كواسر_5



1960

جويس منصور



تَأَمَّل


تَأَمَّل قلبكَ الجليل بالوَرَع
الذي يزفرُ وحيداً مخنوقاً من الرقاد
النقطة الوحيدة الحساسة في جسدك الباهت، جسد البدين
تَأَمَّل قلبكَ حتى تُحْسِنَ الإنصات إليه
تَأَمَّل أفكاركَ المرفرفة في عينيك المحنطتين
الحزينتين من كآبة الأزمنة الطويلة
تَأَمَّل أفكارك حتى تُحْسِنَ عَلْكَها
تَأَمَّل اختلاجات ضميركَ المُقَنَّعِ بالغذاء
تَأَمَّل دماغكَ حتى تُحسِنَ فهمه
تَأَمَّل ولكن لا تنتظر أبداً

*

ما العمل عندما يتخلف المالُ
بأي إلهٍ ألوذُ حين يتلوثُ الماءُ
حين ينتحبُ الخبزُ المتعفنُ تحت الفراش
حين يغطي الطاعونُ جسدكِ بجراحه الكئيبة
ما العمل حين يتأوه الفجرُ
أيجبُ أن أُغني يا محبوبتي
أغنياتِ العطور
وقاحة صرخاتِكِ
أيجبُ أن أتنزه في ظل الجبَّانات
معتمراً بالقانون مفتون العضو
محظوظاً
ما العمل حين تنشب الحرب في يدكِ
ما العمل حين يشحبُ الفجرُ

*

سوف نُفَرِّقُ الجثثَ
يوم رحيلِكَ
سوف نشنقُ ديوكاً
في جوفِ أقواس قوطية
سوف نشربُ نسغ أعوامِ العذاب
سوف أتبنى بنتاً
طفلةً
بيضةَ عيد فصح
حياةً
وهي سوف تتذكرُ
يومَ رحيلِكَ
فاسمك سيكون منقوشاً على رقعةِ روحها
بأحرفٍ كبيرةٍ من الدم


* * *

سيرة


السحبُ الخبيرةُ بأوراق الخريف
الليلكُ، النزواتُ، شايُ الممرضات الإنجليزيات
الصحراءُ التي تتململُ خلف الستار
الأخُ الذي نقترن به
الجدُ الذي ندفنه
الطفلُ الذي يفقدُ أسنانه
الكوبرا التي نداعبها
والتي تبتسم
اغتيالاتُ المخمل والقشدة
الهمساتُ الموسيقية للسود الراكعين
الأقاربُ الذين ينامون في جيب الليل الواسع
تنهداتُ اللبن، الصفعاتُ ذات الأجنحة الحديدية، الأفواه المتشككةُ، المآزقُ
موتُ الزوج الذي لا ينقضي بعدُ
الجبالُ التي لها نتوءاتٌ من الثلج والتي تقتربُ وتبتعدُ
مع كل حرفٍ منطوقٍ بشكلٍ رديء من الطفل الذي يتوسل
والذي يتأرجحُ بين الأوراق المرتعدة لعامه الثالث عشر
واثقاً من قُوَّتِهِ ومن شروقِ الحبِّ
واثقاً من قُوَّتِهِ
ومن الموتِ الذي لا يَفْنَى


* * *

وحشٌ جميلٌ


الداءُ ذو الشواربِ المتموجة
يترصدني
في كل مرَّةٍ تلتقي فيها عيناي تحت المائدة
يده الموسيقية الطويلة
تندسُّ بين نهديَّ
وتخنقُ خُرَّاجي
في البيضة
ينضحُ أنفي كمزراب
يسقطُ شعري حزيناً
وعَفَنُ المهاناتِ الطوعيةِ
يعذبني
ساقاي تحلقان أعلى فأعلى
صَدَفاتٍ مفتوحةٍ فرواتٍ ملساء
داعيةً الأفواه الرقيقة
الأزاميلَ، خيولَ البحر ذات المخالب الشرهة
إلى تقاسم لَذَّاتها
ابتساماتها، مباهجها
وحبِّ شبابها، الذي يتقيحُ

*

الثلجُ يسقطُ أيها القناعُ الجميلُ
والصمتُ الهازئُ، صمتُ المفارشِ المُبْهَمَةِ
يقفلُ عينيك الحجريتين
فأبكي ولكن ما جدوى ذلك
وأنا امرأةٌ عجوز في الثلاثين من العمر
يُثَبِّتُ دُوار النعاس شعري على رقبتي
يسقطُ الثلجُ المريضُ والعطشُ يدع أصابعه المزينةَ بالريش
تنسابُ على جسدي
أشدّ على نواجذي منزعجةً من كوني مفهومة
ولا يبقى بعدُ غير حائطٍ بيني وبين الألم
غير حجرٍ مغطىً بأوراقٍ أخيرة


* * *

عيون الأصدقاء


أبحثُ عن قلبك تحت ركامٍ من الأنقاض
عِطرٌ غريبٌ أشعثٌ ومحترسٌ
يفتشُ في جنباتي دون أن يُطفئ سيجاره المكفهر
أطباقٌ بائتةٌ تمرُّ تحت أنفي
لُسَينَاتٌ، لاماتٌ، ريشٌ من الليلك
مجساتٌ تمسكُ مسكاً أوثق إحكاماً من مَسْكِ مَرَضٍ
ذكريات لا تؤكل، نقوش عرايا لهم أوراكٌ رَبِلَة
طبقاتُ ماضٍ مقضومةٌ بالجنون
وأخرى أكثر امتثالاً مزخرفة بمسحوق الأرز
تحاصر أثاثها بالأبهة وبدنتيلات الاحتفال
أبحثُ عن قلبك تحت ركام أوراق كثيف
لكن عطر حبك أطفأ سيجاره على البساط
فأبقى وحدي مع رمادِ مسَرَّةٍ أريبة.


* * *

هلالُ الضباب


مريضة، مريضة
على فراش موتي المتجدد أبداً
كذبابة على قطعة جبن بيضاء
أعلّل نفسي بفكرة أن عينيك سوف تبقيان بعدي
وأنهما سوف تعيدان مداعبة حيواناتنا المتضورة من الجوع
وأنهما سوف تعيدان رؤية شواطئنا
وأن شعور الصبايا في عمق الماء الأشهب
والتي تتمايل وتتبختر عند مرور الأسماك
سوف تبهر كالعادة حدقتيك المنتجتين للخمر
أفكر مبتسمةً في عينيك، في نظراتهما التي بلا وجهة
ولا فائض من الدموع
عينيك اللتين تهجعان هناك تحت غطائي كمدفأةٍ قديمة
كمشدٍّ
النهار يموت معلَّقاً بدبوس على الجدار
وأنا في فراشي
(لا تهتز على كرسيك)
قدماي مكعبان من الثلج لن يفلح أيُّ صوتٍ في كسرهما
ساقاي نسيتا قفزاتهما في المروج
وحده فمي يكابد لا يزال ويرتعد
ولكن من الذي يسمعُ صرخات لسانٍ عاجزٍ بشكلٍ فاتر
إلى الخارج تثيرُ الشمسُ شفقةَ غدير الماء الأخير
هناك في الحديقة حيث كنتُ أتمددُ طفلةً
جافلةً كحيوان رخوي ولكن محدودبة بالخديعة
وسعيدة أحياناً
عيناك تجتسان الأخبار
تتأبدان على أنفي راقصتين الفالس منزعجتين
عاجزتين عن الفهم
خطواتك المنسحبة بالفعل تبتعد على الحصباء
وهذا حسن
سأسقط كورقة
وحيدةً وقورةً ودون ماكياج
فمن المزعج أن يحتضر المرء بينما يريد الأقارب الكلام
والحشرجةُ العميقةُ ذاتها وقحةٌ غالباً.


ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي

0 التعليقات: