المجتمع الفرنسي والمشاركة في حياته. وهذا هو السبب في أنه لا مجال هناك لحدوث تعارض بين الحظر الذي طرحه هذا القانون والعمل اللازم لتحقيق هذا الاندماج، لأن هذا القانون إنما يشكل بالفعل جزءاً من عملية الدمج ويسهم في حفزها. وترتيباً على ذلك، ودون التخلي عن الحزم، يجب لتطبيقه أن يتم بطمأنة وبتربية في آن واحد. وسوف يتعين على هذا القانون أن يكون مصحوباً أيضاً، دون تأخير، بتدابير إيجابية في صالح الطائفة المسلمة، سعياً إلى تيسير كل من عباداتها واندماجها الاجتماعي في آن واحد. وفي هذا الصدد، نجد أن تقرير لجنة ستازي قد قدَّم عدة مقترحات وجيهة، وسوف يكون بالإمكان إضافة مقترحات أخرى إليها.

* * *

في المستقبل، إذا كنا نتمنى حقاً أن تحافظ العلمانية على معناها وأن تحتفظ بقيمتها، لابد من إعادة محورتها حول خصوصيتها المميزة لها، على فرض أنها لا تزال لها خصوصية. وسعياً إلى هذا الهدف، من الأهمية بمكان مكافحة الاتجاه إلى مماهاة العلمانية بما ليست عليه حقاً. ومن المرجح أن يبقى هذا الاتجاه وينمو. وقد يؤدي ذلك إلى تقريب فرنسا من غالبية البلدان الأوروبية الأخرى، الأمر الذي سيؤدي إلى إنهاء الاستثناء الفرنسي في هذا الموضوع. ومن المؤكد أن العلمانية التشريعية سور واق من انحرافات قادمة، ترتبط بالتحولات الراهنة للدولة. والحال أن مفهوم العلمانية بوصفها فصلاً للسياسة عن الدين واستبعاداً للدين من المجال العام إنما يظل ضرورياً حيال الإسلام لفترة طويلة، لأن الإسلام بحاجة إلى وقت كاف لإجرائه ما هو مطلوب منه من تغيرات. وترتيباً على ذلك، من المناسب صون خصوصية العلمانية وعدم خلطها بنتائجها أو بالآثار المترتبة عليها. وبشأن موضوع على هذه الدرجة من الحساسية وبعد المصاعب العديدة التي واجهها قانون متواضع حول العلامات الدينية، من غير المرجح كثيراً اقتراح تدابير أخرى مماثلة. إلاّ أنه، في ظروف التشوش والارتباك الراهنين، يظل مطلب الدقة والوضوح مطلباً ضرورياً ولا غنى عنه.

موريس باربييه



الكاتب
عالم سياسي ومؤلف كتاب: La Laïcité (Paris, L'Harmattan, 1995) وكتاب: La Modernité politique (Paris, PUF, 2000). وقد نشر في مجلة:
Le Débat: "Esquisse d'une théorie de la Laïcité" (no 77, novembre-décembre 1993) et "Laïcité: questions à propos d'une loi centenaire" (no 127, novembre-décembre 2003).

الهوامش
1- Cf. Maurice Barbier, "Laïcité: questions à propos d'une loi centenaire", Le Débat, no 127, novembre-décembre 2003, pp. 158-174.
2- Voir, à ce sujet, Maurice Barbier, La Laïcité, Paris, L'Harmattan, 1995, pp. 80-89.
3- نقصد هنا مفهوم العلمانية الفرنسي، أي الشكل الذي يتخذه هذا المفهوم في فرنسا وفي القانون الفرنسي. كما توجد أشكال أخرى للعلمانية: فهناك، بوجه خاص، علمانية أميركية أو مكسيكية أو تركية أو سنغالية. غير أن بالإمكان التساؤل عما إذا كان هناك مفهوم عام للعلمانية، بشكل مستقل عن أشكاله الخاصة. فإذا كانت الإجابة بالإيجاب، يظل من اللازم صياغته، والنهج الذي نقترحه هنا يمكن أن يسهم في ذلك.
4- إعلان حقوق الإنسان والمواطن، الصادر في عام 1789 وديباجة دستور عام 1946.
5- على العكس، في الولايات المتحدة، لا توجد سوى علمانية واحدة، هي التي يجري التأكيد عليها دون لبس في الدستور (المادة السادسة والتعديل الأول) والتي تفرض فصلاً فيما بين الدولة والدين: فمن جهة، لا تطلب الدولة، في الواقع، أي إعلان ديني خاص بالنسبة للوظائف العمومية، وهو ما يشير إلى استقلالها حيال الأديان (المادة السادسة)؛ ومن الجهة الأخرى، لا يمكن للدولة أن تتدخل في الشأن الديني، لأن الكونجرس لا يمكنه إصدار تشريع بإيجاد مركز لديانة ما أو حظر ممارستها الحرة (التعديل الأول). ولابد من ملاحظة الصياغة السلبية في كل من الحالتين، وهو ما يؤكد أن العلمانية مفهوم سلبي بالفعل.
6- من الناحية المنطقية، لابد لهذا الحياد ـ عدم التحيز أن يقود إلى معاملة الإسلام كالأديان الأخرى في الألزاس ـ الموزيل.
7- بهذا الشكل أيضاً يمكن للتسامح وللتعددية الدينية أن يرتبطا بالعلمانية، دون أن يتماهيا معها؛ فهما ينبثقان عنها بشكل طبيعي وهما نتيجتان ضروريتان تترتبان عليها.
8- هذا التعبير يعني علانيةً أو بشكل علني (على خلاف مع ما هو خاص أو محتجب). وغالباً ما يوجد (خاصة عند علماء اجتماع الدين) تشوش حول كلمة "عام" أو حول تعبير "المجال العام"، لعدم التمييز بين مجال الدولة العام ومجال الحياة الاجتماعية: فالعلمانية تتعارض مع كل تجل للدين في مجال الدولة العام، لكنها لا تتعارض مع تجلي الدين (حتى وإن كان تجلياً علنياً) في إطار المجتمع أو في المجال الاجتماعي العام.

استيهامات_23

15 أكتوبر 2010

الطبيب الأمريكي مايكل سوانجو رجلٌ مهذب، وسيم، جنتلمان، لا يحمل مسدساً، لم يقل لأحد: يا ابن العاهرة!
هذا الملاك الشاب، كان يجد لذته القصوى في قتل مرضاه بهدوء، بإعطائهم جرعات مهدئة أكثر من اللازم للحياة وأكثر من اللازم للموت!
ابنٌ بار للعلموية الفاشية وأخٌ رائع لمنظمي الهولوكوستات!
لن تتمكنوا من كتابة الشعر إلاَّ إذا نسيتموه!

الغنائية والمفارقة الزمانية : البيداجوجيا التأريخية في شعر قسطنطين كافافــي

ناتالـي ميلاس
جامعة كورنيل
ترجمة : بشير السباعي


المروية السردية في شكلها الواقعي، الخطّي، هي الجنس الأدبي، بل، يمكن القول، أنها مفهوم الزمن الذي يحكم كتابة التاريخ. ومن المفروض أن الجنس الأكثر بعداً عن كتابة التاريخ هو الشعر الغنائي، لأنه، عموماً، يؤكد اللحظة المنفصلة، لا الديمومة أو الاستمرارية، فهو يفصل اللغة إلى أبعد حد ممكن عن إحالتها إلى الواقع، ويميل إلى التيمات المألوفة أو عبر التاريخية و، عندما يعالج موضوعات تاريخية، فإنه إنما يعالجها على نحو بطولي أو مادح. وهناك استثناء لهذا المخطط التصوري عن الاستبعاد المتبادل فيما بين الشعر الغنائي والتأريخ هو الشاعر اليوناني-السكندري قسطنطين كافافي، الذي يصف نفسه بنفسه بأنه «مؤرخ – شاعر». ودعوني أستشهد بتصريح رواه واحد من أوائل من كتبوا سيرة كافافي(1) :

أملك مقدرتين: كتابة الشعر أو كتابة التاريخ. وأنا لا أكتب التاريخ، والوقت اللازم لذلك أصبح الآن متأخراً جداً. وسوف تسألني: وكيف يمكنني أن أعرف أن بوسعي كتابة التاريخ ؟ إنني أشعر بذلك. وقد مررت بتجربة التساؤل: «كافافي، أيمكنك كتابة روايات ؟»، فهتفت عشرة أصوات: «لا !». ثم تساءلت: «كافافي، أيمكنك كتابة مسرحية؟»، فهتفت أيضاً خمسة وعشرون صوتاً: لا !». ثم تساءلت مرة أخرى: «كافافي، أيمكنك كتابة التاريخ ؟»، وكان بوسع مائة وخمسة وعشرين صوتاً أن ترد: «يمكنك ذلك» (ليدل 1974، ص 123، نقلاً عن مالانوس 1971، ص 148).


كان كافافي قارئاً مولعاً بالتاريخ وعليماً به. والباحثون الذين أمعنوا النظر في ملاحظات قراءاته يشيرون إلى أنه، من جهة، انخرط في مناقشات تأريخية بالغة الحدة حول مدى مصداقية بعض الوثائق، مثلاً، أو حول السعر الدقيق لقطعة من الحرير الوردي في عام 30 قبل يسوع المسيح أو حول توافر ورود طازجة في مقدونيا في شتاء عام 190 قبل يسوع المسيح، كما أنه، من جهة أخرى، قد اتخذ موقفاً في السجالات المتعلقة بتفسير التاريخ. ونجد في شعره آثاراً لهذين الجانبين لقراءاته التاريخية: الدقة في التفاصيل التاريخية والالتزام في إيديولوجية وفلسفة التاريخ، خاصة فيما يتعلق بالمناقشة حول الهيللينية الجديدة، أي حول الصلة بين الحداثة اليونانية وماضيها. فنحو أواخر القرن التاسع عشر، توزعت هذه المناقشة إلى موقفين: فالموقف الأول، المستند إلى أطروحات جيبون ورينان، قد نظر إلى الحداثة اليونانية بوصفها في قطيعة مع ماضيها المباشر – المسيحية، الإمبراطورية البيزنطية – وإن كان قد وصلها وفق صيغة زمانية للنهضة باليونان القديمة، العقلانية والوثنية. أمَّا الموقف الثاني فقد دافع بالمقابل عن استمرارية الثقافة اليونانية عبر بيزنطة والمسيحية ونظر إلى الهيللينية الجديدة وفق صيغة ديمومة متواصلة (هاس، 1996، ص ص 17-26). ومن الواضح أن كافافي كان مؤيداً لهذا الموقف الثاني. وهو يرى أن هذا الموقف يتضمن أيضاً اتخاذ موقف يمكن أن نسميه اليوم بأنه موقف استشراقي جديد. وذلك بالبدء مع جيبون الذي كتب مثلاً في كتابه الرائع انحطاط وسقوط الإمبراطورية الرومانية أن الإمبراطورية البيزنطية قد «عاشت ألفاً وثمانية وخمسين عاماً في حالة من الخراب السابق للأوان والمقيم» وأن «… رعايا الإمبراطوريـة البيزنطيـة […] إنما يحملون ويجـرون العار على اسمَي اليوناني والروماني» (جيبون، 2003). وقد نظر تراث كامل من الخطاب الأوروبي الشمالي في القرن التاسع عشر إلى العصر البيزنطي ليس فقط بوصفه عصر انحطاط، وإنما أيضاً بوصفه عصراً يتعارض تعارضاً حاسماً مع كل أنوار اليونان القديمة. وقد ذهب البعض إلى حد التأكيد على أن اليونانيين المحدثين لا تربطهم أي صلة انتماء – ثقافي أو تاريخي أو حتى عرقي – باليونانيين القدماء، وهو ما يعني إدراجهم في فئة الشرقيين العامة والكولونيالية. والحال أن كافافي، بتأكيده عبر أعماله المنشورة على استمرارية العرق والثقافة اليونانيين، خاصة عبر اللغة اليونانية، قد أدار ظهره لرؤية نقائية كما لمفهوم ترابي للهيللينية. وكما يلاحظ ذلك ببلاغةٍ الروائي الإنجليزي إ. م. فورستر :

كان النقاء العرقي يزعجه، كما كانت تزعجه المثالية السياسية … والحضارة التي كان يقدِّرها كانت مزيجاً يهيمن فيه العنصر اليوناني وكان يندرج فيه، من عصر إلى آخر، أجانب، لكي يعيدوا صياغة هذه الحضارة ولكي يعيدوا صياغة أنفسهم .. وإذا كان العنصر اليوناني قد تلاشى من جراء ذلك، فليست لذلك أهمية تذكر: ذلك أنه قد أدى مهمته وترك لزمن طويل على تلٍ آسيوي قطعة عملة تحمل البروفيل الجميل لملك تأثر بالهيللينية. إن بيريكليس وأرستيديس وتيميستوكليس إنما يعدون مستبدين نموذجيين. فماذا يعرفون عن هذا الامتداد الذي يتزايد دوماً والذي يبدو أنه، عندما كان كافافي يتكلم، إنما يستوعب كل الجنس البشري (فورستر، 1951، ص ص 249-250) .


إن الجانب الأعظم من أعمال كافافي المنشورة إنما يتعامل مع موضوعات تاريخية مستمدة من التاريخ الطويل و-بالنسبة لهؤلاء القراء الغربيين- الغائم للهيللينية الشرقية، وهي هيللينية مبعثرة في أرجاء ساحة شاسعة تتطابق تقريباً مع فتوحات الاسكندر الأكبر وتبقى، أو على الأقل تواصل البقاء، عبر العصور الهيللينستي والروماني والبيزنطي والعربي إلى حاضر كافافي في الاسكندرية الحديثة خلال العقدين الأولين من القرن العشرين. وهيللينية كافافي، خلافاً لهيللينية الشعر الغربي، لا هي أثرية ولا أسطورية ولا مجيدة ولا عالمية. فهيللينية كافافي التي يمكن القول إنها استشراقية إنما تصبح هيللينية أجنبية بالنسبة له، كما يعبر عن ذلك في قصيدة غير منشورة كتبها في عام 1914، «العودة من اليونان»:

نحن أيضاً يونانيون – وهل يمكن أن نكون غير ذلك ؟ -
ولكن بأهواء ومشاعر من آسيا
ولكن بأهواء ومشاعر
تبدو غريبة على الهيللينية (آبانتا بويتيكا، 1999، ص276).

والحال أن الرهان التاريخي، بل والتأريخي، لشعر كافافي إنما يرتبط ارتباطاً حميماً بخصوصية تكوين شعره. فهذا الشعر يتميز بقطيعة يمكن إرجاعها إلى عامي 1903-1904، عندما كابد كافافي ما يسميه بـ«أزمة فلسفية». وقد أعدم آنذاك عدداً كبيراً من قصائده غير المنشورة ونبذ قصائد أخرى – دون أن يعدمها. وخلال تلك المرحلة، يحرر كافافي شعره من كل أثر للرمزية، ويطور الأسلوب جد الفريد الذي يومئ إلى نضجه والذي يرجعه هو نفسه –فهو هاو عظيم دوماً لتسجيل التواريخ- إلى عام 1911. وهو أسلوب وصفه النقاد بأنه «واقعي» (انظر الاستشهادات في هاس، 1996، ص 335)، فهو أسلوب خال من زخارف الشعر المألوفة وقريب جداً، إلى أبعد حد ممكن، من النثر. وفي قصائد مرحلة نضجه، يهتم كافافي اهتماماً متزايداً باطراد بموضوعات تاريخية يعيد لأجل معالجتها تحوير أشكال كان قد تم هجرها: المونولوج الدرامي، الكتابة على الشواهد، الابجرامات. وعلى أثر الأزمة أيضاً يصوغ الشاعر أسلوبه الأصيل في التوزيع: فهو يوزع قصائده الجديدة في أوراق منفصلة على مجموعة من القراء ؛ وعندما يجتمع عدد كاف من هذه القصائد، يجمعها في كراس. ولدى موته، تشكل هذه القصائد مجموع أعماله «المنشورة» أو النهائية – وهي عبارة عن كراسين يتضمنان قصائد مرتبة بحسب موضوعاتها ويحملان عنواني قصائد 1905-1915 وقصائد 1916-1918 وأخيراً ملزمة من الأوراق تحمل عنوان قصائد 1919-1932. وتبقى أيضاً القصائد غير المنشورة والتي كان لا يزال يعمل عليها وأخيراً القصائد «المحجوبة»، المنبوذة ولكن التي لم يجر إعدامها. ومن جهة، نجد أنفسنا حيال عمل جرى الانكباب على بلورة صياغته واختير بعناية، لكننا نجد أنفسنا أيضاً، من جهة أخرى، حيال عمل لم يتم إنجازه بشكل جذري. وكما يشير إلى ذلك الشاعر سيفيريس، فإن عمل كافافي «يجب أن يُقرأ وأن يتم الحكم عليه ليس بوصفه سلسلة من القصائد المنفصلة، وإنما بوصفه قصيدة واحدة، بوصفه «عملاً متواصلاً»… لا يعد منتهياً إلاّ بموت الشاعر..» (سيفيريس، 1983، ص63)، وعدم الانتهاء يحول دون خاتمة تحليلية لنقد العمل – إذ لا يمكن لأي تعميم أن يصمد إطلاقاً، لكن الخط الواصل بين القصائد المنشورة وغير المنشورة إنما يسمح بأن نلاحظ مؤقتاً بعض السمات التي توحد بين هذه وتلك، وأهم هذه السمات هو التركيز شبه الحصري على موضوع الهيللينية في التاريخ. وقد كتب كافافي قصائد تعالج الكثير من الموضوعات الأخرى، لكنها لا تشكل جانباً من العمل المنشور بعد عام 1904. والحال أن إدوارد سعيد، وهو قارئ مولع بكافافي، إنما يأخذ عليه امتناعه التام عن الإشارة في شعره إلى مصر الحديثة، العربية، والتي قضى فيها كل عمره تقريباً (سعيد، 2004). ويمكن الرد على هذا النقد بالإشارة أولاً إلى أن من بين القصائد المستبعدة من العمل المنشور، تتصل قصيدتان بمصر الحديثة [«شم النسيم» (1892) و«27 يونيو، 1906، الساعة الثانية» (1908)]، أو أيضاً أننا في غالبية القصائد الإيروتيكية، وزمانها العصر الحديث، نجد أن أصل الغلمان المحبوبين أوالمحبين غير محدَّد بالمرة ومن ثم يمكن أن يكونوا غلماناً عرباً أو إيطاليين أو أرمن كما يمكن أن يكونوا يونانيين. لكن الشيء الجوهري ليس هنا. فشعر كافافي، بالرغم من كونه واقعياً في أسلوبه، ليس شعر محاكاة، أي أنه لا يفرض على نفسه مهمة إنتاج صورة أمينة وشاملة للواقع المحيط. فرهان هذا الشعر، إذا ما قرأناه بوصفه عملاً واحداً، هو بالأحرى رهان مشروع تاريخي: كتابة انتشار واستمرار الهيللينية في التاريخ.

ولا يوجد عمل تاريخي حول هذا الموضوع، وقد لا يتسنى له أن يوجد، ذلك أنه يفتقر إلى حدود زمانية وجغرافية مميزة. والمروية التأريخية إنما تعد بالضرورة مقيَّدة ومحدَّدة بحدود جغرافية تتماشى في الأغلب مع حدود لها أساسها السياسي – لأمة شأن فرنسا أو مصر، أو أيضاً لإمبراطورية كالإمبراطورية الرومانية أو الإمبراطورية البيزنطية، أو لمنطقة: كشرق البحر المتوسط أو افريقيا الشمالية، أو لها، بشكل أكثر ندرة، أساسها العرقي – قبيلة أو شعب. ثم إن كتابة التاريخ الرسمي والأكاديمي إنما تميل، كما أنه مما لا جدال فيه قد أتيحت لنا الفرصة لكي نعاين ذلك، إلى الارتباط ارتباطاً مباشراً بالسلطة ومن ثم إلى التجلي في إطارٍ تحدده الهيمنة. فالتاريخ الرسمي هو دوماً تاريخ الغالبين. ويتفتت المغلوبون في هذه المروية الكبرى؛ فهم يفقدون الحدود الواضحة التي من شأنها أن تميزهم كذوات تاريخية، وكفاعلين جماعيين يصنعون الأحداث الكبرى. ومن وجهة نظر التاريخانية، أي من وجهة نظر المنطق التقدمي والغائي للمروية التاريخية، فإنهم يصبحون غير مميزين وبالأخص مفارقين للزمن، منسيين. وذلك لأن مروية الغالبين، مروية القوة والسلاح، هي أيضاً التي تحدد العصور التاريخية كحدود زمانية لكتابة التاريخ وتفرض على التاريخ هذا الشكل السردي الذي يتألف من بداية وأوج واضمحلال ونهاية. وكل ما، وكل من يقعون خارج حدود هذه الصيغة هم في واقع الأمر غير ملائمين أو متخلفون أو غير ناضجين قياساً إلى معيارية عصر من العصور. وربما نجد لهم وجوداً في كتب الحوليات والأخبار، بيد أنهم يفتقرون إلى الأهمية بالنسبة للحاضر، فيجري نسيانهم. وهذا الافتقار إلى الملاءمة هو بالضبط حال جل الشخصيات التاريخية التي تتخلل شعر كافافي ونسمع صوتها غالباً فيه.

فلنتذكر، مثلاً، قيصرون، قيصر الصغير أو بطليموس السابع عشر، ابن كليوباترا وقيصر، آخر ورثة سلالة البطالمة المجيدة، والذي نجد في قصيدة «ملوك سكندريون» (1912) وصفاً تفصيلياً لردائه الفاخر يوم تتويجه «ملكاً للملوك» وهو في الرابعة عشرة من عمره. فهذه الشخصية التي لم تنضج بعد والبالية في آن واحد، سوف يجري اغتيالها بعد ذلك بثلاث سنوات تنفيذاً لأوامر أغسطس، الإمبراطور الظافر. وفي زمن القصيدة، عام 34 قبل يسوع، كانت قضية قيصرون ميئوساً منها بالفعل: «أحس أهل الاسكندرية تماماً أن هذا كله لم يكن غير كلمات، وألاعيب مسرحية» (يورسونار، ديماراس، 106). وكما تلاحظ ذلك يورسونار وديماراس في حاشيتهما، فإن كافافي إنما يرجع في هذه القصيدة إلى مصدرين تاريخيين: بلوتارك وديون كاسيوس، الذي يعدل روايته ويوسعها – ويبتكر كافافي، بالأخص، كل الوصف جد الدقيق والتفصيلي لرداء قيصرون. ومن شأن دقة في التفاصيل المبتكرة تحاكي الدقة التأريخية أن تسمح له بأن يعيد، بلغة التاريخ، خلق شخصية نسيها التاريخ. وفي قصيدة ثانية عنوانها «قيصرون» (1918)، تدخل هذه الشخصية حاضر الشاعر الحديث من خلال الثغرات المتعلقة بموضوعها في النصوص التاريخية. وهي واحدة من القصائد التي يمكن تسميتها «تأريخية»، بين قصائد كافافي، والتي تقدم قراءة لوثائق تاريخية، أو قراءة للتاريخ في التاريخ (انظر أيضاً «في شهر هاتور» (1917)، «إيمينوس» (1919)، «إلى أولئك الذين يقاتلون في سبيل العصبة الآخية» (1922) )، وفي هذه القصيدة، يتحدث شاعر – مؤرخ عن خبرة قراءة تاريخية في الماضي القريب :

كيما أتحقق من أحد التواريخ، وكيما أسلي نفسي أيضاً، تناولت مساء أمس كتاب نصوص ترجع إلى زمن البطالمة. فوجدتها تردد التملقات عينها والثناءات عينها في الحديث عن الجميع: فكل واحد منهم هو بدوره عظيم ومجيد وقوي وفاعل للخير ؛ وكل ما يأمرون به مفعم بالحكمة. أمَّا فيما يتعلق بزوجاتهم، من أمثال بيرينيك وكليوباتره، فكلهن جديرات بالإعجاب.
كان من الوارد أن أطوي دفتي الكتاب لولا أن إشارة قصيرة وغير مهمة إلى الملك قيصرون قد لفتت انتباهي فجأة.
… آه، ها أنت ذا، بوسامتك الغائمة ! في كتب التاريخ، اختصوك بالكاد ببضع كلمات، ومن ثم يمكن لمخيلتي أن تعيد خلقك بحرية أكثر. لقد جعلتك عاقلاً وجميلاً. وفني يمنح وجهك عذوبة الحلم المؤثِّرَة. مخيلتي أجادت إعادة خلقك بحيث إنني البارحة، حيث انطفأ مصباحي (تعجلت انطفاءه)، خيل إليَّ أنني أراك تدخل إلى غرفتي، شاحباً ومتعباً، في كامل ألمك، مثلما لابد أنك كنت في الاسكندرية المغلوبة، آملاً ما تزال في أن يرأف بك الأشرار، أولئك الذين كانوا يتهامسون: «كفانا قياصرة ! » (يورسونار، ديماراس، 145).

هاتان الكلمتان – وهما باليونانية اسم مركب واحد : πολυкоιρανιη - مأخوذتان مباشرة من بلوتارك، الذي يقدمهما كصياغة جديدة لما أورده هوميروس(2)، وهو الأمر الذي يضيف أيضاً طبقتين زمانيتين نصيتين إلى القصيدة التي تتضمن بالفعل الإشارة إلى كتاب النصوص البطلمية، وزمني أحداث القصيدة – زمن القراءة الأولى وزمن ظهور الملك الصبي المتخّيَّل. وتوحي لنا القصيدة بأننا نشهد السيرورة التي تصبح بها شخصية منسيةٌ حاضرةً من جديد وتأخذ مكانها عَرَضَاٌ في الزمن. فقيصرون يظهر عن طريق قراءة التاريخ، ولكن بالرغم من، وتحدياً لما يتضمنه أرشيف التاريخ المكتوب. ولا تحاول القصيدة إصلاح أو تصحيح الثغرة في الكتابة التاريخية بسدها وبجعلنا نرى شخصية ممحوة بالشكل الذي من المحتمل أنها كانت عليه بالفعل في زمانها، أو باستعادة مروية مفقودة، رواية تاريخية بديلة. فالتأكيد إنما ينصب بالأحرى على الإثارة التي استولت على الشاعر وهو يستحضر الشخصية. ويظل قيصرون نفسه «غائماً»، عديم الملامح تقريباً، والحال أنه عبر هذه العتامة تحديداً تكتسب القصيدة بعداً بيداجوجياً. لأنه إذا كان الشاعر-المؤرخ لا يقدم لقرائه صورة أو وصفاً واقعياً لشخصية تاريخية، فإنه إنما يبين فعلياً إمكانية الحميمية التاريخية. والمؤرخ-الشاعر، إذ يجسد في شخصه وفي لغته لقاءً بين الماضي والحاضر، إنما يخلق مثال تجربةِ حاضرِ ماضٍ وماضيَ حاضرٍ.

وهذه القصيدة إنما تنتج ما أود تسميته هنا بالوقع الغنائي للمفارقة الزمانية، وذلك لأنها تأخذ شكل القصيدة الغنائية لأجل تصوير شخصيات وأشكال للزمانية تمثل في مجملها ديمومة تاريخية، لكنها تقع خارج حدود المروية التاريخية الكبرى التي لا تبدو فيها إلاَّ بوصفها مفارقة زمانية. ولا يحاول شعر كافافي إعادة إدراج هذه الشخصيات في مروية التاريخ، أي لا يحاول نزع مفارقتها الزمانية عنها، بل يحاول بالأحرى إيجاد موقع وزمان في اللغة يمكن فيهما لهذه الشخصيات أن تدل على ديمومة. ويجري تصوير هذه المفارقة الزمانية الغنائية في قصيدة «قيصرون»من خلال صيغة رغبة إيروتيكية مثلية، تعد عند كافافي إحدى الصور الأكثر أهمية ومفارقة (والصورة الأخرى هي اللغة اليونانية) لاستمرارية الهيللينية في الزمن. وذلك لأن صيغة معينة لهذه الرغبة، بما تنطوي عليه من إيماءات وأسرار ومشاعر متكررة دوماً وجديدة دوماً، إنما تخلق استمرارية في التاريخ تختلف اختلافاً أساسياً عن الاستمرارية التي يمثلها الشكل السردي للمروية. والحال أن الاستمرارية، أو، بتعبير أكثر تحديداً، الديمومة المعبر عنها في مفارقة زمانية غنائية، إنما تأخذ شكل سلسلة من التكرارات غير المحدودة نظرياً تربط، ليس فقط فيما بين الأزمنة المختلفة والأماكن جد المتفرقة للهيللينية القديمة، وإنما تربط أيضاً، ضمنياً، فيما بين الماضي والحاضر، ومن ثم فيما بين قصائد العمل المنشور التي تقع في الماضي القديم والقصائد الإيروتيكية التي تقع في المدينة الحديثة.

والحال أن «الحالية الصارخة»، إذا ما استعرنا من مارجريت يورسونار تعبيرها بالغ الدقة، للعصر القديم –وللحداثة- في شعر كافافي إنما تنبع من هذه المفارقة الزمانية الغنائية التي تمثل ديمومة تتجاوز الحدود الزمانية للعصور المتعارف عليها في المروية التاريخية. ولا يوجد عند كافافي أي أثر للغنائية الإنشادية، ولا للمؤثرات الشعرية التي تطرح عنصراً من الماضي خارج الزمن اليومي، بهدف إعطائه قيمة مثال مفارق للتجربة أو مجاوز للزمان، ومن ثم تجعل الماضي بطولياً أو تذكارياً أو أسطورياً. وقد قال الناقد اليوناني بيير فلاستوس عن قصائد كافافي إنها «أشبه ما تكون بقواعد لا تنتصب فوقها تماثيل» (أورده سيفيريس، ص 77). وهي قصائد حافلة بشخصيات وبلحظات لم تحظ حتى بقواعد في كتابة التاريخ، فهي حافلة بشخصيات صغيرة عادية ولا اسم لها (صائغ، نحاتون، تجار، مراهقون عاشقون، محتضرون وموتى، متشاعرون، سوفسطائيون) وشخصيات قليلة الشأن تركت آثاراً عديمة الأهمية في حوليات التاريخ، كأنطيوخس الرابع «ايبيفانوس»، الذي كان ملكاً على جزء مما هو الآن سوريا، والذي شهد، وعاش بعد، الهزيمة الكاملة للملوك الهيللينستيين المقدونيين في عام 168 قبل يسوع المسيح، أو الهزيمة الكاملة لديميتريوس سوتير، ابن أخيه، الذي يجري إدخاله إلى القصيدة المتصلة بموضوعه بهذه العبارة : «كل توقع من توقعاته ثبت أنه باطل» («ديميتريوس سوتير، 162-150 قبل يسوع المسيح»). وبما أن المفارقة الزمانية الغنائية تهتم بكل ما يتجاوز المرويات التاريخية الكبرى، فإنها تتيح موقعاً نصياً للكثافة التاريخية للفشل، للهزيمة، وبالأخص لما يبقى بعد الفشل، ما يتواصل عبر الهزيمة، وليس على الرغم منها. ومن غير الوارد لديميتريوس سوتير، مثلاً، أن يقهر اليأس، أن يجد خلاصه خارج الزمن – فهذا معناه السقوط في الوهم المحض. والهيللينية كما يقدمها عمل كافافي إنما تتواصل عبر الخسارة واليأس، وهي محايثة للفشل وتتجاوزه أيضاً إذ تبقى بعده. وهذا هو السبب في أن تواصل هذه الهيللينية يفلت من منطق المروية. إذ كيف يمكن أن نروي حكاية ما يحدث بعد النهاية الحاسمة، ما يستمر بعد الهزيمة الأخيرة، ما يواصل البقاء خارج زمانه الخاص، أو خارج ما تحدده مروية التاريخ الكبرى بأنه لحظته الملائمة ؟ يوحي لنا عمل كافافي بأن هذه الديمومة لا تشتغل وفق نظام المروية أو أنها، إن جاز القول، غير قابلة للسرد، لأنها تتكون من حشد، قد يكون لا نهائياً، من الحكايات الصغيرة المتفرقة التي لا تقود إلى أي مكان، ومن كمية من الإيماءات والألوان وأساليب المتعة، ومن الآثار المهجَّنة والبقايا التي نسينا أصلها. ومن ثم نجد أنفسنا حيال كتابة للتاريخ تخص الشعر الغنائي على نحو ما يمارسها المؤرخ – الشاعر كافافي.

ــــــــ
1ـ «أنا مؤرخ-شاعر. وأنا لا أقدر على كتابة روايات، أو للمسرح، لكن أصواتاً باطنية تقول لي إن مهمة المؤرخ بمقدوري. بيد أنه لم يعد هناك وقت لذلك …» [ ورد في مقدمة بقلم تيودور جريفا لترجمة لقصائد مختارة من كافافي، لوزان، 1947، وأوردته يورسونار، ص 16].
2ـ " оυк αγαθον πολυкоιρανιη " الإلياذة II 205. أوديسيوس هو الذي يقول ذلك لجندي عادي وهو يحاول إعادة جمع الجيش الآخي الذي يتهيأ لمغادرة طروادة بعد خطبة أجاممنون الزائفة. ومن الواضح أن الإشارة هي إلى الصراع بين بطلين شهيرين، أخيل وأجاممنون، الأمر الذي يجعل استشهاد بلوتارك بهذا القول، في معرض الإشارة إلى قيصرون وأغسطس، مفارقة ساخرة.
ـــــــــــــــــــ
بيبليوجرافيا

Cavafy, C. P. Apanta Poietika . Athens: Ypsilon, 1999.
--- . Poimata. ed. George Savvidis Vol. I and II. Athens: Ikaros, 1963.
Cavafy, Constantin. Poèmes. 1958. Trans Marguerite Yourcenar and Constantin Dimaras. Paris: Gallimard, 1978.
Forster, E. M. Two Cheers for Democracy. London: Edward Arnold, 1951.
Gibbon, Edward. The Decline and Fall of the Roman Empire. 1776 – 1778. Ed. Hans-Friedrich Mueller. New York: Random House, 2003.
Haas, Diana. Le Problème Religieux Dans L'Ouevre De Cavafy: Les Années De Fornations (1882-1905). Paris: Presses de l'université de Paris-Sorbonne, 1996.
Keely, Edmund. Cavafy's Alexandria. Princeton, N.J. : Princeton University Press, 1976.
Liddell, Robert. Cavafy: a Biography. New York: Pocket Books, 1978.
Said, Edward. "Thoughts on Late Style". London Review of Books (2004).
Seferis, George. "Cavafy and Eliot – a Comparison". The Mind and Art of C. P. Cavafy: Essays on His Life and Work. Ed Denise Harvey. Athens: Denise Harvey and Company, 1947; 1983.
__________
ناتالي ميلاس، أستاذة مساعدة في الأدب المقارن بجامعة كورنيل nam5@cornell.edu

مظهر

بيير رفردي


عاملُ التراحيلِ يضربُ الشمسَ الحارقةَ بعصاه
في هذا المكان
أمامَ البابِ حيثُ يَنبحُ كلبٌ غاضبٌ
ويَعُضُّ
ينامُ حَبُّوبُ العائلة
خلف ستائر
شيشُ النافذةِ يَنقفلُ
مجهولُ الطريق ِالذي يسافرُ فيه الجميع
صرخةُ وعيدٍ في الليل
كُلُّ لصوصِ الأحلام ينصرفون خلسة
إنهم مبعثرون بين كُتُبٍ قليلة
الطرقُ أصبحت أكثر أمناً
ووجوهنا اكتسبت طمأنينة شاحبة
ماعاد أحدٌ يخشى الخطرَ والمرءُ يعرف الموت في الشمس
نحاكي قوماً من مناخاتٍ حارة
وننسى ألاَّ نَثقَ بالطبيعة
والأزمنةُ تُلقي ظلالَ هذا السلامِ الطويلِ جداًّ
الذي يبدو كنهاية العالم
كُلُّنا جزءٌ من نبع الحضارة
لن نفهمَ خطرَ المحاكاةِ إلاَّ بعد فواتِ الأوان
المعركةُ الغريبةُ ما عادت قائمة
الشخصياتُ الرئيسيةُ ضاعت
لكن البيتَ الموصَدَ يشبهنا
خصوصيةٌ لا يعرفها أحد
تبحثُ عن غرابةٍ في الخارج
ورياؤنا
خوفُ واحدنا من الآخر
الكلبُ يحرسه


ترجمة بشير السباعي

إعصار

بيير رفردي


النافذةُ
ثقبٌ حيٌ يضربه البرقُ
بنفاد صبرٍ سافر
هزيمُ الريحِ مَزَّقَ الصمت
ما عُدنا نعرفُ ما إذا كان هذا هو الليل
البيتُ يهتز
أيُّ لُغزٍ
الصوتُ الذي يُغنِّي سيسكُتُ
كُنَّا أكثر قُرباً
تحتَ
ذلك الذي يَبحثُ
أكبرَ مما يبحث عنه
وهذا كل ما هناك
ذاتٌ
تحت السماءِ المفتوحةِ
مشقوقة
بَرقٌ حيثُ بَقِيَ النَفَسُ
مُعَلَّقاً



ترجمة بشير السباعي

الخرابُ الكاملُ


بيير رفردي


ضَيَّعتُ السِرَّ الذي أُعطيت
ما عُدتُ أعرفُ أيَّ شيء

للحظةٍ رأيتُ أن لا بأسَ
ما عادَ شيءٌ يبقى
هذا رجلٌ بلا قدمين يَوَدُّ الجريَ
امرأة بلا رأسٍ ترجو الكلام
طفلٌ من دونِ أيِّ عيون بالكاد لمجرد الصراخ

لكنني رأيتُكَ تَرحلُ
كُنتَ بعيداً بالفعل
بُوقٌ نَادَى
رِعاعٌ هتفوا
وأنتَ، أنتَ لم تَظهر
أمامنا طريق طويل للَّحاق ِ، خطوةً خطوة
سوف نمشيه معاً

أَكرَهُ وجهكَ المبتسم
اليدَ التي تمدها لي
ومعدتك، الممصوصة العجوز
أنتَ تُشبهني تماماً

لدى عودتي لا أنال شيئاً
لا أحدَ يُعطيني شيئاً
الكُلُّ ضاع

ميداليةٌ لا فائدة منها للزينة
في الليل


ترجمة بشير السباعي

يومٌ رتيب

بيير رفردي

السطحُ زلِقٌ جَرَّاء الماء
كُلُّ شيءٍ يَذوبُ جَرَّاء المطر
زيتُ الكحول ومصباحي الخابي
أَتَيا على البيتِ حرقاً

بستانٌ بلا طيور
بستانٌ بلا صخب
تذهبُ لجمعِ الأزهارِ السوداء
الأوراقُ ليست خضراءَ البتة
الأشواكُ كُلُّها حمراء
ويداكَ ملطختانِ بالدماء

موكبٌ يمر في الدربِ المركزي
بنافذةِ الموتى
حيث تحترقُ شمعةٌ
يكشفُ أغنيةً بطيئة

إنها هي والآخرُ
الجارُ أيضاً
الجميعُ يغنون وأعناقهم مضروبة
وعلى السلم حيث يمزح المرءُ
تَصدرُ صرخةٌ عن أحدهم وهو يسقط
يَهربُ كلبٌ
لا يَسمعُ المرءُ سوى صرخة المطر
ترجمة بشير السباعي

صمتٌ


بيير رفردي

كان أحدهم لا يزالُ في الوراءِ يتحدث
مَرَّ الرجالُ اثنين اثنين
لعلها كانت صلاةً
تلك التي تَسلَّقَت قلبَ كُلِّ واحدٍ
بين الجدرانِ في المساحةِ المكشوفة
تَرَدَّدَ صدى صوتٍ على الماء
أَخَذَ الطائرُ طريقاً مختلفاً
واستيقظ في الصباحِ
برأسٍ مكفهرة
لا أَحَدَ عَرَفَ عَدَدَ
من مروا
بين السور والبستان
عندما يهبط الليل ويصبح صعباً
في المدى
تَسمعُ صُفَّارةَ قطار

ترجمة بشير السباعي

صوتُ الناقوس


بيير رفردي

كُلُّ شيءٍ يُمسي هادئاً
الريحُ تَمُرُّ مُغَنِّيَةً حوله
والأشجارُ ترتجف
الحيواناتُ ميتة
لم يعد هناك أحدانظروا
لقد توقفت النجومُ عن اللمعان
العالمُ ما عَادَ يدور
رأسٌ محنية
شَعرٌ يمتدُّ بلا توقفٍ عبرَ الليل
الناقوسُ الأخيرُ الذي يظلُّ واقفاً
يَدُقُّ منتصف الليل

ترجمة بشير السباعي

هائمٌ على وجههِ


بيير رفردي

(1889-1960)


البابُ الذي ليس له أن ينفتح
اليدُ الخابية
بجانب كأسٍ مكسورة
أدخنةُ المصباح
الشراراتُ تَبدأُ الحرائق
السماءُ أكثرُ سواداً
من السقف
بعضُ الحيوانات
من دونِ ظلالها
نظرةٌ
بقعةٌ كئيبة
البيتُ الذي لا يأتي إليه أحد


ترجمة بشير السباعي

سِرٌّ


بيير رفردي
(1889-1960)

الناقوسُ الشاغرُ
الطيورُ الميتةُ
في البيتِ الذي ينامُ فيه كُلُّ شيءٍ
تسعَ ساعات

العالمُ يَتَسَمَّرُ
يبدو أن أحدهم قد مات
الأشجارُ تبدو وكأنها تبتسم
قطرةُ ماءٍ تَتَعَلَّقُ بطرفِ كُلِّ ورقة
سحابةٌ تعبرُ الليل

خارج بابٍ رَجلٌ يُغنِّي
النافذةُ تنفتحُ بلا صوت


ترجمة بشير السباعي

مباغتةٌ من فوق


بيير رفردي
(1889-1960)


في نهايةِ الممرِ تنفتحُ أبوابٌ
مُبَاغَتَةٌ تنتظرُ من يمرون
يمكنُ العثورُ على بعضِ الأصدقاءِ هناك
هناك مصباحٌ لا يوقدهُ أحد
وعينك اللامعة الفريدة

نهبطُ السلالم حفاة
هناك لصٌ أو آخرُ القادمين
الذين ما عاد أحد ينتظرهم
القمرُ يتخفى في سطلِ ماء
مَلاكٌ على السطحِ يَلعَبُ بطوقٍ
البيتُ ينهار

في الجدولِ أغنيةٌ طافية


ترجمة بشير السباعي

في آخر العمر

بيير رفردي
(1889-1960)

قاسٍ أنا
رقيقٌ أنا
ضَيَّعتُ عمريَ
في الحلمِ بلا نوم
في النومِ سيراً
أينما قادتني الدروبُ
وَجَدتُ غيابي
فلم أكن في أيِّ مكانٍ
سوى العدم
أَحمِلُ مُعَلَّقاً في أعلى أحشائي
في المكانِ الذي كثيراً ما ضَرَبَتهُ الأهواء
قلباً تَرَكَتْ فيهِ كُلُّ كلمةٍ جرحاً
لذا تنزفُ حياتي لدى أبسطِ حركة



ترجمة بشير السباعي

استيهامات_22

5 أكتوبر 2010


الاشتراكية الإيكولوجية (البيئية) هي اشتراكية زماننا الممكنة الوحيدة بامتياز، وهذا لأنها تدير ظهرها للنزعة الإنتاجوية وتكشف عدم حياد التكنولوجيا على المستوى الاجتماعي وتربط حل الأزمات الإيكولوجية بالقضاء على نمط الإنتاج الرأسمالي، هذا النمط الذي يلوث التربة والماء والهواء ويتصدر الأخبثين: البول والخراء!

الماركسية واليوتوبيا الثورية عند إرنست بلوخ

كارلوس روسّي
ترجمة بشير السباعي




إرنست بلوخ


لا يتضمن عمل ماركس مجرد تحليل علمي بالغ الصرامة لرأس المال ولفيتيشية السلعة ولصراع الطبقات، بل يتضمن أيضاً نزوعاً طوباوياً وثورياً بدرجة عميقة. فالعلم واليوتوبيا ليسا متناقضين بل هما يتوحدان على نحو جدلي في الفكر الماركسي، وذلك بشرط فهم مفهوم اليوتوبيا بمعناه الحقيقي، الإغريقي الأصل، والذي يشير إلى مالم يوجد بعد. فالغاية السامية للنضال البروليتاري الحديث – مجتمع بلا طبقات ولا دولة، بلا استغلال ولا اضطهاد، مملكة الحرية – هي ذروة الطموحات الألفية لمضطهدي ومقهوري التاريخ، منذ عبيد ثورة سبارتاكوس وفلاحي ثورة توماس مونزر إلى نساجي ليون وكوميونيي 1871. والحال، أن هذه الغاية السامية، الاشتراكية، لم توجد بعد: وفي وجه الإصلاحات البائسة للاشتراكية – الديموقراطية وفي وجه المسخ البشع المسمى بـ "الاشتراكية كما هي موجودة في الواقع"، من المُلِح والضروري استعادة البعد الطوباوي / الثوري للماركسية، في البحث عن السبل المؤدية إلى مستقبل آخر بشكل جذري، إلى بديل اشتراكي يتعارض جذرياً مع الأوضاع القائمة.


ومن هنا حالية فكر إرنست بلوخ (1885-1977)، الممثل الأشهر لروح اليوتوبيا في الماركسية الحديثة. إن بلوخ، اليهودي والألماني، ينهل في صوغ عمله من أكثر المصادر تنوعاً وغير المتوقعة أكثر من سواها: القبالة، الصوفية اليهودية والمسيحية، الهرطقات الدينية، الرومانسيين الألمان، الاشتراكيين الطوباويين، هيجل وشيلنج، جوته وماركس، بريشت ولينين. وأسلوب تفكيره رومانسي ثوري بشكل حازم: فشأنه في ذلك شأن الرومانسيين، يستمد من ثقافات الماضي الذخيرة الروحية، البارود اللازم لتفجير العقلانية الباردة واللاإنسانية المميزة للرأسمالية. لكن هدفه لا يتمثل في إعادة تكوين ثلوج الماضي: فما يهدف إليه، هو بالأحرى تثوير الحاضر وفتح الطريق الذي يقود إلى اليوتوبيا المشاعية، مستخدماً ذلك السلاح الباتر، مفتاح أبواب المستقبل الذي نسميه بالماركسية.


وهو في عمله الأول، الروح واليوتوبيا، المكتوب في عام 1917، يرحب في مجالس عمال وجنود روسيا (كان ذلك قبل أكتوبر) بالقوة الوحيدة القادرة على ضرب "الاقتصاد النقدي وأخلاق التاجر، تتويج كل ما هو فاحش في الإنسان". وفي عمله عن توماس مونزر (1921) المكتوب خلال الموجة الأخيرة للثورة الألمانية، يستحضر أيضاً الوحدة بين الممارسة الماركسية والأمل الطوباوي: "على أطلال حضارة خربة، تعلو روح اليوتوبيا التي يستحيل استئصال شأفتها... هكذا تتحد أخيراً الماركسية والحلم بغير المشروط، فيسيران جنباً إلى جنب، مندمجين على مستوى معركة واحد – قوة التقدم ونهاية كل هذا العالم المحيط الذي لا يعد الإنسان فيه غير كائن شقي، مهان، مهدر – إعادة بناء كوكب الأرض، الموهبة، الإبداع، الاستيلاء العنيف على الملكوت". ومن الواضح أن هذه اللغة الرؤيوية إنما تعبر عن مناخ عصر كانت الثورة العالمية تبدو فيه ممكنة ووشيكة، لكنها توضح أيضاً عين أساس فلسفة بلوخ السياسية وتفسيره للماركسية. فالبنسبة له، يجب للمعركة الثورية الاشتراكية أن تكون وريثة لجميع طموحات وأحلام ويوتوبيات واستيهامات تحويل العالم والتي تجلت حتى الآن بشكل وهمي في الدين والثقافة، في الهرطقات والنزعات الألفية، والتي تظل ذكراها متجذرة بعمق في وجدان فئات واسعة من السكان.


والحال أن بلوخ الذي اضطر إلى الرحيل إلى المنفى في الولايات المتحدة الأمريكية بعد صعود النازية، سوف يختار الإقامة في جمهورية ألمانيا الديموقراطية بعد الحرب. وعلى الرغم من أنه كان رفيق طريق للشيوعية الستالينية على مدار وقت طويل، فإنه سوف ينجح في صون عمله النظري من كوارث الديامات (كاريكاتور المادية الجدلية) الرسمية. وإذا ما قارنا مسيرة بلوخ مع مسيرة لوكاش – كانت هناك صداقة وطيدة بين الإثنين خلال شبابهما – فإننا لا نملك إلاَّ أن نشعر بالدهشة تجاه الطريقة التي تمكنت بها عين ميدوزا الاتحاد السوفيتي الستاليني من أسر وشل عدد كبير من أبرز الأذهان الماركسية في القرن العشرين. وإذ تدينه البيروقراطية الألمانية الشرقية باعتباره "تحريفياً"، فإنه ينتهي بالرحيل إلى المنفى في ألمانيا الغربية (1958) دون أن يتخلى مع ذلك عن أفكاره الماركسية أو عن نقده الصارم للرأسمالية. وخلال أعوامه الأخيرة، تابع بتعاطف الحركة الطلابية الرافضة – تبنى رودي دوتشكه مفهومه عن "اليوتوبيا الملموسة" – وطور انتقاداً للاتحاد السوفييتي ولبلدان شرقي أوروبا جد قريب من الأطروحات التروتسكية. وفي تقييمه لمجمل عمل بلوخ، رأى الماركسي الألماني الشاب أوسكار نيجت فيه (مع انتقاده دون تنازلات لموقفه السابق تجاه الستالينية) "الفيلسوف الألماني لثورة أكتوبر"، بشكل مماثل لملاحظة شهيرة أدلى بها ماركس الذي وصف كانط بأنه "الفيلسوف الألماني للثورة الفرنسية".


والواقع أن عمل بلوخ يعتبر ثرياً ومتنوعاً بشكل غير عادي. فهو يشمل كتابات سياسية – ثقافية (تراث عصرنا، 1935) وأعمالاً فلسفية كلاسيكية (ابن سينا واليسار الأرسطي، 1952، الذات والموضوع عند هيجل، 1951، الحق الطبيعي والكرامة الإنسانية، 1961، فلسفة الرينيسانس ، 1972) ودراسات حول تاريخ الدين (الإلحاد في المسيحية، 1968) إلخ. لكن أعماله الرئيسية الكبرى مثل "روح اليوتوبيا" (1918) و "توماس مونزر" (1921)، و "مبدأ الأمل" (1954-1959) هي في آن واحد فلسفية ودينية وسياسية وثقافية...


إن المقولة المحورية لمجمل فكر بلوخ هي مقولة الأمل. والأمل الحكيم الذي عرفه اللاهوت القروسطي يصبح عنده مفهوماً ماركسياً. فالأمل بالنسبة لبلوخ هو التحرق إلى المستقبل، الجديد، اليوتوبيا، مالم يوجد بعد، الميل إلى إمكانية غير واعية بعد أو لم يتم التثبت منها بعد. وبالنسبة له، فإن أفق المستقبل وحده، كما تفهمه الماركسية، إنما يقدم للواقع بعده الحقيقي. وعلم ماركس يستضيء بهذا الأفق، فهو لا يزعم الحياد، بل هو مشحون بما يسميه بلوخ في عمله الأخير (الخبرة الحياتية، 1975) بالانحياز الأحمر، الانحياز إلى جانب التحرر، انحياز طبقة، هي البروليتاريا الثورية، التي لا حاجة لديها إلى كذب أيديولوجي.


وفي "مبدأ الأمل"، وهو عملٌ ضخم في ثلاثة مجلدات، يحلل بلوخ (ويرد الاعتبار إلى) ليس فقط اليوتوبيات الاجتماعية منذ صولون الغابر وأفلاطون إلى فورييه وويليام موريس، وإنما أيضاً اليوتوبيات التقنية والجغرافية والمعمارية والطبية والفنية. فهو يشير إلى التطور الذي حدث، على مدار العصور وعبر الثقافات، لمشاهد الرغبة، ولصور الرغبة ولأشكال الأمل ولتخيلات عالمٍ أفضل ولأشكال ملموسة للوعي النبيء بما سوف يجيء. وبحساسيته الفائقة، يكشف علامات هذا الوعي في الأساطير وفي السيمياء، وفي خروج موسى، وفي موسيقى بتهوفن، وفي رسم جوجان، وفي "دون كيشوت" وفي "فاوست"، وفي النضال من أجل يوم عمل من ثماني ساعات، وفي حركة تحرر المرأة وفي ثورة أكتوبر. ويوضح بلوخ في مقدمة الكتاب معنى مسعاه: "منذ ماركس، أصبح من المستحيل على كل بحث عن الحقيقة وعلى كل قرار واقعي الاستغناء عن مضامين الأمل الذاتية والموضوعية في العالم، حتى لا يصبح عرضة لأن يغرق في التفاهة أو أن يقود إلى طريق مسدود. إن الفلسفة سوف تملك وعي الغد، الانحياز إلى المستقبل، معرفة الأمل، أو أنها لن تملك بعد أية معرفة على الإطلاق". وهو يستشهد، في سرور أريب، بتلك الفقرة جد المنسية عن الحلم، والتي أشار إليها كاتب ماركسي لا يكاد يشك أحد في صرامته المادية: " إذا كان الإنسان محروماً من كل قدرة على الحلم، إذا لم يك بوسعه من وقتٍ لآخر أن يستبق وأن يتصور ذهنياً، في صورة كاملة وناجزة، النتاج الذي لا تفعل أصابعه غير البدء في تشكيله، فلن يكون بوسعي على الإطلاق أن أتصور حافزاً آخر لحث الإنسان على تولي وإنجاز عمل مسهب ودؤوب في مجال الفن والعلم والسعي العملي" (الكلام لبيساريف وأورده لينين مؤيداً له.. المترجم).


إن الماركسية هي في هذا المنظور محصلة حلم قديم يجد أخيراً الشروط اللازمة لتحقيقه. والفصل الأخير لكتاب "مبدأ الأمل" إنما يحمل تحديداً هذا العنوان: "ماركس والإنسانية: إهاب الأمل". وفكرته الأساسية هي الفكرة التالية: "إن العقل لا يمكنه الازدهار دون الحلم، والحلم لا يمكنه النطق دون العقل، والاثنان يجدان وحدتهما في الماركسية – فأي علم آخر لا يملك مستقبلاً وأي مستقبل آخر لا يملك علماً".


والرأسمالية، بالنسبة لبلوخ، إنما تمثل أعلى شكل لنزع الطابع الإنساني، للاغتراب والتشيؤ، بقدر ما أنها تختزل الجميع – البشر والأشياء على حدٍ سواء – إلى حالة سلعة. وعبر سلاح نضال الطبقات، تريد الماركسية إلغاء رأس المال ومن ثم إنجاز أنسنة المجتمع – وهي تتوجه بادئ ذي بدء إلى المستغلين، لكن غايتها قادرة على اجتذاب جميع أولئك الذين يعانون في ظل الرأسمالية، جميع أولئك الذين يمكنهم التعرف على أنفسهم في صيحة الحرب التي أطلقها الديموقراطي الألماني الثوري جورج بوخنر: "الحرب على القصور، السلم للأكواخ". إن المعركة الاشتراكية تتطلب في آن واحد الحلم والحماس وصفاء الفكر، والماركسية تملك القدرة على أن توحد في مسعاها النظري والعملي بين التحليل الأكثر صرامة والحلم الأكثر جموحاً – وهي تشير إلى السبيل الذي يمكن عبره للعصر الذهبي القديم أن يصبح يوتوبيا المستقبل الملموسة: الثورة البروليتارية.


وعمل إرنست بلوخ، إذ يرد إلى الماركسية هذا البعد الذي لا غنى عنه، هذا المكون الرئيسي الذي يمثله الحلم، الخيال، الأمل، اليوتوبيا، لا يقدم مجرد ترياقٍ شافٍ من الأفق البائس والمحدود والبليد الذي تعرضه الأيديولوجيات الإصلاحية (الستالينية أو الاشتراكية – الديموقراطية) بل يقدم أيضاً مساهمة رئيسية إلى استرداد طاقة الماركسية النقدية والثورية.