كواسر_5



1960

جويس منصور



تَأَمَّل


تَأَمَّل قلبكَ الجليل بالوَرَع
الذي يزفرُ وحيداً مخنوقاً من الرقاد
النقطة الوحيدة الحساسة في جسدك الباهت، جسد البدين
تَأَمَّل قلبكَ حتى تُحْسِنَ الإنصات إليه
تَأَمَّل أفكاركَ المرفرفة في عينيك المحنطتين
الحزينتين من كآبة الأزمنة الطويلة
تَأَمَّل أفكارك حتى تُحْسِنَ عَلْكَها
تَأَمَّل اختلاجات ضميركَ المُقَنَّعِ بالغذاء
تَأَمَّل دماغكَ حتى تُحسِنَ فهمه
تَأَمَّل ولكن لا تنتظر أبداً

*

ما العمل عندما يتخلف المالُ
بأي إلهٍ ألوذُ حين يتلوثُ الماءُ
حين ينتحبُ الخبزُ المتعفنُ تحت الفراش
حين يغطي الطاعونُ جسدكِ بجراحه الكئيبة
ما العمل حين يتأوه الفجرُ
أيجبُ أن أُغني يا محبوبتي
أغنياتِ العطور
وقاحة صرخاتِكِ
أيجبُ أن أتنزه في ظل الجبَّانات
معتمراً بالقانون مفتون العضو
محظوظاً
ما العمل حين تنشب الحرب في يدكِ
ما العمل حين يشحبُ الفجرُ

*

سوف نُفَرِّقُ الجثثَ
يوم رحيلِكَ
سوف نشنقُ ديوكاً
في جوفِ أقواس قوطية
سوف نشربُ نسغ أعوامِ العذاب
سوف أتبنى بنتاً
طفلةً
بيضةَ عيد فصح
حياةً
وهي سوف تتذكرُ
يومَ رحيلِكَ
فاسمك سيكون منقوشاً على رقعةِ روحها
بأحرفٍ كبيرةٍ من الدم


* * *

سيرة


السحبُ الخبيرةُ بأوراق الخريف
الليلكُ، النزواتُ، شايُ الممرضات الإنجليزيات
الصحراءُ التي تتململُ خلف الستار
الأخُ الذي نقترن به
الجدُ الذي ندفنه
الطفلُ الذي يفقدُ أسنانه
الكوبرا التي نداعبها
والتي تبتسم
اغتيالاتُ المخمل والقشدة
الهمساتُ الموسيقية للسود الراكعين
الأقاربُ الذين ينامون في جيب الليل الواسع
تنهداتُ اللبن، الصفعاتُ ذات الأجنحة الحديدية، الأفواه المتشككةُ، المآزقُ
موتُ الزوج الذي لا ينقضي بعدُ
الجبالُ التي لها نتوءاتٌ من الثلج والتي تقتربُ وتبتعدُ
مع كل حرفٍ منطوقٍ بشكلٍ رديء من الطفل الذي يتوسل
والذي يتأرجحُ بين الأوراق المرتعدة لعامه الثالث عشر
واثقاً من قُوَّتِهِ ومن شروقِ الحبِّ
واثقاً من قُوَّتِهِ
ومن الموتِ الذي لا يَفْنَى


* * *

وحشٌ جميلٌ


الداءُ ذو الشواربِ المتموجة
يترصدني
في كل مرَّةٍ تلتقي فيها عيناي تحت المائدة
يده الموسيقية الطويلة
تندسُّ بين نهديَّ
وتخنقُ خُرَّاجي
في البيضة
ينضحُ أنفي كمزراب
يسقطُ شعري حزيناً
وعَفَنُ المهاناتِ الطوعيةِ
يعذبني
ساقاي تحلقان أعلى فأعلى
صَدَفاتٍ مفتوحةٍ فرواتٍ ملساء
داعيةً الأفواه الرقيقة
الأزاميلَ، خيولَ البحر ذات المخالب الشرهة
إلى تقاسم لَذَّاتها
ابتساماتها، مباهجها
وحبِّ شبابها، الذي يتقيحُ

*

الثلجُ يسقطُ أيها القناعُ الجميلُ
والصمتُ الهازئُ، صمتُ المفارشِ المُبْهَمَةِ
يقفلُ عينيك الحجريتين
فأبكي ولكن ما جدوى ذلك
وأنا امرأةٌ عجوز في الثلاثين من العمر
يُثَبِّتُ دُوار النعاس شعري على رقبتي
يسقطُ الثلجُ المريضُ والعطشُ يدع أصابعه المزينةَ بالريش
تنسابُ على جسدي
أشدّ على نواجذي منزعجةً من كوني مفهومة
ولا يبقى بعدُ غير حائطٍ بيني وبين الألم
غير حجرٍ مغطىً بأوراقٍ أخيرة


* * *

عيون الأصدقاء


أبحثُ عن قلبك تحت ركامٍ من الأنقاض
عِطرٌ غريبٌ أشعثٌ ومحترسٌ
يفتشُ في جنباتي دون أن يُطفئ سيجاره المكفهر
أطباقٌ بائتةٌ تمرُّ تحت أنفي
لُسَينَاتٌ، لاماتٌ، ريشٌ من الليلك
مجساتٌ تمسكُ مسكاً أوثق إحكاماً من مَسْكِ مَرَضٍ
ذكريات لا تؤكل، نقوش عرايا لهم أوراكٌ رَبِلَة
طبقاتُ ماضٍ مقضومةٌ بالجنون
وأخرى أكثر امتثالاً مزخرفة بمسحوق الأرز
تحاصر أثاثها بالأبهة وبدنتيلات الاحتفال
أبحثُ عن قلبك تحت ركام أوراق كثيف
لكن عطر حبك أطفأ سيجاره على البساط
فأبقى وحدي مع رمادِ مسَرَّةٍ أريبة.


* * *

هلالُ الضباب


مريضة، مريضة
على فراش موتي المتجدد أبداً
كذبابة على قطعة جبن بيضاء
أعلّل نفسي بفكرة أن عينيك سوف تبقيان بعدي
وأنهما سوف تعيدان مداعبة حيواناتنا المتضورة من الجوع
وأنهما سوف تعيدان رؤية شواطئنا
وأن شعور الصبايا في عمق الماء الأشهب
والتي تتمايل وتتبختر عند مرور الأسماك
سوف تبهر كالعادة حدقتيك المنتجتين للخمر
أفكر مبتسمةً في عينيك، في نظراتهما التي بلا وجهة
ولا فائض من الدموع
عينيك اللتين تهجعان هناك تحت غطائي كمدفأةٍ قديمة
كمشدٍّ
النهار يموت معلَّقاً بدبوس على الجدار
وأنا في فراشي
(لا تهتز على كرسيك)
قدماي مكعبان من الثلج لن يفلح أيُّ صوتٍ في كسرهما
ساقاي نسيتا قفزاتهما في المروج
وحده فمي يكابد لا يزال ويرتعد
ولكن من الذي يسمعُ صرخات لسانٍ عاجزٍ بشكلٍ فاتر
إلى الخارج تثيرُ الشمسُ شفقةَ غدير الماء الأخير
هناك في الحديقة حيث كنتُ أتمددُ طفلةً
جافلةً كحيوان رخوي ولكن محدودبة بالخديعة
وسعيدة أحياناً
عيناك تجتسان الأخبار
تتأبدان على أنفي راقصتين الفالس منزعجتين
عاجزتين عن الفهم
خطواتك المنسحبة بالفعل تبتعد على الحصباء
وهذا حسن
سأسقط كورقة
وحيدةً وقورةً ودون ماكياج
فمن المزعج أن يحتضر المرء بينما يريد الأقارب الكلام
والحشرجةُ العميقةُ ذاتها وقحةٌ غالباً.


ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي

كواسر_4


1960


جويس منصور



لأنك بلا فخذين


لأنك عجوزٌ وبلا أوراق رابحة
لأنك تلهثُ وتتصببُ عرقاً في الظُلمة
لأن يديك تبحثان عن ركنٍ رطبٍ للموت
سأوخزُ جذعك المأساوي بإبرٍ رهيفةٍ
منقوعةٍ في العسل
وستبتسمُ يا ساكن جزيرة الليل
بملء شدقيك الشائكين
بكل ذعرِكَ
لأنك أخرسٌ وأيامك معدودة
لأنك بلا فخذين


* * *


إلى أندريه بير دو مانديارج
الموتى الذين لهم رؤوس كلاب



أعرف أن من يموتون أثناء الجماع يتبدلون ويتعلمون المكابدة
من جديد
حين يَسْتَلُّ القمر شفرته ذات العينين الطريتين
يضجون من جراحهم ويتقلبون ويبدون خائري القوى
ممسوسينَ بالفراغ
ضائعين مُمَزَّقين
يملأون الهواء بأعضائهم، يفتحون أفواههم يصرخون
تتبرعمُ لآلئٌ على جدعاتهم الجميلة
يسيلُ اللبنُ
لكن الرذاذ ينفخُ السماواتِ حيث تسبحُ العفونةُ
مُغرقاً حتى الأموات ذوي العيونِ المُهَنْدَمة
مُغرقاً الطغاة الذين يتنازعون على الخلود
مُعَوِّمَاً البشرَ والخيراتِ
النساءَ الأطفالَ الرجالَ الكلابَ
الكلابَ التي لها رؤوس بشر
جميع كلابِ البشرِ هذه
في حساءِ العدم
المتداخل

* * *


سُنَّةُ الحياة



أن يأكل المرء عيناً من بيضة
جواداً أو أيلاً
دماغِ عافية طريةٍ
كلبَ صيدٍ، كمنجةً
أن يأكل من أجل الأكل
أن يختنق باللحم
أن يُهَيِّجَ شرجه على مِشْعَلٍ من فِراءِ السنجاب
أن يأكل لكي يموتَ في زفرة دم
أن تتغذى لكي تمنعَ الآخرين
من أن يأكلوك


* * *
المَرْكَع



حمامةٌ راقدةٌ على حجرٍ أسمرٍ مُحْمَرٍّ
تتأملُ
تتأملُ
ومنقارها تمحوه ريحٌ شريرة
وجناحاها يتدليان حول عنقها
استيقظَ الحِجرُ وأكلَ الطائرَ المتأملَ
بالرغم من قوةِ بصرِ الحمامةِ
بالرغم من أن الحِجر لم يكن شديدَ الجوع
بالرغم من تأملِ
الحمامةِ


*


هناك امرأةٌ عجوزٌ على الطريق
متعبةٌ مُعَفَّرةٌ
مترنحةٌ بين الحمار وفتور
الظل
هناك الأمواج التي تندفعُ في الزرقة
والبحر
هناك مشنوقون في حقول الكروم
جَداجِدٌ تتأبدُ على الأرض المحدودبة بشكل لطيف
أطفالٌ في أشجار الزيتون القزمة
هناك فلاحون لهم عيون رَميصة
طحالب وامتصاص الوحل حين تنزوي الشمس
الليلُ يمتدُ فوق البحر والشواطئ الصخريةِ والأدغال
والعجوزُ المبتئسةُ في السواد دون كلمات بلا طائل
تنامُ على حمارها والعينُ مطفأةٌ والذراعان مكتوفتان
صورة للسكينة وللشكوى


*


رائحةُ القضاء
رائحةُ الصبر فوق الإنساني
البهائمُ المسلسلة وراء قضبان
الصدفة
رائحةُ الخوف
رائحةُ البراز الذي ننشره على قبورِ
الناسِ الفقراء
وحوشُ الشرطةِ
قسوةُ الأطفال
وتلك الرائحةُ المُرَكَّبَةُ التي هي الحرية
خليطٌ من محلول االنشادر
والمولاس
والرشح



* * *



أغنيةٌ لأجلِ الأقدام



اثني عشر إصبعاً صغيراً
مصلوبةٌ على مسامير
اثني عشر إصبعاً مصلوباً
مُرَمَّلةٌ في الوحل
وأنا الوحيدة
ألوي ساقيَّ اللتين بلا ركبتين
أرمي قدميَّ للبحر
وأنام على الرمل الطري
لأن الأصابع الإثنى عشر الصغيرة
هي لك

* * *


أوقات فراغ القانون



كوابيسُ القضاة
منفتحةٌ على العصافير
منغلقةٌ على الأطفال
والنباتاتُ المتفتحةُ للأمعاء الشائخة
تجيءُ لتموت ميتةً فادحةً على بياضِ المُرَبَّعاتِ
حيث أجسادُ سيئي الحظ
المتعبين من كدرهم وحجزهم واستجوابهم
تنحبس في زوايا جنونٍ غير مشكوكٍ فيها
في حين أن النساء الصباحيات بأصابعهن المجدولة المجروحة
يجئن لحصد حظهن ومكنساتهن مُمتَشَقَةٌ
بين دكة المتهمين
وسترات الجندرمة
شديدي الانتباه إلى إشارات وكلاء النيابة الحذرين
وينتشر الرعبُ في الهواء وفي الماء
ملوثاً وعودَ الطبيعة في خضوع
ملصقاً الأحجار نفسها بالقذارة



* * *

LITTLE ROCK



حيثما تذهبُ
أذهبُ
ورأسي مدثرةٌ بالدموع
حيثما تصلي أصلي
أوه من يأس هذه الحوائط النائمة
شعبكَ سيكون شعبي
فراشك رجائي الوحيد
إلهك سيكون إلهي
وسُرَّتُكَ
المكان الذي أحط عليه
فجلدك وحده أسود


*


كذبتُ يا حماري العزيز حين أسدلتُ جفنيك
كان الليلُ بعيداً وكان قلبكَ لا يزال يخفقُ
أذنبتُ يا حماري العزيز حين أبلغتُ الموت
بموضع رأسكَ الصوفية والجريحة
على الشاطئ حيث كان الرعب يتسكع
أسأتُ التصرف يا حماري العزيز حين أسرعتُ بدفنك
كان الأولى بي أن أرقدَ لكي أموتَ بدلاً منك
أنا صديقتك التي دقَّتْ قَرْعَةَ الحُزن
كان يجب عليَّ في تلك الليلة أن أحيّي الأرضَ
وأن أدع الديدان تتغذى على لحمي
لكنك أنت يا حمار أيامي القديمة الذي جُرح لكي يرضيني
تنامُ في رخاوةٍ قتيلاً في وحدتك الرائعة
والموتُ المستمتعُ بهذه التضحية ببرئ
قد وبخني هازئاً
غير غافرٍ وإن كان منتعشاً



* * *

المبضع



مثقلتين بالخجل
مرتجتَين على سيقانهما الخشبية
امرأتان لهما عيون مجانين
رفعتا تنورتيهما، ملابسهما الداخلية، زبانياتهما
وتداعبتا بالفخذ
وربلةِ الساقِ والركبة
كانت لحظةُ العذريةِ قد مرَّت
وخلف الستار
كانت الممرضةُ تمطُّ شفتيها


ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي


يتبع

كواسر_3

1960

جويس منصور


طريدة الدرب المرصوف بالحصباء

هناك يداك في المُحَرِّكِ
فخذاي على صندوق السيارة
الفرملةُ بين ركبتيَّ
لحمكَ في مقابل جلدي
هناك عصفورٌ على المروحة
رجلٌ تحت العجلات
يداك في المُحَرِّكِ
تلعبان بمسمار
هناك صرخةٌ في المُحَرِّكِ
شرطيٌ ودفتر في جيبهِ
طريقٌ في المرآة العاكسة
ريحٌ بين ركبتيَّ
عملاقٌ بلا رأسٍ يقودُ المَرْكبة
وهاتان هما يداي على المقود
وعضوي البريء الذي يتوسل

*

تُكَشِّرُ ويَتَنَسَّلُ قلبي
أتكلمُ من أنفي
شَعري يسقط
تضحكُ
تفتحُ فمك
رشيقةً ومحفورةً كنَفْسَاءٍ
أقفزُ بين ذراعيك
موكبٌ من المداعباتِ يدخل دخولاً مُرْتَجَلاً
فراشي ينغمرُ في الليل
ثيابي تسقط
وأنت تضحك

*

شخللةُ النقودِ
في جيوبنا وفي قلوبنا
الحبُ اللاسلكي للجمهور الليلي
المُهَدْهَدُ بالمال المخبولُ بالمال
المحميُ بالمال
المُعَفَّنُ بتعاسة المال الوبَرِة
اليأسُ الذي يزقزقُ
الغباوةُ الباردةُ للقهقهات المهبلية
التي تتخذ لنفسها مكاناً في الحريق القارس لألعاب الضوء
الكهربائي الكهربائي الكهربائي
التفوقُ الساحقُ للمال على أجسادنا
التي ترتعدُ في اللزوجة
بالرغم من عنكبوت الشيخوخة الذي يعلو
بالرغم من مراجل العار
حيثُ تُشْوَى بلهاءاتٌ لهن شعرٌ من الصوف
بالرغم من الموت ذي الوجنات السلافية
والذي يأكل نفسه ويتخضب أمام مرآته
عارياً تحت ستر من الليل.

*
ليس ذنبي
إن كان فخذاي مصبوبين
في جلدي
لم أكن أُريدُ إطلاقَ تكشيرةِ رغبتك
عندما خلعتُ جبيني
رهينَ الحظِ تشبثت بشق مؤخرةِ سترتي
ليس ذنبي
إن كان إنذار الخطر قد رَنَّ
وأن يدك التي وقعت في الفخ
قد نُزعت وحُوكمت ووُبختْ
وشُنقت من الرقبةِ كدميةٍ من القشدة
ليس ذنبي
فقد كنتُ أريدُ أن أغفر لك.

*

يجبُ للعصفورِ أن يحشو منقاره بالتراب
قبل أن يشرعَ بطيرانهِ
يجبُ على الوَسَخِ الذي يلتصقُ بأقدام الخنازير
أن يكون قادراً على اقتفاءِ النساءِ في ظلِ أسرَّتهن
حتى يتخلى اللحمُ عن حاسة اللمس
يجبُ عليَّ أن أضمَ رُكبتيك
بالرغم من الدم الذي يسيل من أحشائك
الشبيهةِ بصرخة
بالرغم من العفاريت الشريرة وقرونِها وذيولِها
يجبُ أن أبوس قدميك قبل أن أجوبَ العالم
يجبُ أن يذنبَ المذنبُ إلى حد الوحشية
حتى ينسى تماماً ويبدأ من جديد تماماً
حتى يُحسِنَ الانتظار.

*

الدربُ يتسكع في عَفَرِ المنعطفاتِ الرمادي
الحبةُ تموتُ في الحقول
الصاعقةُ تُقَشِّرُ الأعمدة
هنديٌ أكثر شيخوخة من ريحِ العاصفة الساخنة
أكثر تأججاً
يرزحُ على السواء تحت وطأة أبيه وماضيه
مشدودأً إلى عبئه بإزار من اللحم
يترنح وحيد الظلِ مسافراً بين أخاديدِ الأرض والفكُ طويل
فأْلٌ سيء
القمرُ يرحل
الهنديُ يدعُ أباه ينزلق على كثيبٍ، كالماء
عربةُ اللذة تجلدُ الدرب بذيلها
وتمرُّ كئيبةً حلزونيةً وعُرفُها قرمزي
على أجسادٍ واقفةٍ راقدةٍ متعبةٍ من كونها هندية
ملفوفة في الوحدة كبيض في عش
جسدانِ على دربٍ مهجور.

*

منذُ أن عرفتُك
يا روحَ روحي
كل أفعى خرافية أبْلَعُها تتحول إلى روح
التلهفاتُ المحزنةُ للنساءِ المحبوساتِ أمام الحبّ
تُنيخُ على فخذيَّ كأوكار ضفادع
ونبتةُ المستنقع تتفتحُ أمامك
كفمٍ وسخٍ ساطعٍ بالاستهزاء
أنتَ تُجَمِّلُ طريقي
يا روح حبي الذي بلا حدود
كمثل ورقةِ زهرةٍ على قبر
كمثل دمعةٍ في الحساء
أكمنُ لك في الليل متوترةً إلى حد المجازفةِ بالانكسار
مُتمنيةً مجيئكَ دون أن أعرف نَفْسي بعدُ
هاكَ كرةً من الزفراتِ على وشك الانفجار
تنكمش بين فكيَّ منزوعيَّ المفاصل.

ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي

يتبع

كواسر_2

1960

جويس منصور



PERICOLOSO SPORGERSI


عاريةً
أطفو بين حطام بشرٍ لهم شوارب من الفولاذ
صدئةٌ بأحلامٍ يقطعها
نعيبُ البحر الرخيم
عاريةً
ألاحقُ أمواج الضوء
الراكضة فوق الرمل الموشَّى بجماجم بيضاء
صامتةً أرفُّ على الهاوية
الصقيعُ الكثيفُ الذي هو البحر
ينيخُ على جسدي
وحوشٌ أسطوريةٌ لها أفواه بيانوات
تسترخي في المهاوي في الظل
عاريةً أنام


*


انظر، لقد عافت نَفْسي الرجال
توسلاتِهم جزات زغبهم
إيمانهم أهواءهم
سئمتُ فضائلهم الزائدة عن الحدّ
ذات الثياب القصيرة
سئمتُ هياكل أجسامهم
باركني أيها الضوء المجنون الذي يضيء الجبال السماوية
أطمحُ أن أرجع فارغةً كعين الرقاد
المطمئنة
أطمحُ إلى أن أرجع نجمة


*


أحلمُ بيديك الصامتتين
المندفعتين على الأمواجِ
الصعبةِ المتقلبةِ
واللتين تهيمان على جسدي بلا عَدْلٍ
أرتعدُ أذبلُ
إذ أفكر في سرطانات البحر
الزبانيات المتجولة الشرهة إلى الفوز
التي تكشطُ مَنيَّ السفن النائمة لتنشره بعد ذلك على ذرى الأمواج في الأفق
الذرى الكسولة المُعفَّرة بالسمك
حيث أسترخي كل ليلة
مُترعةَ الفم دفآنةَ اليدين
بحارةً مُسَرنَمةً مُمَلّحَةً بالقمر.


*


سأسبحُ في اتجاهك
عبر الفضاء الشاسع
الذي بلا حدود
الحامض كبرعم وردة
سأجدكَ أيها الرجل الجامح
النحيل الغارق في الدنس
قديس الساعة الأخيرة
وستجعلُ مني فراشك وخبزك
وأورشليمك.


*


سأكتب بكلتا يديَّ
يوم أصمتُ
سأتقدمُ صلبةَ المفاصلِ
وصدريَ الناهد
المريض بالصمت المكبوت
سأصرخُ بملء أحشائي
يوم أموت
حتى لا أقع حين تسبرني يداك
عاريةً في الأرض اللهوب
سأخنقُ نَفْسي بكلتا يديَّ
حين يلامسني ظلك
ممزقةً في قبري حيث تلمع فُطْرات
سألملمُ نَفْسي بكلتا يديَّ
حتى لا أذوب في صحن الكهف
حتى لا أكون سبيةَ حبي الزائدِ عن الحد
وستهدأُ روحي
عاريةً في جسدي المُبهِج.


*


غارقةً في أعماق حلمٍ مُمل
أُعري الرجُلَ
الرجل، هذا الخرشوف المكسو بالزيت الأسود
الذي ألعقه وأطعنه بلساني المصقول جيداً
الرجل الذي أقتله، الرجل الذي أجحده
ذلك المجهول الذي هو أخي
والذي يدير لي خده الآخر
حين أفقأ عينه، عين الحَمَلِ الباكي
ذلك الرجل الذي في سبيل الجماعة مات مقتولاً
أمس وأول أمس وقبل ذلك وبعدُ
في سراويله المتهدلة البائسة، سراويل الإنسان الأسمى.


*


يداك تعبثان في صدري قليل العري
مطوِّقتين خصلاتٍ شقراء
قارصتين حلمتين
جاعلتين أحشائي تصر
مُخثرتين دمي
كان لسانك هائجَ الحنق في فمي
يدك وسمتْ خدي بالبهجة
أسنانك خربشتْ تجديفاتٍ على ظهري
نخاعُ عظامي ذاب بين فخذيَّ
والسيارةُ تركض على الدربِ المتعجرف
ساحقةً عائلتي على الممر.


*


تتقدم على جوادك الخشبي
ورمحك الرهيف الذي من الشهوة
المفعمُ بشذا الطفولة البرئ
مشدودٌ أمامك
عازماً على اختراق اللامبالاة الجسيمة
للفُطْرات المكتسية بالساتان الوردي
الراقدةِ في طريقك
طريق الفارس الذي بلا لحيةٍ
ولا نقيصةٍ ولا فتحةَ سروالٍ.


*


سأغمسُ نَفْسي في فُرشاتي ذات المخالب
معجبةً ببطني المُرَبَّعَةِ
بأسناني الصهباء
بعينيَّ الغائرتين
منتظرةً وصول غير المؤكد
مكتسيةً في زهوِ رغوةِ الصابون والبراز
ببغاء صغيرة في قفصٍ جد مُذهَّب
ضجرةً من العجز عن عملِ شيء بملء إرادتي.


*


أنتم لا تعرفون وجهي الليلي
عينيَّ الشبيهتين بأحصنة الفضاء المجنونة
فمي الملطخ بدمٍ مجهول
جلدي
أصابعي أعمدة الإشارة المرصعة بالبهجة
سوف توجه أهدابكم نحو أذنيَّ، لوحَي كتفيَّ
نحو حقل لحمي المفتوح
مدارجُ ضلوعي قد تنقبض إذ يخطر لي
أن أصواتكم قد تملأ حلقي
أن عيونكم قد تبتسم
أنتم لا تعرفون شحوب كتفيَّ
في الليل
عندما تتطلبُ شُعلُ الكوابيس المُهَلِّسَةُ الصمتَ
وأن حوائط الواقعِ الرخوةِ تتعانقُ
أنتم لا تعرفون أن عطور أيامي تموت على لساني
عندما يجيء الأشرارُ ذوو السكاكين المسترسلة
أن قلبي الأَنوف وحده هو الذي يبقى
عندما أغوصُ في حمأةِ الليل.


*


تعرفُ مازلتَ رائحةَ الأعشابِ الجميلةَ
كم يمكن للأشياء المألوفةِ أن تكون غريبةً بعد رحيل
كم هو كئيبٌ الغذاء
كم هو فاترٌ الفراش
والقططُ
تَذْكُرُ القططَ ذات المخالب الثاقبة
التي كانت تموء على السطح عندما كان لسانك يحفرني
والتي كانت تتنمر عندما كانت أصابعك تسلخني
كانت تهتزُ عندما كنتُ أستسلمُ
لم أعُد قادرةً على الحبّ
فُقَّاعَاتُ الهذيان الموجعةُ تسقط من شفتي
لقد هجرتُ قناعي، قناعَ ورقةِ الشجرة
شجرةُ وردٍ تحتضرُ تحت الفراش
لم أَعُد أَتَوارَكُ بين الحصى
القططُ هجرت السطح.



* * *


قِصَرُ نَظَرِ الذين بلا موعد


لم يكن لها غير عين
عين من الصفيح
كانت امرأةً صالحةً
لم يكن لها غير قميصٍ على ظهرها ذي العظام المستوية
ولفتين من الشحم بين القميص والقلب
وبرةٍ على الشفتين
لفاعٍ زغبي دون رونق
تذكرةِ مترو بين القميص والشفتين
كانت أنيقةَ الملبس
بلا مقابل.


*


البومةُ البلهاءُ للغاباتِ المعتمةِ
تُعَلِّمُني
أن الحقيقةَ ليست بعدُ الحقيقة
دون أقنعتها
أنه لا يجب الإصغاء للحنِ الحياةِ الخرساء
دون القدرة على فهمه
أن الوحدة تبدل كلَّ الأصوات
حتى صوت الكراهية
أن الألم البطئ
للفلاحين الذين بلا كدٍّ
يُباعُ ويُؤكلُ كالخبز
أن الضحية تعاني
من الرعونةِ الضاريةِ للجهاز المعوي
وخصوصاً كيف تحملُ الإباء على ظهرها
دون أن تبدو
حدباء.


*


هناك
صخرةٌ فريدةٌ لا تتجزأ تحت مشدي الذي من الدانتيلاَّ
فرخٌ صغيرٌ ذو عينين مائلتين
يوخزُ تربةَ جفني الملتهب
كلبٌ ودودٌ بين أصابعي عندما أوقِّع
رائحةُ لبنٍ جميلةٍ عندما أقتُلُ.


*


النحلةُ التي تضيع وقتها متململةً على زهرة
الرجلُ الأسودُ ذو الإبطين الطريين
الذي يخفي رأسه بين يدي
والذي يمشي في ظل الظل
الظل.

يدكَ التي تنسحبُ على الثوب كبقعةٍ من الشحم
يدكَ التي لن تستيقظَ بعدُ
كل هذه الأشياء الضائعة المبددة المحزنة
كرقاد الرَجُلِ الذي سيموتُ عند الفجر
والذي يعرفُ ذلك
محراثُ روحي يشق مساره غير المرئي في المستنقع
الليل يرتجُ على عقبيه
يا إلهي، كم أنا خائفة.


ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي

كواسر_1

1960
جويس منصور



الدرع


حين تنهمرُ الحربُ انهمار المطر على الموج الصاخب وعلى الشطآن
سأخرجُ لملاقاتها مسلحةً بوجهي
مُعْتمِرَةً بشهقةٍ مخنوقة
سأتمددُ منبطحةً
على جناح قاذفة قنابل
وسأتمهل
عندما يحترق الأسمنت على الأرصفة
سأقتفي مسار القنابل وسط تقطيبات الجموع
سألتصقُ بالأنقاض
التصاقَ خصلةٍ من الشعر على أجرد
ستحرسُ باصرتي أطرافَ الخرابِ الممددة
موتى يتلألئون بالشمس وبالدم
سيخرسون بجانبي
ممرضات يرتدين جوانتيات من الجلد
سيخضن في سائل الحياة البشرية الحلو
وسيشتعلُ الذين في النَزعِ الأخير
كأنهم صروحٌ من القش
ستسوخ الأعمدة
ستتأوه النجوم
بل وستتلاشى السراويلُ الناعمةُ
في فضاءِ الفَزَعِ المترامي
وسأهزأُ مكشوفة الأسنان
بنفسجيةً من النشوةِ المفرطةِ
الهستيريةِ الفياضةِ
حين تنهمرُ الحربُ انهمار المطرِ على الموجِ الصاخبِ وعلى الشطآن
سأخرجُ لملاقاتها مسلحةً بوجهي
مُعْتَمِرَةً بشهقةٍ مخنوقةٍ.


تنجيم


زوجُكِ يُهمِلُكِ؟
حَرِّضي أُمه على قضاء الليلِ في غُرفتكِ
ثم وأنت مسترخية في الدولاب قرب السرير
اعرضي منتهاكِ بالإضافة إلى حفنةٍ من السحالي
في المرآة التي يتمايل فيها الظل
زوجُكِ يتهرَّب منكِ؟
المدير السماوي بحاجة إلى ريجيم
تبوَّلي في حسائه عندما يتمددُ سعيداً إلى جواركِ
كُوني عذبةً ولكن حاذقةً في حشو الأوزة السمينة بأخطبوطاتٍ من الرسائل
وبزغب نبتةٍ باذنجانية
عاكسي أهواءه بفرشةِ حلاقةٍ من الحرير
رُشي فراشته بالدم وبالسخام
واحرصي على الابتسام حين يموتُ بين ذراعيكِ
وسوف يُفكرُ فيكِ مُرْغَماً.


*


لا أعرفُ الجحيم
لكن جسدي يتقد منذ مولدي
ما من شيطان يؤجج أحقادي
ما من كائن خرافي يلاحقني
لكن الكلمة تتحوَّل إلى حشرةٍ مؤذية بين شفتي
وعظمُ عانتي جد الحساس للمطر
المشلول كحيوانٍ منتفخٍ بالموسيقى
يتشبثُ بالتليفون
ويبكي
بالرغم مني تحتدم جثتي مع عضوك الشائخ المخلوع
الذي ينام.



أغنيةٌ عربيةٌ


العينُ تتأرجحُ في الليلِ لحظةَ الموت
أوه أيتها الحماقةُ البريئة اللامعة للأجنة التي لا نعرفها
مبطنةً بالصمتِ تحكُّ الذراع على الوسادة
وتفتحُ العين المستديرةَ على ليلِ ما لا يُدْرَكُ باللمسِ
وحائكُ النرجسيات البارد يخبطُ برجليه على عيني
أرى انزلاقَ البساطِ المتحرك للأفقِ الذي يتوهج ويحترق
يا له من إهابٍ مرتجفٍ على جسدٍ يتوارى
صخبُ أحشائي الملبَّدُ يتجمدُ من الرعب المجنون
أعطسُ لكنني لا أرتج
والعينُ التي تحبسُ أحلامي، التي تسبح والتي ترمش
العين تغزو لياليَّ
الليل الليل الإعصار
العين البراقة ذات الإزهارات الغريبة
العين المريضة بالأخيلة.


ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي
يتبع

تمزقات_8

1955

جويس منصور



المطرُ يهطلُ في المحارةِ الزرقاءِ التي هي مدينتي
المطرُ يهطلُ والبحر ينتحبُ.
الموتى يبكون بلا توقفٍ، بلا سببٍ، بلا مناديل
الأشجارُ ترتسم جانبياً إزاء السماء الراحلة
كاشفةً جوارحها للملائكة وللطيور
لأن المطرَ يهطلُ والريحُ تصمتُ.
القطراتُ النَزِقَةُ المنتوفةُ الريش من الوَسَخِ
تطاردُ القططَ في الشوارع
ورائحة اسمكَ الزكيةُ تفيضُ على أسمنت
الأرصفة.
المطرُ يهطلُ يا حبي على العشب الأسيان
حيث نما جسمانا المتمددان مبتهجَيْن
على مدار الصيف.
المطرُ يهطلُ، أوه يا أمِّي، وحتى أنتِ لا تقدرين على شيء
فالشتاء يمشي وحده تماماً على امتداد شطآننا
وقد نسي الله إغلاق الصنبور.

*

إن كانت الأسماكُ تتوارى تحت البحر
والمرجاناتُ الشاحبةُ من القلقِ تُحَيَّيكَ بلا كلمةٍ
فَأَسْرِع لأن التيار يركض.
إن كان الأطفالُ السودُ الذين بلا أمل في أن يجدوا غذاءً
يَغْرقون
في صقيع قلبك الكئيب
فَأَسْرِع، أيها الرجلُ المريضُ المُرَصَّّعُ بالشفقة
اقتل نفسكَ لأنَّ الحشودَ تتمرد.
لقد دقت ساعةُ ارتداء شبحك
أبصر، الشفقة ليست رداء هذا العام.

*

سَرَقْتُ الروحَ المُذَهَّبَةَ لشمعةٍ جميلةٍ
والرائحةَ المخمليةَ لخنزيرٍ ريفيٍ.
وحقَ مداعبتكَ، أوه يا عاشقي.
سَرَقْتُ
اسم زهرةٍ ذابلةٍ على مقبرةٍ
والفخذَ الطريةَ لريفيةٍ
وإهابُ روحكَ، آه يا عاشقي.
سَرَقْتُ، أعرفُ ذلك لكن الله غَفَرَ لي
لأن فراشي دنس
ويداي ملعونتان
وغنيمتي جائزة رحمته.

*

أنا في الليل ضفدعةٌ
الكلُ نائمٌ والكلُ يسمعُ
الصوتَ الخفيَ للماءِ الراكد
والذي يغمغم.
أنا في النهار أفعى
أنام ويمكنني أن أسمع
لَجَبَ الشمسِ على ماءِ عينيكَ الأخضر.
ولكن حين يرتفع الضباب
على الروابي الرمادية لطفولتي
أهمسُ بأسماءِ الجنِّيات
التي ترعى في المروجِ
والتي تغمرُ وجوهها الجميلةَ
في دموعِ ماضيَّ.

*

أَتَذَكَّرُ رَحِمَ أُمي
كان وردياً بشكل رقيق
وكانت جدرانه فواحةً بالرعب.
أتناقشُ واقفةً
كازَّةً على أسناني الصغيرة
مع القطِ ذي الذيول المقضومةِ
وعدوه أَبي.
طفلي مولودٌ في أحشاء أُمي
عيناه الزرقاوان تعكسانِ اسمي
في غباوتهما الكثيفة
وهو يشبه القطط الصغيرة
التي تجوس في الشوارع الملتوية
والتي تُخفي ذيولها المقضومَةَ
في جيوب معاطفها الخاويةِ.

*

شجرةُ وردٍ تصعدُ بين نهديكِ اللذين من شمع العسل
طرِّي حدبتكِ، يا جيزيل
الشمسُ تتجاوز تحت ملابسكِ الداخلية
قَوِّمي حدبتكِ يا جيزيل.
سمعتُ شكواكِ عبر الضباب
تبعتُ ظلك في الشوارع التي بلا خبز
أُريدُ أن أكون أب حدبتكِ، يا جيزيل
أريدُ أن أكون زوج مَلِكَةٍ.

*

رأيتكما مضمومين في الريح
مبلولين بلسان الرغبة الخشن
وصدراكما اللبنيين متحدين
دون نَفَسٍ
كبوصتين أسكَرَتْهما رِقَّةُ الماءِ
كتوأمين.
رأيتكما راقدين في ذَهبِ النباتات الشائكة المُرّ
تمزقان جلديكما اللذين لهما ظلالٌ خفية
تُفرزان أعلى شهواتكما
نائمين.
وأنا كشجرة يوجعها عريها
وحيدة، مسحوقة في وجه سماء خبيثة
لم أَكُن غير هُزأة تعيسةٍ دَهِشَة القلب.

*

اسمعني
تسمعني يداك
لا تُغمض عينيك
فخذاي لا يزالان مفتوحين
بالرغم من ضوء الهاجرة الصارخ
بالرغم من الذباب
لا تَرفُضْ كلماتي
لا تهُزَّ كتفيك
اسمعني يا إلهي
لقد دفعتُ العُشر
وصلواتي قيمتها تساوي قيمة صلوات جارتي.


ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي
تمزقات

تمزقات_7


1955


جويس منصور



الكتابةُ الصماء
تسقطُ على العشب الخصب
وتموت.
من الذي سيقرأ حُبِّي الزائل؟
من الذي سيمكنه أن يرثي لحالي؟
الأطفالُ وحدهم يمكنهم المكابدة دون أن يبيعوا أنفسهم
الآلهةُ وحدها تعرفُ القراءة.


*


ابكِ يا روحي فالأرض عارية
ابكِ أيتها السماء غير الشقية
علَّ خُبزيَ يُزهر من جديد.
ابكِ أيها الرب غير الشفوق
كلبي ما عاد يضحك
فَرْجي يجفُ
وتُوِيجاتُ الجنونِ المُذَهَّبَةُ
تسقطُ.


*


الماءُ يهدلُ تحت فراشي اللازوردي
دموعٌ تتدفق من نهديَّ اللؤلؤيين
ملطخة جلدي الملائكي
بالأحزان.
احتضنيني يا سمكةَ الليلِ الضامرة
فالساعاتُ الضائعةُ تتأوه في الشوارع
ولحمُ حفاري القبور الحلو
يستوي.


*


أعطاني مزهرياتٍ مرمرية
طوَّقَ خصري بدموعه
علمني علم المومياءات
غَذَّاني، آواني، ذاد عني،
دَفَنَني تحت هرمٍ من الحزن
وعندما بحثتُ عن وجهه في السماء
أخذت الشمسُ الغيورُ مكانه في عينيَّ


*


أريد أن أرقد معك جنباً إلى جنب
وشَعْرِي مختلطٌ بشَعْرِك
وعُضوك مضفورٌ بعضوي
وفمُكَ وسادة.
أريد أن أرقد معك ظَهراً لظَهر
دون نفَسٍ يفصلنا
دون كلماتٍ تُلهينا
دون عيونٍ تكذبُ علينا
دون ثياب.
أريد أن أرقد معك صدراً لصدر
مثارةً وغارقةً في العرق
المتلألئ من ألف رعشة
مُلْتَهَمَةً من شلل النشوة المجنون
مُمَزَّقةً تحت ظلك
مَسْحُوقَةً بلسانكَ
حتى أموت بين أسنان الأرنب المُسَوَّسَةِ
سعيدة.


*


ماذا تكون يدي؟
أيجبُ عليَّ بترها حتى أتمخط بشكل أفضل؟
لقد وَلَدَتْ قِزماً.
فما هو القزم؟
هل يشربُ الحساء الرخو للشهوات المشروعة؟
أيجبُ عليَّ قتله قبل أن يمتصَّ إصبعي؟
أم يحسن بي تأطيره
وتعليقه كتعويذة
على سقفي؟


*


أوه يا إلهي، أنت يا من تحلِّق فوق جناحين مستعارين
لا تضحك من صلواتي البائسة.
لقد دهَنْتُ جلدي بغائط المجذومين
نَزَعتُ أظفاري الغارزة
ومحتدمةً بنفسجيةَ اللون من الغضب
مرتعدةً أمام ملائكتكَ الهَازئين
أفْتَحُ فَخْذَيَّ عن آخرهما لأفوز بعطفك
يا إلهي.


*


جثةُ جدتي
تثرثر في الهواء الطلق
مع البومة ذات الأهداب الطويلة
وسماء الشتاء القاسية.
جدي يحرس زوجته
أمي تلملم دموعها
أبي يمصُّ قدميه
وأنا أُغرق صئباني،
عاريةً تماماً في النهر.


*


الإهابُ الوردي
الذي بالرغم من تمزقاته
يُخَبِّئُ روحي الخلاسية وأحلامَها الصدئة
يهتزُّ لأنَّ صوتَكَ يرحلُ.
الشراعُ المُشْعِرُ
الذي، حزيناً لفراغه،
يرفرف في الريح الفاترة للنسمات الخفيفة
يهتزُّ ويتقيأ أحزانه في البحر.
المِنْشَفاتُ القذرة
خِرَقُ الاحتشامِ التافهةُ تلك
والتي تغطي جسدي المذعور
تَرْشَحُ.
والمدُّ المختلجُ
لضحكتي
يردُّ على صوتكَ الممتلئ بالرمل
مازلت مذعورة.


*


الزنجيُ المُقَطْرَنُ.
المذعورُ والمُصَفَّدُ
كان يموت
والآلهة التي تحجبها فراشاتٌ ليليةٌ
تضحكُ.
كان الزنجيُ يحشرج
والآلهةُ ذات العيون المنتفخة
تنتجُ بيضاً لزجاً
وهي تضحك
لأن الزنجي
المُقَطْرَنَ
الذي كان يموت مُصَفَّداً
كان يحلم.


*


الرجالُ والنساءُ
ينسابون واقفين
على السلم الآلي الذي يقود إلى اليأس
مارين بشعاعٍ من الأُلهيات
الخرشوفاتُ المرتدية قمصاناً والتي لها عيون
للتغوط
وسرطانُ البحرِ الأصهبُ الأبدي
الذي يتجشأ ضراطه الموسيقي
في قمع المترو
الذي تفوح منه الروائح.


*


وَجَدْتُ نبتةً باذنجانية
هناكَ حيث أراقوا دماءَك
هناك حيث شنقوا محبوبي
هناك حيث رأيتُ رأسكَ تسقط
هناك حيث تُزهرُ الأرض.
دون ذراع تُوقِفُ سقوطها
كانت ترقص على قدميها المتورمتين
وكانت خطواتها غير موزونة لأن ظلها
كان يُحْدِثُ حَوَلاً.
التقطتُ النبتةَ الباذنجانيةَ
لم يكن لها غير عين واحدة على جبينها المُقَشَّر
وكانت الأخرى تتدلى من قدمها الممدودة
فمها الكهفي أثار حنقي
لكن الغريب يا حبي
هو أنها كانت تشبهك.
رَمَيتُ النبتةَ الباذنجانيةَ
على الأرض حيث سكبتُ دموعي في الزمن
وكانت تهربُ دائماً عندما ترقد الشمس
على قدميها اللتين لاتكفان البتة
عن الرقص.


*


تَذَكَّر
رَفَّ قلبيَ المتقطع
اضطرابكَ
حفيفَ زَغَبي
عندما أضحك معك
ريحَ الروائح الزاخرة
التي تسبق جسدي المشتعل
المطاطَ السميكَ الرمادي لأمسيات الشتاء الرخوة
عندما نسمعُ الفئران وهي تصلصلُ
إذ تأكلُ الخشخاشاتِ
أنت وأنا.


*


أنا عاريةٌ
والموتُ يغني
أنا عاريةٌ تحت شعري المنشور
وعيناك الفاحشتان المحاطتان بطلي المينا
تكتشفاني.
أنا عاريةٌ
وحلكة منتصف الليل التي بلا حدود
تُرَوِّعني
لأن أحلامي المرصعة في رأسي اللحيمة
تتخاذل
والموت يغني...


*


لؤلؤةٌ صغيرةٌ
على شكل قلب
تسقط من فم
طفلٍ أزرق
باعتها أمه
لمتحف الزهور
والطفلُ الوحيدُ
بلا قلبٍ ولا لؤلؤةٍ
يموت.


*


العاصفةُ تَنْتَزِعُ حافةً مُفَضَّضةً
في السماء
وتنفجرُ في تشنجٍ دَبِقٍ هائلٍ
على الأرض.
الزَبَدُ المُتَمَوِّجُ
الهاربُ من البحر منحدراً
يُرَطِّبُ وجوهَنَا المهزومة
وأَجسَامَنَا التي تختفي
في ظلِّ رغباتِنا النائمة الفاتر
ترتسم.
قيلولتُنا التي يزعجها البَقُّ
تنتهي
وولوغُ الأمواج القصير
على الشاطئ حيث ترقص اللازوردية
يصمتُ، يا حبي
والمطرُ يهطلُ.


*


لأنني يجب أن أهيم
على قاع البحر العميق
مغدقةً اللآلئ على الرجال الموتى
جامعةً المحارات
ودافعةً ظلال الزوارق العابرة
بشعري المتساقط
عبر الرمال المنزلقة إلى فم الجحيم.


*


فأرٌ
ليس غير فأر
أقل من أي شيء
مجرد فأر
يدفع أمامه
عضواً
ليس غير عضو
أقَل من فأر
مجرد عضو نصف زنجيٍ
أقل من أبيض
زنجيٌ في القلب
أقل من إنسان
أكثر من فأر
ليس غير لا شيء
رُحماك يا إلهي
بالفأر.


*


كل مساء عندما أكون وحيدة
أُحَدِّثُكَ عن رِقَّتي
وأخنقُ زهرةً.
النار ببطء تموت
موبوءةً بالحزن
وفي المرآة حيث ينام ظِلي
تسكنُ فراشاتٌ
كل مساء عندما أكون وحيدة
أقرأُ المستقبل في أعين المحتضرين
أخلطُ نَفَسي بدم البوم
وقلبي يتسابقُ صعوداً
مع المجانين.


*


ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي


يتبع


تمزقات_6

1955


جويس منصور




منخاراك يرتعشان
وصرخاتك، صرخات أرانب
تؤدي إلى فورانِ لَبَنِي
شُرْفَتُكَ تكشف سُرَّتَكَ المُحَجَّرَةَ
لدى كل خطوة مضطربة
لدى كل ضحكة عديمة الأدب
وعندما تفتح فمكَ
نرى دون صعوبة
لمبات
روحك.


*


أنا في الليلِ الصعلوكُ المتسكعُ في دنيا الدماغ
روحي، ممدَدةً على القمر الاسمنتي،
تتنفس وقد أضنتها الريح.
أجسام الباليرينات النحيلة العارية ترقص على الثلج المحلى بالسكر
بينما أنت تدنس فراشك بأحلامك
وأنت تنتظرني.


*


زنجياتٌ مُنْهَكَاتٌ
بحارةٌ مشبعون
الغذاءُ القارُ والريحُ والبصماتُ
البحرُ يستريح ويلهو
متخذاً من السماء غطاء سرير.


*


جوادٌ ميتٌ.
ساقاه مُجَمَّدَتَان تشيران إلى سماءٍ مُوصدة
أحشاءٌ منتفخةٌ بالهواء الفاسد
ميتٌ لكنهما يبكيانه مُرَّ البكاء
جوادان جريحان
يلعقان جراحهما الفاغرة
واقفين على سيقانهما المترنحة
يذرفان الدموع المُرَّة والمتمهلة
دموع عدم الفهم.


*


هناك دمٌ على الجدار
حدود رَجُلٍ كان.
عكازاتٌ راقدةٌ لن تعرج بعدُ
أَسِرَّةٌ مُشَوَّشَةٌ فوق رجال مُمَزَّقين
والصمتُ الجالسُ فوق المستشفى المنهار
بعد القنبلة.


*


زنجيٌ راكعٌ
يداه اللتان تضربان
يداه اللتان تضربان
رأسه التي تتدحرج على عنقه المخنوق
يداه اللتان تضربان
يداه اللتان تضربان
الطبل المجنون
الطبل الرخو
لرأسي
النائمة.


*


على المنارة الخاوية تنتظرُ
مائلة على عُكازيها المكسورين
بين أسنانها عظمةٌ صغيرةٌ،
امرأةٌ عجوزٌ متعبةُ النهدين.
الغضبُ يصعدُ كثعبان ضَارٍ
في حلقها حيث ينبض
وريدٌ طائش
مُترعٌ بالدموع المخنوقة شرّ خنق.


*


كمنجاتٌ تسبحُ في السماء المعتمة
كان ذلك عيد الفصح.
كنا راقدين على الأرض الجريحة
وأعضاؤنا ركامٌ من الدم والمخ
الممتزجين في رقصة جهنمية.
وأنت أيها الشيطان ذو العينين النسناسيتين
تُفْرِغُ الله من جسدك الشبع.


*


قلِقَةٌ أنتِ يا أختي؟
خففي عن حقويك.
جزِعةٌ أنتِ يا زهرتي؟
اكشفي عن نهديكِ الشحيحين
علَّ عيناهما السحريتان
تحميان عينيكِ.
لكن لا تنادي أُمَّكِ الميتة
مخافةَ أن تعيشي في فراشها طويلاً
هلاكَها
وهلاكَكِ.


*


أنتم يا من تحملون حِملانكم على ظهوركم
أنتم يا من تتوسدون الجحيم رأساً
أنتم يا من تنتزعون الريش النادر للطيور الصهباء
كي تكتبوا كلماتكم السحرية في رمال عينيَّ
ارموا ضفادعكم المزدوجة في صمت المستنقع
واحذروا الصرخات المرعبة للنجوم ذات الأرواح المُعَذَّبَة
التي تُبْطِلُ ألعاب ما بعد الموت
للشياطين الذين يدعون الألوهية.


*


الأشرعةُ الخمريةُ لسفينتي الرشيقة
تَنتفخ لأنَّ الريح قوية.
السواحلُ تبتعدُ وهي تزفر
مغطيةً رأسها الجليلة بقبعتها المستديرة
لأن الكارثة على السفينة فالشيطان رُباننا
ولهب الجحيم منارتنا.
أيها الرجال، لا تقتربوا من البَحَّارةِ الشاحبين
الذين يخترقون الأشرعة بصوتهم الأجش.
أيها الرجال، لا تقتربوا من سفينتي السوداء
لأن الكارثة على السفينة فالشيطان رُباننا
والقمر مرسانا


*


ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي


يتبع


تمزقات_5

1955

جويس منصور



أَطلبُ خبزاً
خبزاً قوامه الشفقة.
أَطلُبُ خمراً.
لم أَعُدْ أشتهي ألمي
خلِّصني من لحظةٍ بلا حركة
تنيخ على عنقي
تتلكأ بين فخذيَّ
وتذوب.
امنحني لذة الشهد والبرونز
وسأختلق معبوداً
وربما أصلي
غداً.

*

سرقتُ العصفور الأصفر
الذي يحيا في عضو الشيطان
سوف يعلمني كيف أغوي
الرجال والأيائل والملائكة ذات الأجنحة المزدوجة،
سوف ينتزع عطشي، ثيابي، أوهامي،
وينام،
بينما أنا، ونعاسي قصير على الأسطح
أتمتم، أوميء، أمارس الحب بعنف
مع القطط.

*

وزنوا الرجل الأشيب كالجير
وزنوا قدمي دون أصابعها
وزنوا الثمار الناضجة لأحشائِكَ
على ميزان الكنائس غير الدقيق
ووجدوا أن ثقل روحي
يساوي ثقل طائرِ بطريقٍ
دون أجنحته.

*

بأيدٍ ممدودةٍ في الهواء ننتظرُ
بأيدٍ ممدودةٍ في الهواء ننتظرُ
رحمتك.
ماء خطايانا الفائر
يتمتمُ حول معابدك المرتجة
ويُغْرِقُ صلواتنا التي تسقط في أفواهنا
متسلسلةً.
بأيدٍ مفتوحةٍ نسألُ
بأيدٍ مفتوحةٍ نلعقُ
اسمك.
والليل الذي بلا حراك يكف عن التنفس
لكي يسمع صدى رد
لم يتم صوغه بعد.

*

المطر الذي يهطل مرة في العام
يغسل بدموعه المواسية
قلوب الموتى الذين يحرسون تحت الرمال المتأججة
الضباع والنجوم والأحياء الذين بلا مأوى،
يدفئون رفاتهم بأكفانهم المختَزَلَة
ويناضلون بشراسة ضد الديدان وآبائهم.
المطر الذي يهطل صدفةً مرةً في العام
على الصحراء الكئيبة
يُفتِّحُ الأزهارَ على وجهها السوداوي،
الأزهار عديمة اللون التي تموت بسرعة
لأن الشمسَ معجبةٌ بالصحراء صديقتها
وتريدها جرداء نهمةً وعارية
كل ليلة.

*

رَمَيْتَ عينيَّ إلى البحر
انتَزَعْتَ أحلامي من يديَّ
مَزَّقْتَ سُرَّتي المائلة للزرقة
وفي طحالب شعري المتموج الخضراء
أغرقت الجنين.

*

الفحمُ يخرجُ من أفواهٍ حديديةٍ
النساءُ يغنين ورؤوسهن في الهواء
ينظرن بعيداً إلى سماءِ الجحيم الزرقاء
بين المداخن السوداء لمدينةٍ بلا صلاة.
يضغطن بين أفخاذهن على إبرالحياة البطيئة
بينما رجالهن، وأفواههم ملتصقة ببلاط التعاسة المنتصب
ينفجرون.

*

وجهي يتألَّقُ في المرآة الفاترة
دموعي تَتَفَتَّحُ وتَتَأَرَّجُ
الصمتُ الذي يتضرع في غرفتي المشمولة بالحنان
يموت وعُضوك يندلع.
فَرِحٌ خوفي المخبوء في يدي
بَعيدٌ سلامي الفوار الصباحي
ضحكتكَ تُزهر في ظل فراشي
والماءُ يصعد في آبار الليل المُرَصَّعةِ بالنجوم.

*

لم أَعُدْ أُريدُ وجهكَ، وجهَ الحكيم
الذي يبتسم لي عبر غلالات الطفولة الفارغة.
لم أَعُدْ أُريدُ أيدي الموت القاسية
التي تجرني من قدمي إلى ضبابات الفضاء
لم أَعُدْ أُريدُ العيون الرخوة التي تضمني
والأواني التي تبصق مَنيَّ الأشباح البارد
في أذني.
لم أَعُدْ أُريدُ سماع أصواتِ الأكاذيبِ الهامسة
لم أَعُدْ أُريدُ التجديف في كل ليالي البدر.
خذني رهينةً، شمعةً، شراباً،
لم أَعُدْ أُريدُ تزييفَ حقيقتكَ
ليكن لك ما شئت
يا إلهي.

*

صبيٌ صغيرٌ في قطار
الرعبُ يمسكُ بخناقهِ، بيدهِ،
أُمهُ الميتةُ تستند على كتفه
تارةً يميناً، تارةً يساراً
تبثهُ الكلمات الحلوة للميِّتَةِ المخنوقة
تدفعه إلى الدرب الذي يمر راكضاً
وترشف نَفَسَهَا الأخير.

*

الصاعقةُ التي تندس في الهواء السائل.
الرجلُ، المشرئبُ العنق، المفتتُ القلب، المتصالبُ الذراعين،
يموتُ واقفاً في الضباب.
الصاعقةُ تُصَفِّرُ في أغصان المصلوب
المفضضة.
والكلبُ ينبح، ينبح، يزفر حبَّه
في الضباب الخانق لأول النهار.

*

السمكةُ الحمراءُ ذات الحواجب الخضراء
التي تسكنُ في رَحِميَ الضَيِّقِ
العصفورُ المنتوفُ الريش ذو العينين الداميتين
الذي يتخبط بين نهديَّ اليابسين
وأنت الباهت المدفون تحت الأرض
مباحاً لشهوات الوحل والديدان
كلكم شهود تافهون على جريمتي ضد الله.

*

البشر عطشى
أيديهم المفتوحةُ تطلبُ الدم
وحلكة غضبك تشملهم، يا إلهي
فَتَغْرَقُ قلوبهم.
البشر جوعى
لكن أفواههم المسدودة لا تملك سوى الصراخ
وأحشاءهم الخاوية التي جمدتها الريح
لا تقوى على امتصاص شيء غير المال.

*

الماعزُ تركضُ في المروج المملحة
يتبعها الشيطان المكسو بالساتان.
بينما كنتُ أستنشقُ الهواء على سطحيَ المزرق
رأيتُ القطيعَ الفَرِحَ يَسْحَقُ الراعي
ناديتُ الشيطان بقرنيهِ الممتلئين؛
قفزتُ من أعلى عصاي المشبعة بالهواء
وشاركتُ بدوري في مطاردة الرعاة
في الحقول والمروج حيث الفقراء رعاةٌ مُجَنَّحون
يحرسون الماعز لاغتفار خطايا آبائهم جد الثملين بحيث لا يمكنهم أن يدفعوا الثمن
هم أنفسُهم.

*


ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي

يتبع

تمزقات_4


1955

جويس منصور



قدمٌ بلا حذاء
أسيفةٌ وبلا عمل
قدمٌ خشنةٌ لزنجيةٍ غير متوقعة
حلكةُ الليل الأخيرة
الزنجية تغني في الشوارع الغافلة
أغنيةَ مسامير الرجل والتكلكلات الحمراء
أغنيةَ الأقدامِ الأسيفةِ والتي بلا عمل.


*


جالساً على رصيفٍ رملي
يداهُ مجمَّدتان بالبول الراكد في الشمس
الرجلُ الذي يرتدي أسمالاً يمص مكشراً
عينَ زنجي بلهاء.
القمرُ يثبُ من السماء عاوياً
الكهنةُ ينشرون الله على الأرض
لكن الرجل الذي يرتدي أسمالاً يواصل مص
عينِ الزنجي
البلهاء.


*


ارْقُصْ معي أيها الفيولونسيل الصغير
على العشب البنفسجي السحري
لليالي البدر.
ارْقُصي معي أيتها النوتةُ الموسيقيةُ الصغيرةُ
بين البيضِ المسلوق، والكمنجاتِ، والحقنِ الشرجيةِ.
ارقصي معي، أيتها الساحرةُ الصغيرةُ
لأن الأحجار تدور مُحَوِّمةً
حول طاساتِ الحساء
حيث تَغْرقُ موسيقى الفوانيس.


*


بقدمين مُقَيَّدَتَين
وبقلبٍ مُشَوَّشٍ
أنتظرُ الله الجنين
حتى أموت مشدودةً إلى السماء
كنجمةٍ
سعيدة.


*


زرعتُ يدَ طفل
مُصفَرَّةً من المرض، غاصةً بالديدان
في بستاني ذي الأشجار المُزهرة.
أحكمتُ غرسها في التربة المُخِمَّةِ
أحسنتُ ريَّها وتطهيرها وتسميتها
عارفةً أن عذراءَ ستنمو في هذا المكان
عذراء مشرقة بالنور وبالحياة
عقيدة جديدة في أماكن قديمة.


*


سَدَدْتُ أنفَ ميتٍ
فانتفضتْ روحهُ، انتفضتْ
أرادت التخلص من جسد ماضيها
التمستْ رحمتي لأن موعدها مرَّ
وتَعِبَ اللهُ من انتظارها.


*


عينُ حارسة داري الكابية
تتدلى من ثريا برونزية
تتدلى حالمةً معلقة بالأهداب
عينُ حارسة داري المُكَرَّمَةُ بالخمر
تتأرجح برقة، برقة
طوال الليل على بعد إصبعين من أنفي
مُثَبِّتَةً إياي، مغشياً عليها دون أن يطرف لها رمشٌ أبداً
العينُ الرطبةُ ذاتُ الابتسامات المُشجِّعة
التي تخصب رحمي القاحل
ببولها.


*


عندي ما يكفي من الفئران
الآكلة النهمة للأجنة وللمولاس
عندي ما يكفي من الصحون.
عندي ما يكفي من الأسماك ذات الشوكات الخبيثة
التي ترقص في حلقومي.
عندي ما يكفي من التعساء
عندي ما يكفي من اللعنات
التي أصبها على رأسهم
غير مستثنية حتى الصُلع.
عندي ما يكفي من الجرائم
عندي ما يكفي من قبري
عندي ما يكفي من كل شيء
واشمئزازي ميت من الضجر.


*


التلفون يرنُّ
وعُضوكَ يرد
صوتُهُ الأجش، صوتُ المغني
يرعش ضجري
وترتجفُ البيضةُ المسلوقةُ التي هي
قلبي.


*


رؤيا تتسكع في العيادة الزرقاء
رؤيا هاربةٌ لدماغٍ مخدَّر
رؤيا صغيرة ذات ذيول ملتوية
تبحث بلا طائل عن فأرة كريمة
لتأخذ مكان الجسد النائم
للرجل المثقوب الجمجمة الذي فقد أفكاره
عبر الثقب الأسود والمستدير لدماغه الهائج.


*


التشنجات التي ترج جسدَك البدين
تطالني بالرغم مني في عالمي، عالم طريحة الفراش.
وأنتَ هنا مكتوبٌ عليك أن تكابِدَ، ظمآن،
عيناك تعذباني بين ثيابي، ثياب العاجز،
وشهواتك ترتجف من الانفعال.
عربتي التي يسحبها الجواد تلقيك مهملاً في ركنها
مذكرةً إياكَ بساقيَّ المُصْفَرَّتَيْنِ، اللتين بلا عظام.
تناديكَ ثيابي من الدولاب الموارَب،
عطورها المسكرة لا تحكي عذابي.
كل ليلة أحبس نَفْسي في نعاسي المريض،
حتى لا أسمع شخيرك الفاحش،
بينما أنتَ تُهدئ نَفْسَك، تُشبِعُ نَفْسَكَ، تستمتع
باغتصابِ الكلب.


*


فَتَحَ فمهُ الذي بلا شفتين
لكي يُحرِّكَ لساناً ضامراً.
حَجَبَ عُضوَه المُعطَّرَ
بيدٍ زرقاء من الموت ومن الخجل
ثم بخطوة ثابتة ومجلجلة
اجتاز رأسي في نحيب.


*


أحيِّيكم يا خِراف الصحراء الهزيلة
في صُوفكم تختبئُ أزهارُ الطفولةِ الناضجة.
أُحيِّيكَ، أيها الحمارُ الأبيضُ ذو القدمين المقيَّدَتَيْن
في قلبك يترددُ صدى الحب.
أرسمُ الجحيمَ على تربة رأسي حيث تسقط عيناي الميتتان
وأحيِّيك، يا إله روحي
لأن الصحراء تشحب
والقمر يأفل
حاملاً على ظهره
الفجرَ.


*


بيضةٌ على السطح
حَكَتْ لنهديِّ الليل الطريين النتنين
غرامياتها.
عينُ بقرة في جُحرٍ
قَضَتْ الشتاء متنكرةٍ
وسط الدببة.
وأنا أغزلُ دون صوفٍ ودون إبرٍ
ملابس اللاواقع الداخلية
انتظاراً للمسيا المخلص.


*


المدُ يصعد تحت بدر العميان.
وحده مع المحارات والماء الأخضر – الأزرق لأول النهار
وحيداً على الشاطئ يِغْرَقُ فراشي ببطء.
المدُ يصعد في السماء المترنحة من الحب
بلا نواجذ في الأحْرَاج، أترقبُ موتي، صامتةً
والمد يصعد في حلقي حيث تموت فراشة.


*


ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي


يتبع


تمزقات_3

1955


جويس منصور



ال 8 يرتسمون
حول نهديَّ
البَيْضُ المُنَدَّى بالدم
الذي هو سري
يُزهر ويبكي
يُزهر ويموت
بينما الظلال تَصْفَرُّ تحت الأشجار
والأعوامُ تغرقُ في الليل.


*


بين يديه الحمقاوين
مات القط
بين أسنانه اللبنية
تهشم الكناري.
بين ساقيه المقوستين
اختنق أخوه
صبيٌّ منحط.


*


صنعتِ من آثامكِ
بيضةً، أيتها البنتُ الصغيرة.
تنامين هادئةً في ضجرِ
القبرِ
والبيضةُ تشرعُ بالتفتحِ على خاصرتك.
مذعورةً، عاجزةً، تنادين، تبكين
دون طائل.
عندئذٍ أَرْسَلتُ – أنا زوجُكِ الكريمُ دائماً –
يديَ التي في قفاز لانتزاع البيضة المزعجة
وبينما كنتُ أوقظُ نفسي بعد ليلةٍ هادئة
أكلتُ بيضتكِ المقلية يا عزيزتي
في الفراش.


*


دماغي أصيب بالضمور
منذ الخريف
بسبب السرطان البحري
الذي يصرخ تحت فراشي
كلَّ صباحٍ عند الفجر.
عيني مغمضةٌ
منذ الخريف
بسبب رحمي الذي من خشبٍ وردي
والذي يتجمد.
فراشي صليبٌ
منذ الخريف
بسبب جسدكَ
الذي يَطْلُبُ
والذي يضحكُ
حتى بينما أنام.
آه للأمطار الأولى.


*


صمتاً لأنَّ ظلَّ الموت يشحُبُ
قلبي العاري راقدٌ على الفراش
مُخْتَرَقَاً بلسانٍ
لم يعرف كيف يحتوي
نسغهُ.
اسكبوا صلواتكم الحلوة
على جبهته،
جبهة الطفل الذي بلا طفل
وأنصتوا لصمت الليل
الذي يهبطُ على جناحيه السخاميين
مفتوح الساقين


*


جاء الشتاء
عضوه الذي هو أيضاً أسدُ بحر
يقضي الشتاء معنا، نحن المتوحدات
بين مِسْبَحَاتِ المواخيرِ البراقة.
اللوحاتُ تنحلُ وتَسْقُطُ على الأرضية الخشبية
البجعاتُ تغادرُ أسرَّتنا إلى مناخاتٍ أكثر رقة
تاركةً لنا بيضها، كضمانةٍ أبدية
لعوداتها الظافرة بمجرد رحيل الشتاء.


*


ابكِ أيها الرجلُ الصغير
مركبكَ معروضةٌ للبيع
امرأتك مبيعة
واللبنُ الطازجُ لبقرتكَ
الحمراء التي لها دمُ الزنوج
يجعل أطفالك يبولون
حقداً.


*


بحثتُ عن اسمكِ في أفواه المحتضرين
قَبَّلْتُكِ بالرغم من طقم أسناني
داعبتُ نهديكِ الموسومينِ بالألم
أيتها الغزالةُ الجزعةُ التي لها عينان من لهب
أيتها المرأةُ المُعَذَّبَةُ التي لها قدمان من حجرٍ كريم
عضوي يتبعُكِ على ظلِّ موجةٍ
دون أن يهتم بالأعوام التي تهجعُ
دون أن يَكُفَّ البتة
عن الصراخ.


*


المنونُ زهرةُ ربيعٍ تنام
عند قدمي سيدةٍ عذراء وقت الهياج
والعفوناتُ الناعمةُ الألف
الداكنةُ كإبط، الداميةُ كقلب
تنامُ هي أيضاً في أجساد النساء العاريات
الراقدات في الحقول، أو الباحثات في الشوارع
عن ثمرة الحب المُرة المُذَهَّبةِ.


*


القدمان الجامدتان غير المدركتين
للصياد العجوز المتكئ على زورقِهِ
تسحقان بيبوستهما المُصْفَرَّةِ
الأسماكَ النائمةَ على الطحالبِ المُهَدْهِدَةِ
العجوز يدخن يد طفل
عيناه الزرقاوان المحتقنتان بالدم وبالأحلام
تبحثان في البعيد عن الوجه المضيء
للطفل الذي لا يعرف السباحة.


*


أقدامٌ عاريةٌ تماماً
وجةٌ ملطخٌ بالدم
دمكَ سيءُ التجلط
الذي لزنجي.
من شعركَ يتدلى
القط الصغيرُ المعلَّقُ
واقفاً على بركاني
أنت حقيقتي.


*


سأتبعُ دائماً نعشكِ
يا روحي، يا روحي
سيكون دائماً أمام عيني
يا روحي، يا روحي
لن أكفَّ عن السير في حركةٍ إيقاعية
خلف جسدك فاقد الحياة
يا روحي، يا حبي.


*


امرأةٌ مستسلمةٌ في الصقيع الكئيب
لسنِّ يأسها
تفكرُ وهي تَحْبك في الحِمْلانِ المصلوبةِ
في ملَذَّاتِ المطبخِ
وفي السنواتِ الوسِخَةِ الطويلة
للمجاعة الكبرى
القادمة.


*


أريد أن أرحلَ بلا حقائبَ إلى السماء
يخنقني اشمئزازي فلساني طاهر.
أريد أن أرحل بعيداً عن النساء ذوات الأيادي السمينة
اللاتي يداعبن ثدييّ العاريين
واللاتي يقذفن بولهن
في حسائي.
أريد أن أرحل بلا صخبٍ في الليل
أريد أن أقضي الشتاء في ضباب النسيان
معتمرةً فأراً
ملطومةً بالريح
ساعيةً إلى تصديق أكاذيب عاشقي.


*


فراشكَ جبن
عليه تتمخضُ امرأتكَ.
خبزٌ ومخاطياتٌ
رحمٌ وصرخاتٌ
عيونٌ تبكي.
ملصقةً على الجدار، مُسمَّرةً على الفراش
وأنت بالأرض، مكتسياً الأسود – مُجمَّدَ الدم
أيها اليهوديُّ الميتُ قتيلاً.


*


الرضيع ينام في مهده الأسود
أسنانه القذرة تبين بين شفتيه المشدوفتين
وأنت تهدهدينه.
الغرفةُ هادئةٌ بالرغم من الكلب الذي يموت
النوافذُ محكمة الإغلاق لإحكام حبس الليل
وأنت تنتظرين.
الرضيع يستيقظ من أحلامه المعذَّبة
الموت ينتظره، مرضعة رقيقة
وأنت تبتهجين، أيتها الأم الصغيرة.


*


في غرفتك المفروشة بالأمعاء المزهرة
انتظرُ زيارة الرخويات المحزونة.
تحبكين كالعادة في صمت
الحبيكة التي لا تنتهي لأيد غير راضية.
أما أنا، فأقرأ على وجهك المعبر
أخبارَ مدينةٍ مُبادة.
ونترقبُ في صبرٍ دون تعجل
الوصول المهيب للرخويات ولأصدقائها
الديدان.


*


لا تستخدموا كطُعم
روح الخنزير الشاحبة
لكي تجتذبوا الرجال الشائخين
الذين لهم طعم السمكة.
خاصة خلال الأسبوع.
لا تنتزعوا البصقات
من أفواه الأطفال
الذين يبيعون مؤخراتهم
للحمير.
لا تجمعوا الأثداء الطرية
لقردة بلا حياء
فقد يأخذونكم
دون عذر ولا اشتياق
على أنكم امرأة.


*


عينُ الطاهيةِ الحلوةُ
تستوي في حساءٍ خَثِر.
ساقا الطاهية الملتويتان
المعلقتان كتعويذة
تدقان على الجدار المغطى ببنات وردان
على إيقاع صرخاتنا المتحفزة
وأنتَ تفصلُ الشيطان عن عينيه
عينيِّ الكلب الوفي.


*


اصعدوا معي السلالم الهابطة
عاهراتٌ مفتوحات الأفخاذ تضحكن على كل درجة
عارضات أسماكهن مُبَدِّلات الأوضاع
ملاحقاتٍ لنا بضحكاتهن
بالرغم من حيائنا.
تعالوا معي إلى بيت الميتة
الراقدة على فراشها، شبه متعفنة
تسمع الأطفال المنهمكين في ألعابهم البريئة وتراقب العجائز الذين يحسبون غائطهم.
الشموع تُسَوِّدُ الغرفةَ المهمهمة
حاجبةً الميتَةَ عن أعين العابرين
الميتَةَ التي تراقب الأثاث والأحياء
منذ عشرة أو خمسة عشر يوماً
وربما منذ زمنٍ سحيق.


*


ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي


يتبع

تمزقات_2

1955
جويس منصور

كيف يمكن تهدئةُ ظلِّ الموتِ الذي بلا حراك؟
صامتاً يحرسُ قلبي، ذلك الميتَ الذي لم يُغسل جيداً
صامتاً يَغْسِل عينيه الملتهبتين
ويبكي.
كيف يمكن معاقبةُ الفقراء الذين بلا مأوى
الذين يقرعون بابي ويهددون هنائي
بدموعهم؟
كيف يمكن لي أن أثأر من المجنون الشائخ الذي يضربني
على قبرأمي دون مراعاةٍ لرُفاتها
دون أن يخلع قبعتهُ
دون أن يكفَّ عن شُرْبِ
دموعي؟

*

رأيتُ عُرْفَ فَرَسِكَ الأزرقَ، يا صديقي
على رأس خنزيرٍ لا تعرف الألم.
رأيتُ ردفَ فرسك المستدير، يا صديقي
وقد حَسِبَتْهُ بطةٌ عُشًّا.
أكلتُ عينيَّ فرسك الأثيرة
خلال مخاضي
وطفلي ميتٌ إذ يجيءُ إلى العالم
بحيث إنه كان يُحمحِمُ.

*

فتاةٌ صغيرةٌ تبكي في فراشها
فتاةٌ صغيرةٌ تخفي أمنياتها
أمنيات بشعة تجتذب الجوبلينات
تلك الجنيات الأثيثة، الصاخبة، الشرسة،
التي تُعَلِّمُ ألعابَها السرية
للصبايا المتوحدات اللاتي لا يُحببنَ العرائس
واللاتي لا آباء لهنَّ في قلوبهنَّ الطرية
لكي يغذوا حياتهن، حياة الأطفال المراهقين
بالأحلام، بالدين، وفيما بعد
بالمال.

*

حقول الأُرز
الباردة من نداوة الشفقِ المديدة
ترتجفُ - فيهبطُ الليل.
الأشجارُ المُذَهَّبةُ التي تسكن هيجاني
ترتجفُ أيضاً عندما ينتصبُ عُضوك.
الصحراء العطشى، مهتزةً تماماً
تُسلمُ نَفسها للرياح
والموتى يأرقون.
مهتزةً أسلمُ نَفْسي لشفتيك
ممسكةً روحي بيدي
بحثاً عن راعٍ.

*

وحدي أتسكعُ في كهوفِ اليأسِ الكئيبة
وحدي أذوقُ اللحومَ النجسة
وحدي أموتُ، وحدي أبقى،
دون آذانٍ لسماع ولولات الهولوكوستات
فمي الفارغُ من الكلماتِ، يتأوَّه.
أنا الأرضُ حين غادرها الماءُ
أنا الحبُ حين أنجز اللهُ الخَلقَ
أنا نفسي
أنا العدو
وحدي...

*

ثلاثُ نساءٍ ضخام ورجلٌ عجوز
بيتهم فخٌ.
النوافذ مغلقةٌ لكي يُحكموا حِفْظَ لحومهم
يأكلون أجنَّةً على هيئة مقانق.
عرايا بشكلٍ حلوٍ تحت إهابهم الرخو
يخوضون في حماماتٍ من اللبنِ
كامنين بغرغرات للمرضِ الذي يَقرِضُ.
الشيخوخةُ، يا لها من فتنة!

*

افتحْ أبوابَ الليل
ستجد قلبي معلقاً
في الدولابِ الفَوَّاحِ بَرائحةِ الحُب
معلقاً وسط ثياب الفجر الوردية
وقد التهمه العَثُّ والوسخُ والسنون
معلقاً بلا ثياب، سلخه الأملُ
قلبي ذو الأحلام الغرامية الجامحة
لا يزال يحيا.

*

المفرشُ الأحمرُ
المُلطَّخُ بالدم
يتهدَّلُ على كتفيّ التمثالِ البرونزي.
فئرانُ الرغبةِ
تأكلُ القضيبَ الطري
المخبوء في يدِ
نحاتٍ
مجنون.

*

أضاءوا العين الصفراء
بأنوار العيد.
ثيابهم القصيرة، ثياب المهرجين اليائسين
تزدادُ طولاً
نسمع الخطوات المسرعة المغرورة
للديكة وللرجال الذين يسكنون الضاحية
الذين لا يريدون تفويت القطار الأخير
لكي يكونوا متأكدين من الوصول إلى قدم سريري
قبل القمر.

*

أريد أن أحبس نَفْسي بعيداً عن ضحكاتكم
بعيداً عن القطط المقطوعة الرؤوس.
لم أَعُدْ أُريدُ سماعَ الزفرات المتحشرجةِ
ولا خطوات الأرواح الضامرة.
لم أَعُدْ أريد أن أكون وحيدةً في غرفةٍ مأهولة
لم أَعُدْ أريد أن أرى أعضاء إخوتي الممزَّقة
أريدُ أن يتحدث الناسُ إليَّ دون أصداءٍ، دون أغلال
أعيدوا إليَّ دماغي، أعيدوا إليَّ الأرق
أعيدوا إليَّ الفضاء!

*

النجارُ العجوزُ يعملُ نهاراً وليلاً
دون أن يرفع عينيه الشاحبتين، عينيَّ الأرنب
دون أن يريح جسده الشائخ، جسد الضفدع
دون أن ينتبه إلى أن يديه هما ما ينشره
أنه يُنَجِّرُ في لحمه
دواليبي ذات الأمتار الخمسة المصنوعة من البلوط المطلي بالاسبيداج.

*

أيها الزنجي العاري، خرجتَ من السجن
وأنت تُصفِّرُ.
أيها الزنجي العاري، تركتَ لي مئزركَ
وأنت ترحل.
انسَ كل ذلك
نحن الآن شائخون
ومئزرك الأبيض
لن يذهب إليكَ بعد.

*

الأسوار تعلو
رحماك يا رب آبائنا، يا إلهنا نحن الذين حَلَّتْ بنا اللعنات
أسوار اليأس القاتمة تحاصر رؤوسنا، سماواتنا، بيوتنا
ادرأ عنا حِنْقَ الحاسدين
اعفُ عَنَّا، أنت يا من تشهدُ محنتنا
انس ظنوننا، ما قَدَّمَتْ أيدينا، خطايانا
امنحنا الرجاء حتى وإن لم يعد هناك رجاء
أسوارُ الاحتقار تحيطُ بنا بالرغم من صرخاتنا
أعِنَّا، أَعِنَّا، أنت يا من لم يعد ذلك بوسعك
أنت يا أيها الأصم، المشلول، المُتعَبُ
الشائخُ جداً بحيث لا يمكنك إنقاذنا حتى لو شئت ذلك
يا إله العاجزين، إله الأبرياء
الإله الذي ما عادت له مهنة
غير مهنة الموت.

*

متدحرجةً، متدحرجةً كبيضة في قفص
غازلة في عصبية صوفَ الزوجات الأبيض
مُهَمْهِمَةً بين شفتيها الزروقاوين
بتفوهاتٍ حلوةٍ وبكلماتٍ مجوسية
المرأةُ التي لها سأم البومة
تحضن تحت تنورتها الضبابية
الليلَ الذي لا ينتهي والإعصار.

*


ال 8 يرتسمون
حول نهديَّ
البَيْضُ المُنَدَّى بالدم
الذي هو سري
يُزهر ويبكي
يُزهر ويموت
بينما الظلال تَصْفَرُّ تحت الأشجار
والأعوامُ تغرقُ في الليل.


*


ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي

يتبع

تمزقات_1

1955

جويس منصور


ادعني لقضاء الليل في فمك
احكِ لي عن شباب الأنهار
اضغط لساني على حدقتك الزجاجية
اعطني فخذك كمرضعة
ثم ننام، يا أخ أخي
لأن قبلاتنا أسرع من الليل تموت.

*

ثمة دم على صَفَارِ البيضةِ
ثمة ماءٌ على جرح القمر
ثمة مَنيٌّ على مدقة الوردة
ثمة إله في الكنيسة
يرتل ويستولي عليه الضجر

*

شَرَحْتُ للقط المخطط
أسباب الفصول وعاداتِ البومة
خيانة الأصدقاء، عشق محدودبي الظهور،
ومخاض الأخطبوط ذي الأذرع المختلجة
الذي يدب في فراشي ولا يحب المداعابات.
أَنصَتَ القطُ المخططُ دون أن يطرف له رمش ودون أن يجيب
وعندما رحلتُ
ضحك ظهرُهُ المخطط

*

ما من كلماتٍ هناك
هناك زغبٌ فقط
في عالم جاف
حيث نهدايَ مَلِكان.
ما من إيماءاتٍ هناك
هناك جلدي فقط
والنما الذي يحتشد بين فخذيَّ اللذيذيتن
يرتدي أقنعة الصمت وهو ينشط.
تعال ليلاً ونشوتك
وجسدي عميق الأغوار هذا الأخطبوط الذي بلا هاجس
يبلعُ عضوك الهائجَ
وقت انبثاقه.

*

عُشُّ أحشاءٍ
على الشجرة اليابسة التي هي عضوك
شجرةُ سروٍ واقفةً في الأبدية
تراقب الموتى الذين يغذون جذورها
لصان مصلوبان على أضلاع حَمَلٍ
ساخران من الثالث الذي لإنجاز المهمة،
يأكل صَليبَهُ الذي من اللحم
المشوي.

*

رأيتُ شعراتِ رحميَ الصهباءَ المكهرَبَةَ
تصعدُ نحو عنقي المنتوف الريش كعنق عصفور
وضحكتُ.
رأيتُ البشرية تتقيأُ في حوض الكنيسة المرتج
ولم أفهم قلبي.
رأيتُ الجَمَلَ ذا القميص وهو يرحل دون دموع إلى مكة
مع الألف بائع وبائع للرمل ووحش الأفواج وحشِ الأفواج السوداء المثلوم
لكنني لم أقو على السير في ركابهم
فقد تغلب الكسل على حماستي
واستعاد الروتين رقصته المرتجة
رقصة أصبع القدم.

*

نحيا مُلصَقَينِ بالسقف
تخنقنا الأبخرة الزنخةُ التي تزفرها الحياةُ اليومية
نحيا مشدودين إلى أعمق أعماق الليل
يُجَمِّدُ جلودَنا بخارُ الانفعالات
ندور حول قطبِ الأرق الواضح
يجمعنا الألم، تفصلُنا النشوةُ
إذ نحيا موتنا في عنق المقبرة.

*

رجلٌ يستندُ على بقايا عُكازِهِ
حزيناً.
يتأملُ دون مرارة قدمه الصغيرةَ المصلوبةَ
التي تحتضر ببطء مُسَمَّرةً على صليبها
دون ثياب.
الرجلُ موزعٌ على طُرُق الأرق
حيث في كل عين لسانٌ وساقٌ على الكتف
وأغنيةُ حشراتِ الزيز
دليلْ.

*

عواءات أنثى جبلٍ تتمخضُ
أُنثى البحر أختها تكبح غرامياتها المجنونة
الحقولُ العاريةُ تكبحُ ركضَها الهائِج
وتُعيدُ ذَكَرَ الريحِ عاشقَها.
لأن العجلَ الذهبي سيظهرُ من جنباتٍ تتمخضُ
سيصلُ دون وسَخِ أحشاءٍ متوترة
مستعداً لأن يصبَحَ إلهاً لنا، نحن البشر الذين يعوزنا الحب،
فتهيأ يا موسى.

*

أنا الليل
ليلُ الفضاءِ الذي يجمده جنونُ القمرِ الباردُ.
أنا المال
المال الذي يجيء بالمال دون أن يدري لماذا.
أنا الإنسان
الإنسانُ الذي يضغطُ على زنادِ العاطفة
لكي يحيا حياةً أفضل

*

كل صباح
يشحذ عقابٌ مفرطُ الغليانِ منقاره
على جلدي البَثِر
الحاخامي.
كل الأجراس تدق قَرْعَةَ الحُزن.
عندما ينامُ العُقابُ
دون أن يقدم شيئاً يؤكل إلى الفقراء وإلى الكلاب
الذين يتسولون بلا توقف على أبواب النعيم
والذين يقدسونه.
كل البشر يسمعون قدمي اليمنى التي تعلن
قواعد لعبة الموت الخطرة
التي يلعبها الإنسان مع العُقاب
ضد الله.

*

الليلُ يحبسني
أنقذوني
عيناي المفتوحتان على يأس الآفاق البحرية الفارغ
تتفجران في رأسي
أنقذوني
الخفافيشُ العفنةُ الأجسام
التي تحيا في أدمغة الرهبان المعذَّبة
تلتصق بلساني القِشدي
لساني الأصفر، لسان المرأةِ الحذرة.
أنقذوني، أنتم يا من ترونَ
وسوف يُكتَبُ لكم طول العمر
بالرغم من خطاياكم غير المغتَفَرَة
بالرغم من تخثر لياليكم في أفواهكم
بالرغم من أطفالكم المدرَّبين على الألم
بالرغم من أسرَّتكم.

*

حليقَ الشعرِ
مُحَزَّزَ الثوب
سجينٌ بائسٌ
يتوجه بالدعاء.
دون أن يحني رأسه المتكبرة
دون أن يستر عضوه التواق
غير مصدقٍ البتة أن أحداً سيأخذه
مأخذ الجد.

*

جسدٌ صغيرٌ سيءُ التكوين
في كهفه الذي بلا أنوار.
رأسٌ صغيرةٌ ملساء تماماً
دون عينين ولا ابتسامة
تلك هي الطفولة.
عظامٌ صغيرةٌ دون إرادة
سرعان ما تتهشم في أصابع متعجلة
خنزير تجارب رخوٌ، حلوٌ ومحكومٌ عليه،
طفلٌ ليس طفلاً لأمٍّ بلا عشيق
محكومٌ عليه بأن يكون وحيداً، محكومٌ عليه بالعلم.

*

ضحكتي تحلِّق عالياً
أعلى من قلنسوات الكاردينالات
أعلى من الأمل.
يبتسم نهداي حين تتوهج الشمس
بالرغم من ثيابي، بالرغم من زوجي
أكونُ سعيدةً بشعةً كما أنا
لأن النسور تحبني
والله أيضاً.

*

كان ذلك البارحة.
بالَ الشاعرُ الأولُ حُبَّهُ
أَنشَدَ عُضوهُ الذي في مأتمٍ بجلبةٍ
أناشيدَ الجبال
الحُنجُرية
الإله الأولُ الواقفُ فوق هالتِهِ
أَعلن مجيئهُ على الأرض المغشيِّ عليها
كان ذلك غداً
لكن البشر الذين لهم رأس قط
كانوا يأكلون عيونهم الغائمة
دون أن يلحظوا الكنائس التي تحترق
دون أن ينقذوا روحهم التي تهرب
دون أن يُحَيُّوا آلهتهم التي تموت
كانت تلك هي الحرب.

*


ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي

يتبع

صرخات_4


1953


جويس منصور



ظلُّكَ الذي بلا فم
غرفتكَ التي لا باب لها
عيناك اللتان بلا نظرة
بلا حنان، بلا لون
خطواتك التي تتوجه
دون أن تترك أثراً
نحو الضوءِ ذي الأصواتِ المُؤَرِّقة
الذي هو جحيمي


*


أيها الكلب الهائج، الغارز أنفه في الأرض
المنتفخ الرأس بصرخات مطاردة الحب
الحب الضائع.
أوراق شجر الغابة تعرفه
تطارده بأيديها الخمرية
أيها الكلب الهائج، الحيوان الذي بلا سند
فلتتغذَّ على دم الفقراء
لكي تكون محبوباً يجب أن تكون قاسياً.
أيها الحيوان، إذا كنت تريد أن تكون مستأنساً
بع روحك للبشر.


*


في مخمل أحشائك الأحمر
في ظلمة صرخاتك غير السرية
توغلتُ.
والأرض تتوازن باكية منشدة.
بينما أنا أنتظر مفعول السم
دم شيطان هو الغضب المبصوق
تبصقه حيوانات مذبوحة.


*


نفَسُكَ المشهوق في فمي
يداك اليابستان ذواتا الأظافر المدببة
لا تحررُ أبداً حلقي الملتهب
الملتهب من العار، من الألم، من اللذة.
شفتاك البنفسجيتان تمتصان دمي
ستغويك دائماً شهواتي المُطفأة
بينما عيناي ستبقيان مغمضتين.


*


ترتجفُ من الخجل
لكنك تحب أن ترتجف
تتأوه من الرعب
لكن دموعك عذبة.
تتوارى عن مرآي
راجياً ألا أجدك.
أنت تريد دمارك.


*


أريد أن أبدو عارية أمام عينيك المبتهلتين.
أريد أن تراني أصرخ من اللذة.
أن تدفعك أعضائي التي تتلوى تحت ثقلٍ جد فادح
إلى فعالٍ كافرة.
أن يتشبث شعر رأسي المباحة الناعم
بأظافرك المقوسة من الهيجان.
أن تقف أعمى ومصدقاً
ناظراً من فوق إلى جسدي العاري من الريش.


*


جسدكِ الصغير الهزيل الملفوف في الساتان
غرفتكِ الوردية المتدثرة بالصمت
عيناكِ الجائلتان بين الأثاث الفاخر
مصطدمتين في الظلمة بالفئران الميتة على الوسائد
ونحن الذين نترقب نزعك الأخير
لكي نفُضَّ وصيتكِ.


*


امرأةٌ واقفةٌ في مشهدٍ عارٍ
النورُ الساطعُ على بطنها المنتفخ
امرأةٌ وحيدةٌ، امرأةٌ بلا رذيلة ولا صدر
امرأةٌ تصبُّ احتقارها في أحلامٍ دون ضجعة
سيكون السرير جحيمها.


*


أحبُّ رؤية وجوههم المذعورة.
إنهم لا يحتملون رؤية الموت.
يريدون فوراً حبسه بعيداً عن رعبهم.
وبينما لا يزالون متشحين بحدادهم
يمارسون الحب لكي يدفنوا على خير وجه
ذكراه المتحللة.


*


فتحتُ رأسك
لأطلع على نواياك.
التهمتُ عينيك
لأتذوق نظرتك.
شربت دمك
لأتعرف على رغباتك
ومن جسدك المرتجف
صنعتُ غذائي.


*


عيناي تلمعان في السماء الشاحبة
رأسك المخضرُّ يرتسمُ جانبياً على أرض الوادي.
تدعو إليك حيوانات الصحراء
فتجيء دون صخب لكي تطوف بالقبور
القبور التي بلا اسم، بلا زهور، بلا ظل
قبور الموتى، الذين بلا أكفان، غير البعيدة عن وجه الأرض.


*


عنقك ساريةٌ معلقٌ عليها
جسدك المتأرجح في الفراغ يتوسل إليَّ
يتوسل إليَّ أن أنفخ في فمك المفتوح
الكلماتِ الضعيفة
لرغبتي.


*


طفلك في ذراعيك.
رأسه يميل جانبياً على غيهب صدرك
عيناه اللتان بلا رؤية، يداه اللتان بلا فريسة.
جسدك يتوسل إليَّ
أن أقدِّم حياتي
رهينة.


*


بين أصابعك
فمي
بين أسنانك
عيناي
في أحشائي
إيقاعك الضاري
يقشر جسدي
المجبول من أحاسيس غضَّة.


*


حمى، عضوكَ سرطان بحري
حمى، القططُ تتغذى من أثدائك الخضراء
حمى، سرعةُ حركات حقويك
سرعةُ قبلاتك الفاحشة، تقطيباتك
تفتح أذنيَّ وتسمح بالولوج لهيجانك.


*


امرأة خَلَقَت في نفسها الشمس
وكانت يداها جميلتي المنظر.
انشقت الأرض تحت قدميها الخصبتين
وغطتها برائحتها النارنجية
وهكذا أنجبت الصفاء.

*


رحمٌ صغير، رقيقٌ وأصفر
رحمٌ صغيرٌ مشعر
ساقان صغيرتان ملتويتان مشعرتان
جين الصغيرة المحدودبة
امرأة صغيرة تنتظر اغتصابها
عارية تماماً، عارية تماماً..


*


راقدةً على فراشي
أرى وجهك منعكساً على الجدار
جسدك الذي بلا ظل الذي يخيف جسدي
رهزاتك المسعورة والإيقاعية
تقطيباتك التي يهرب منها كل أثاث الحجرة
إلاَّ فراشي المثبت بعرقي الخادع
وأنا التي تتحسب المرارة
دون غطاء ولا أمل


*


لي روحٌ قلقة.
تسكنُ قرب بحيرة هي عيناي الغائرتان.
تثور تحت شمس صلواتي الحامية
تنام وأحلامها ترتجف تحت جلدي
خالقةً المرارة في قلبي المغرد.


*


كم من الغراميات دفعت سريرك إلى الصراخ؟
كم من السنين غضَّنت عينيك؟
ما الذي أفرغ صدرك المنهك؟
نظرت إليك بعينيَّ السابرتين للأغوار
فتفجرت أوهامي
تاركةً خلفها
شيخوختك
العاجزة عن الرد على أسئلتي.


*



محارةٌ تنجر على شاطئٍ مهجور
بإصبع شارد يداعب البحر
تترك خلفها أثرها المثير للعاب
تجتذب رغماً عنها العدو.
يقترب ويشلها بيد متطفلة
يُخرج روحها من سريرها الرخو
ويمتص عذابها.


*


بلا شعور تنزلق نحو جنون الأحلام.
بلا شعور تنقفل عيناك عن الحياة
حدقتاك المتسعتان تغرقان في المحيط العاري.
يسقط فمك وهو يفرغ طفح
مخكَ الذي بلا سلاسل رسوٍّ
لسانك المشلول.
القاعةُ، القاعةُ كلها تتشنج منتظرة
هلوساتِكَ.


*


فليستفزك نهداي
فأنا أريد هياجك.
أريد أن أرى عينيك متثاقلتين
أن أرى خديك وهما يبيضان إذ يتغضنان.
أريد ارتعاشاتك.
فلتنفجر بين فخذيّ
ولتلبَّ رغباتي على الأرض الخصبة
لجسدك الماجن.


*


البيت الفارغ المظلم الذي تطوف به الأشباح
خطواتنا تسبقنا، تتبعنا.
الغرف المسكونة برؤى غير متحققة
بأشياء يستحيل كنهها
البيت الفارغ، الفارغ، الفاقد المعالم.
رأسك الحبيسة، عيناك
الزرقاوان المتلهفتان دون احتشام
تتسلط علينا، تنادينا
تحشو فمنا
خبزاً أبدياً وكريهاً.


*


رذائل الرجال
ميدان اختصاصي
جراحهم مغانمي اللذيذة
أحب أن ألوك نواياهم الخسيسة
لأن دناءتهم تصنع جمالي.


ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي


صرخات_3

1953

جويس منصور



جُزُرُ الأمراض
بمجذومين كالببغاوات
بحر الصمت المتصدع بساعة الشيخوخة الناطقة
صرخات كابةٍ صغيرةٍ ممزقة
المصحة تسهر على موتاها – الأحياء الذين لم يولدوا.


*


أحبُّ اللعب بالأشياء الصغيرة
الأشياء التي لم تولد وردية تحت عينيّ الطائشتين.
أربت عليها، أوخزها، أقتلها، ثم أضحك
الأشياء الميتةُ لا تبرح مكانها بعدُ
وأنا أندم على حمى طيشي
أشفق على أسلافي المنحطين
كان يتعين عليَّ محو دم أحلامي
بإلغاء الأمومة.


*


أخطبوط مُشرَّبٌ بالسكَّر ومذهَّبٌ
يتخبط على فخذي المحزّزة
والموسيقى، هذا الحمار الوحشي المخطط الملون،
تنساب سوياً من البوق الرخو،
الراقصون ذوو المفاصل المطاطية
يجْلون قضيبهم المجبول من المخمل المموج
على سقف الشريعة المكسو بالبلاتين.
في انتظار أن ينام أخطبوطي على اللعاب المقدس،
والساعدان والفخذان في بكارتهما،
مزرقاً من الكلمات ومن شراب الجن.


*


الأمازونية تأكل ثديها الأخير.
في الليلة السابقة للمعركة الأخيرة
جوادها العاري من الشعر يتنفس هواء البحر الندي
متحركاً، مهتاجاً، محمحماً رعبه
لأن الآلهة تهبط من جبال العلم
حاملةً معها البشر
والدبابات.


*


الفخذان المجنحتان للعجوز المحدودبة
معلقتان على برج الأجراس المفلوق برجين
القطط المجنحة التي بلا ذيل ولا صراخ.
في فراشي أحاول أن أفهم
الدم الذي ينز من رحمي المهتاج.


*


السفن تمر دون صخب
على الماء الموحل المتورد تحت الشمس
المتورد من دم أبقار ما عادت تشكو
المتورد من دم أطفال ربما غرقوا غرقاً شريراً
المتورد، ربما، من دمك الملطخ.
السفن تنساب دون صخب
على الماء الراكد، الراكد، ذي التيار البطيء
وجسدك ينساب أيضاً مسحوباً نحو البحر بعيداً.
مهشَّماً بالعصيّ وممصوصاً من الوحل
مسحوباً نحو النسيان.


*


سأصطاد روحكَ الخاوية
في النعش الذي يتعفن فيه جسدك،
سأقبض على روحك الخاوية.
سأنتزع أجنحتها الخفاقة
أحلامها المتخثرة
وسأبتلعها.


*


لقد سئمتُ.
فقد احتضنتُ كل شيء
رأسك، قلبك الفظ، دينك.
قبلتُ كل شيء
إلى أبعد حد بحيث إن جسدي المكدود
ما عاد بوسعه الرجوع، ما عاد بوسعه النهوض
من المزراب الذي هو سريرك
من الوسخ ومن الزفت
الذي يتسلي فيه المرء.


*


كنتَ جالساً مستريحاً
فوق دبٍّ أسود.
كنتَ تمزق شرائط من الجلد
بأصابعك المتلألئة في وجه السماء الدامية
وبينما كنت تخلق عالماً جديداً
انهمرت الثلوج.


*


يا قرداً يريد زوجةً بيضاء
يا قرداً يشتهي أثداءً رقيقة
يا قرداً يحبُّ أسرَّة النساء
يا قرداً قبيحاً بائساً أبلهاً
ما من امرأةٍ يمكنها الابتسام بين يديك
فلتحسن يا قرد إذاّ
اختيار أنثاك.


*


رجل نظر مبتسماً إلى المنون في وجهها
كانت منتشيةً على فراشها اللازوردي
كانت راقدةً، معدنيةً وجميلة.
انحنى رقيقاً ومشتهياً
أن يتذوق على شفتيها حياة أزهارٍ عمرها يوم
دم أطفال، دم حيوانات، دم أسماك.
مس شفتيها بفمه البارد الحس
ومات دون أن يفهم
عدم فهمه.


*


أرتجفُ تحت يديك الفرحتين
أشربُ الدم الذي يسقط من فمك المتصدع.
المفرشُ الأسودُ يستكينُ تحت أفخاذنا المتحدة.
وبينما تلوكُ أُذني المبتورة.
ألهج باسمك وبأحلامي المُبعدة.


*


الدربُ الخاوي المظلم المُرمِلُ
الأقبيةُ، القبورُ، الكلابُ الجساسة
الكلابُ التي تنبحُ من أجل جثثٍ جديدة
من أجل قبورٍ بادئة، من أجل نعوشٍ محلولة
الموتى، الموتى غير الطيبين الذين لا يريدون الاستسلام
لإشباع الأرض الجافة بلحومهم المتألمة.


*


رقبتك المقطوعة.
رأسك التي تنزف
مفصولةً عن جسدك
مكشرةً وعمياء.
رقبتك التي تنزف قطرات جنون
عيناك اللتان تسكبان دموع الرغبة
وأنا التي أرشف
حياتك التي ترحل.


*


زنجيةٌ ميتةٌ على الرمل الأبيض
بلا أفكار، بلا روائح، بلا ثياب
بين فخذيها تنساب الريح،
تضغط الشمس شفاهاً حارقة
على خاصرتها المرضوضة، على عينيها المفتوحتين.
الموجاتُ الخبيثةُ تتحيَّنُ لذتها
وتروحُ وتجيء.


*


خائفٌ هو ومضطرب
فالأرض تهربُ والحلمُ يبدأ.
ساعة حياته تتنفس بصعوبة.
حول سريره
تنفثُ أفكارهُ المحرفةُ في أذنيه
الرعب.


*


تلَّةٌ في مواجهةِ تلَّةٍ بلا حراك
أراهما.
الجواد الجريح يرفعُ رأسه لكي يحمحم
يفتحُ فمهُ الذي لا يخرجُ منهُ أيُّ صوت
ثم يموت.
الجوادُ الوحيدُ بين بيتين متهدمين
يحنى رأسهُ مكدوداً، رقيقاً وضائعاً،
ينام.


*


الذباباتُ على السرير
على السقف، في فمك، على عينيك.
أيها الرجلُ العاجزُ الخبيثُ الجاهل
الراقد عليها في كاملِ ثيابك
دع لي جلدي
لا تُفرغ أحشائي.

ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي


يتبع

صرخات_2


1953

جويس منصور



شعره الأصهب له رائحة المحيط.
الشمس الغاربة تنعكس على الرمل الميت.
يتمدد الليل على سريره المصنوع من الأبهة.
بينما المرأةُ اللاهثةُ المرتجفة
تتلقى بين فخذيها الخائرتين
القبلات الأخيرة لشمسٍ تموت.


*


أنت تحب الرقاد في فراشنا المهزوم.
قطرات عرقنا السابقة لا تثير اشمئزازك.
مفارش سريرنا التي وسختها أحلامٌ منسية.
صرخاتنا التي تجلجلُ في الغرفةِ الكئيبة.
كل هذا يثير جسدك الجائع.
أخيراً يضيءُ وجهُك الكريه
فرغباتُ أمسنا هي أحلام غدك.


*


دع عينيك تطفوان على الأمواج
دع الريح تملأ جسدك بصرخاتها
امنح بطنك المشعرة لمداعبات الشمس
استهلك صوتك، حيواتك، نساءك
لكن لا تنظر إلى عينيَّ النائمتين
خشية أن تتحد نظرتي بنواياك.


*


انتظرني
أكاد أشعر أن الزمن يفر
من غرفتي حيث تنام دموعي في فراشي.
أعرف جسدك الوعر
الذي يرقص دون توقف على جلجلات ضحكاتي.
أعرف جسدك الفاجر
الذي لا يحبُّ غير سخونة المحتضرين
في ذراعيه، على فمه، بين فخذيه ذواتي الشعر الكثيف.
انتظر علَّ لذتي تتهيأ للموت
انتظر علَّ جسدي يتمدد، يتصلب
قبل أن يسليك.


*


تجلس على سريرها والساقان مفتوحتان.
أمامها قدح
تبحث عن أكل لكنها لا ترى شيئاً
المرأة ذات الأجفان التي أكلها الذباب تتأوه.
عبر النوافذ يدخل الذباب
يخرج عبر الباب
يدخل في قدحها
عيونٌ حمراء
ذبابٌ أسود
تأكلهُ المرأةُ
التي لا ترى شيئاً


*


إنها تحبني بأنانية
تحب أن أرشف لعابها الليلي.
تحب أن أمرِّر شفاهي الملحيَّة
على فخذيها الفاجرتين، على ثدييها الساقطتين.
تحب أن أبكي ليل شبابي
بينما تستنفد عضلاتي التي تغتاظ
من أهوائها الفاحشة.


*


امرأةٌ جالسةٌ أمام طاولةٍ مكسورة
والموت في الأحشاء.
لا شيء في الدولاب
مكدودةٌ من كل شيء حتى من ذكرياتها
تترقب والنافذة مفتوحة
الضوء ذا الألف وجه
الذي هو الجنون.


*


الأقدام الآثمة
الأيدي المقيدة
الأحشاء التي تتدلى
ما من صوت للصراخ
وأنت الذي تنصب نفسك في جسدي المقتول
لكي تلازم أرقي وسهادي.


*


ليس ذنبي أن أظافرك تتزايد طولاً
ليس ذنبي أن شعرك يسترسل
ليس ذنبي أن أحداً لا يبكيك
ليس ذنبي أنك قد بردت يا عزيزي
فأنا لم أتمنَّ موتك.


*


الأخفاف الحمراء للكلبات في فصل الهياج
الشعر اليابس المستعار لنساء بلا جمال
الصرخات التي تهمس بها الحيوانات التي بلا نعاس
الحيوانات التي يحبها المرء، التي يضمها إلى صدره، التي يخنقها في سريره
الحيوانات التي لا أهل لها ومع ذلك تُدْفنُ بكل هذه الأبهة
أيُّ عالمٍ قاسٍ هذا
عالمُ المحبةِ المُشتراة.


*


بين صخرتين عاليتين مدببتين
تحيا امرأةٌ عجوز.
في الأرض المرصعة بالتُرُنجان
استقرت قدم.
حيوانات الليل والأحلام
تغذيها بالأغنيات الضائعة
تنتظر هناك أن تنطفئ السماء
حتى تُحَرِّر الأبدية.


*


تريد أحشائي غذاءً لك
تريد شعري لكي تشبع
تريد حقويّ، نهديّ، رأسي المحلوقة
تريد أن أموت ببطء، ببطء
أن أغمغم بكلمات طفلٍ وأنا أموت.


*


على الشاطئ المفضض ذي التأوهات المستَشَفَّة
قرب صنوبرات مصلوبة على السماء الغائبة،
أنتظركَ.
آثار قدميك تركض على الرمل المعطر
ملعوقة من البحر الغيور، ضائعة، مذعورة
مثلي.
تركتنا نائمين على الشاطئ
في الهاجرة
ونحن ننتظرك هذه الليلة طوال الليل دون صبر
عارفين في أعماق قلوبنا المسكونة بحضورك
أن الشاطئ سوف يظل فارغاً من الآن فصاعداً.


*


بلى، لي حقوق عليك.
لقد رأيتك تذبح الديك.
رأيتك تغسل شعرك في ماء المزاريب الوسخ.
رأيتك منتشياً برائحة السلخانات النفاذة
وفمك متخم باللحم
وعيناك مترعتان بالحلم
رأيتك تمشي تحت بصر رجال خائري القوى.

ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي

يتبع

صرخات_1

1953

جويس منصور


أُحب جواربك التي تثبِّت ساقيكِ.
أُحب مشد خصركِ وردفيكِ الذي يسند جسمكِ المرتج
تجاعيدكِ، نهديكِ المتهدلين، شكلكِ الجائع
شيخوختكِ في مواجهة جسدي الفارع
فساتينكِ التي تنشر رائحة جسدكِ النتن.
كل هذا يثأر لي أخيراً
من رجالٍ لم ينتظروا شيئاً مني.


*


الدمل المستقر في خدي السماوي
الأبواقُ المثيرةُ للحنق فوق أذنيّ
جراحي الداميةُ التي لا تبراُ أبداً
دمي الذي يصبحُ ماءً، الذي يتحللُ، الذي يتأرَّجُ
أطفالي الذين أخنقهم إذ أُلبي رغباتهم
كل ذلك يجعل مني ربك وإلهك.


*


دعني أُحبك.
إني أُحب مذاق دمك الخثر
أحتفظُ به لوقتٍ طويلٍ في فمي الذي بلا أسنان.
حرارته تحرق حلقي.
أُحبُّ عرقك.
أُحبُّ زغزغة إبطيك
المتصببتينِ بالفرح.
دعني أُحبك
دعني ألحسُ عينيكَ المغمضتين
دعني أفقأهما بلساني المدبب
وأملأُ تجويفيهما بلعابي المنتصر.
دعني أُعميك.


*


انسني.
حتى يتنفس صدري الهواءَ النديّ لغيابك
حتى تتمكن ساقاي من السيرِ دون البحثِ عن ظلك
حتى تصبح نظرتي رؤية
حتى تلتقط حياتي أنفاسها
انسني يا إلهي حتى أتذكر نفسي.


*


لا تأكلوا أطفال الآخرين
لأن لحمهم سيتعفن في أفواهكم المتخمة.
لا تأكلوا أزهار الصيف الحمراء
لأن نسغها دم أطفال مصلوبين.
لا تأكلوا خبز الفقراء الأسود
لأنه مخصَّبٌ بدموعهم الحامضة
وقد يتأصل في أجسامكم الممدة.
لا تأكلوا علّ أجسامكم تتهتكُ وتموت
خالقةً على الأرض الخريفَ


*


دسائس يديك العمياء
على نهديّ المرتعشين
الحركات البطيئة للسانك المشلول
في أذنيّ المحركين للمشاعر
كل جمالي الغارق في عينيك اللتين بلا حدقتين
الموت في أحشائك الذي يأكل مخي
كل هذا يجعل مني فتاة غريبة.


*


رجلٌ مريضٌ بألفِ فُواق
رجلٌ تهزهُ أفكارٌ مُملاة
يمليها عليه ظله الذي يتبعه بلا توقف
مستعداً لجرجرته عبر الفضاء
رجل بلا جذور صار نجماً.


*


أرفعك بين ذراعيّ
للمرة الأخيرة.
ثم أُنزلك على عجل في نعشك الرخيص.
أربعة رجالٍ يحملونه على أكتافهم بعد أن دقوا المسامير فيه
على وجهك المهزوم، على أعضائك المكروبة.
يهبطون السلالم الضيقة وهم يسبون
بينما أنت تتقلب في عالمك المحصور.
رأسك مفصولة عن عنقك المقطوع
تلك هي بداية الأبدية.


*


رأيتك عبر باصرتي المغمضة
تتسلق سور أحلامك المروع.
قدماك تزلان على الطحلب النائم.
عيناك تتشبثان بالمسامير التي تتدلى.
بينما كنت أصرخ دون أن أفتح فمي
حتى أفتح رأسك لليل.


*


تقبَّل صلواتي
تحمَّل نواياي الدنسة
طهرني حتى تتفتح عيناي
حتى تريا ابتسامة القتلة الباطنية.
وعندما أغدوا طاهرة
اصلبني يا يهوذا.


*


امرأة واقفة منهكة منتوفة
ساقاها السوداوان يبدوان في مأتم شبابهما
تسند ظهرها المحني على الحائط المعادي
ظهرها الذي أحنته أحلام الرجال
ولا ترى أن الفجر قد جاء أخيراً
فما أطول ما كان ليلها


*


نادني باسمي الأخير.
أشبك ملابسي بالكواكب، بالنجوم.
حتى تمشي ساقاي بلا نهاية على الأرض
وأنا أبذر يأسي في قلوب الحيوانات
حتى يكون لاستجاباتي الأخيرة رنين دقات الحزن
لدعوة البشر إلى الغفران.


*


الرجل الذي يدافع عن نفسه
أمام هيئة محلفين من القردة.
الرجل الذي يقدم الالتماسات، الرجل الذي يتوسل,
رأسه يختفي بين ساقيه المشعرتين.
والقردة تنتظر
والقردة تتهم ولا تدافعُ عن شيء
قبل أن تلتهم الرجل، هذه الموزة المتعفنة.


*


كنتُ جبانةً أمام موته.
كنتُ جبانةً أمام حياتنا.
رأسه ذات الوجنتين النديتين
انتزعتني رغماً عني من الوعود المجانية
من الوعود المنبوحة، من الصموتات، من الصرخات،
ظهري الذي يتصببُ عرقاً، فزعي، صرخاتي.
وعندئذ لكي أهرب من عينيه
حنيت رأسي، ركعت
وبجبيني المروَّع
خفّفتُ آلامه.


*


عصافير صغيرة ترفرف
تحت جلدك المتوتر، في عينيك الواسعتين
وقد خبلها الرعب الذي يهز السماء
غير مفكرة إلاّ في تحليقاتها الماضية
الفرائس الحية لصياد مجنون.


*


الفراغ فوق رأسي
دوار النشوة في فمي
وأنت فوق ظهري
القط فوق السطح
يلوك عيناً حلوة
عين حاج يبحث عن إلهه.


*


أمس مساءً رأيت جثتكِ
كنتِ رطبةً وعاريةً في ذراعيّ.
رأيتُ جمجمتكِ البراقة.
رأيت عظامكِ يدفعها برد الصباح.
فوق الرمل الأبيض، تحت شمس حائرة
كان سرطان البحر يتنازع لحمكِ.
فلم يبق شيءٌ من نهديك الممتلئين
ومع ذلك فهكذا تحديداً فضلتك
يا زهرتي.


*


أجنحة مجمدة
أصابع أقدام مكسورة
فرج مخترق
قلب أسد متحلل.


*


شيخٌ وعجوزهُ مختفيان تحت الأرض
يد متحللة في اليد المتحللة، في عز الحرارة في الوسخ
يتبادلان الكلام عبر شفاه اختفت، يتفاهمان دون كلمات
ينصتان إلى الأغنية البطيئة والخفيضة للأرض التي تتغذى
متسائلين في أعماق قلبيهما
ما إذا كانا لن يموتا أبداً.

ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي

يتبع