صرخات_1

1953

جويس منصور


أُحب جواربك التي تثبِّت ساقيكِ.
أُحب مشد خصركِ وردفيكِ الذي يسند جسمكِ المرتج
تجاعيدكِ، نهديكِ المتهدلين، شكلكِ الجائع
شيخوختكِ في مواجهة جسدي الفارع
فساتينكِ التي تنشر رائحة جسدكِ النتن.
كل هذا يثأر لي أخيراً
من رجالٍ لم ينتظروا شيئاً مني.


*


الدمل المستقر في خدي السماوي
الأبواقُ المثيرةُ للحنق فوق أذنيّ
جراحي الداميةُ التي لا تبراُ أبداً
دمي الذي يصبحُ ماءً، الذي يتحللُ، الذي يتأرَّجُ
أطفالي الذين أخنقهم إذ أُلبي رغباتهم
كل ذلك يجعل مني ربك وإلهك.


*


دعني أُحبك.
إني أُحب مذاق دمك الخثر
أحتفظُ به لوقتٍ طويلٍ في فمي الذي بلا أسنان.
حرارته تحرق حلقي.
أُحبُّ عرقك.
أُحبُّ زغزغة إبطيك
المتصببتينِ بالفرح.
دعني أُحبك
دعني ألحسُ عينيكَ المغمضتين
دعني أفقأهما بلساني المدبب
وأملأُ تجويفيهما بلعابي المنتصر.
دعني أُعميك.


*


انسني.
حتى يتنفس صدري الهواءَ النديّ لغيابك
حتى تتمكن ساقاي من السيرِ دون البحثِ عن ظلك
حتى تصبح نظرتي رؤية
حتى تلتقط حياتي أنفاسها
انسني يا إلهي حتى أتذكر نفسي.


*


لا تأكلوا أطفال الآخرين
لأن لحمهم سيتعفن في أفواهكم المتخمة.
لا تأكلوا أزهار الصيف الحمراء
لأن نسغها دم أطفال مصلوبين.
لا تأكلوا خبز الفقراء الأسود
لأنه مخصَّبٌ بدموعهم الحامضة
وقد يتأصل في أجسامكم الممدة.
لا تأكلوا علّ أجسامكم تتهتكُ وتموت
خالقةً على الأرض الخريفَ


*


دسائس يديك العمياء
على نهديّ المرتعشين
الحركات البطيئة للسانك المشلول
في أذنيّ المحركين للمشاعر
كل جمالي الغارق في عينيك اللتين بلا حدقتين
الموت في أحشائك الذي يأكل مخي
كل هذا يجعل مني فتاة غريبة.


*


رجلٌ مريضٌ بألفِ فُواق
رجلٌ تهزهُ أفكارٌ مُملاة
يمليها عليه ظله الذي يتبعه بلا توقف
مستعداً لجرجرته عبر الفضاء
رجل بلا جذور صار نجماً.


*


أرفعك بين ذراعيّ
للمرة الأخيرة.
ثم أُنزلك على عجل في نعشك الرخيص.
أربعة رجالٍ يحملونه على أكتافهم بعد أن دقوا المسامير فيه
على وجهك المهزوم، على أعضائك المكروبة.
يهبطون السلالم الضيقة وهم يسبون
بينما أنت تتقلب في عالمك المحصور.
رأسك مفصولة عن عنقك المقطوع
تلك هي بداية الأبدية.


*


رأيتك عبر باصرتي المغمضة
تتسلق سور أحلامك المروع.
قدماك تزلان على الطحلب النائم.
عيناك تتشبثان بالمسامير التي تتدلى.
بينما كنت أصرخ دون أن أفتح فمي
حتى أفتح رأسك لليل.


*


تقبَّل صلواتي
تحمَّل نواياي الدنسة
طهرني حتى تتفتح عيناي
حتى تريا ابتسامة القتلة الباطنية.
وعندما أغدوا طاهرة
اصلبني يا يهوذا.


*


امرأة واقفة منهكة منتوفة
ساقاها السوداوان يبدوان في مأتم شبابهما
تسند ظهرها المحني على الحائط المعادي
ظهرها الذي أحنته أحلام الرجال
ولا ترى أن الفجر قد جاء أخيراً
فما أطول ما كان ليلها


*


نادني باسمي الأخير.
أشبك ملابسي بالكواكب، بالنجوم.
حتى تمشي ساقاي بلا نهاية على الأرض
وأنا أبذر يأسي في قلوب الحيوانات
حتى يكون لاستجاباتي الأخيرة رنين دقات الحزن
لدعوة البشر إلى الغفران.


*


الرجل الذي يدافع عن نفسه
أمام هيئة محلفين من القردة.
الرجل الذي يقدم الالتماسات، الرجل الذي يتوسل,
رأسه يختفي بين ساقيه المشعرتين.
والقردة تنتظر
والقردة تتهم ولا تدافعُ عن شيء
قبل أن تلتهم الرجل، هذه الموزة المتعفنة.


*


كنتُ جبانةً أمام موته.
كنتُ جبانةً أمام حياتنا.
رأسه ذات الوجنتين النديتين
انتزعتني رغماً عني من الوعود المجانية
من الوعود المنبوحة، من الصموتات، من الصرخات،
ظهري الذي يتصببُ عرقاً، فزعي، صرخاتي.
وعندئذ لكي أهرب من عينيه
حنيت رأسي، ركعت
وبجبيني المروَّع
خفّفتُ آلامه.


*


عصافير صغيرة ترفرف
تحت جلدك المتوتر، في عينيك الواسعتين
وقد خبلها الرعب الذي يهز السماء
غير مفكرة إلاّ في تحليقاتها الماضية
الفرائس الحية لصياد مجنون.


*


الفراغ فوق رأسي
دوار النشوة في فمي
وأنت فوق ظهري
القط فوق السطح
يلوك عيناً حلوة
عين حاج يبحث عن إلهه.


*


أمس مساءً رأيت جثتكِ
كنتِ رطبةً وعاريةً في ذراعيّ.
رأيتُ جمجمتكِ البراقة.
رأيت عظامكِ يدفعها برد الصباح.
فوق الرمل الأبيض، تحت شمس حائرة
كان سرطان البحر يتنازع لحمكِ.
فلم يبق شيءٌ من نهديك الممتلئين
ومع ذلك فهكذا تحديداً فضلتك
يا زهرتي.


*


أجنحة مجمدة
أصابع أقدام مكسورة
فرج مخترق
قلب أسد متحلل.


*


شيخٌ وعجوزهُ مختفيان تحت الأرض
يد متحللة في اليد المتحللة، في عز الحرارة في الوسخ
يتبادلان الكلام عبر شفاه اختفت، يتفاهمان دون كلمات
ينصتان إلى الأغنية البطيئة والخفيضة للأرض التي تتغذى
متسائلين في أعماق قلبيهما
ما إذا كانا لن يموتا أبداً.

ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي

يتبع

0 التعليقات: