مغامرة كريستوفر كولومبوس الدموية_1



مايك جونثالث

"في سبيل الرب
والذهب
والمجد"


ترجمة
بشير السباعي


(1)


كان عام 1492 مفترق طرق في التاريخ الأوروبي والعالمي. فقد رمز إلى فترة انعدام لليقين على عتبة عالم جديد قائم على التجارة والمانيفاكتورة. وكان على معادن أمريكا اللاتينية الثمينة، المستخرجة بتكلفة بشرية رهيبة إلى حد بعيد، أن تحرك آلات أوروبا الشمالية وأن تسدد تكاليف التحول الاقتصادي. إن الذهب والفضة اللذين كانا يزينان في وقت من الأوقات هامات الأباطرة الإنكا والآزتيك قد أصبحا القاعدة الأساسية للرأسمالية الأوروبية. ومن المفارقات أن أثر الفتح على أسبانيا نفسها قد تمثل في تقويض صناعتها الناشئة ودفع البلاد إلى الوراء، من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية، على موجة رواج اقتصادي غير مسبوق. أما بالنسبة لشعوب أمريكا اللاتينية الأصلية، فقد كان الفتح يعني خضوعها لسادة جدد لا يرحمون واستعباد أجيال تالية.


وقد حدد أسلوب الفتح قواعد العلاقات الاجتماعية في ظل الرأسمالية، ووسع الساحة التي يمكن للاستغلال أن يتم فيها. وهو لم يكن مجرد أول مشروع إمبريالي. فقد بين أيضاً كيف يمكن للدين وللأفكار أن تسير خلف ممثلي رأس المال المجازف مباشرةً لتمحو آثار أقدامهم وتعيد كتابة التاريخ بحيث يصبح مشروع الإخضاع الإجباري مشروعاً مختلفاً تماماً، مشروعاً تمدينياً – ليس فتحاً بل اكتشافاً لعوالم كانت حتى ذلك الحين تذبل وتتلاشى خارج التاريخ (وذلك على الرغم من الحضارات عالية التطور التي وجدت في ذلك المكان والملايين التي عاشت حياتها هناك).


وبحلول أواخر القرن الخامس عشر، كان العالم زاخراً بالرحالة وبالحملات، وكانت هناك سفن في كل بحر. وقد تغلب الملاحون البرتغاليون على البحار الغادرة قبالة الساحل الغربي لأفريقيا ليتمكنوا من الوصول إلى جزر الهند الشرقية. أما رجال جيوفاني كابوتو، الذين خرجوا إلى عرض البحر من برستول، فقد وصلوا إلى أمريكا الشمالية. بينما نجحت السفن الشراعية الضخمة التي خرجت إلى عرض البحر من الصين في الوصول إلى الطرف الجنوبي للبحر الأحمر، وذلك في الوقت الذي كان فيه التجار العرب الأفارقة الشماليون يرتحلون براً للتجارة مع إمبراطورية زمبابوي وينشرون شباكهم التجارية في وسط آسيا وجنوبي أفريقيا وشبه القارة الهندية.


ولم يكن ذلك كله حباً للاستكشاف، لقد كانوا منخرطين في منافسة تجارية، في سباق على السلع التي شكلت أساس التجارة الدولية – التوابل والمعادن الثمينة. وكانت الوعود ضخمة.


وقد زاد من دفع السباق على موارد الثروة إلى الأمام إحساس بالثمن الفادح للفشل. فقد كانت الإمبراطوريات القديمة على حافة الكارثة. وكانت الحضارات تشكو من أزماتٍ حاسمة. وكانت أوروبا أسيرةً للكوارث – كوارث الموت الأسود والمجاعة والطاعون. كما أن امبراطوريتي الأزتيك والإنكا اللتين سوف تجري مواجهتهما كانتا في بؤرة شائعات ونبوءات تتحدث عن كارثة قادمة . وكل هذا الهلع والإحساس بالخوف كان ينبئ بزمن تغير عظيم.


وفي عام 1492، كانت إسبانيا دولة إقطاعية توحدت للتو فقط تحت التاجين المشتركين لفيرديناند وإيسابيللا – الملكين الكاثوليكيين. وقد تمثل الفعل الأخير للتوحيد ذلك العام في طرد العرب المسلمين، الذين كانوا قد احتلوا إسبانيا لما يقرب من ثمانمائة عام. وقد سمح الملكان للعرب المسلمين بممارسة ديانتهم إذا ما اختاروا عدم التحول إلى اعتناق الكاثوليكية. أما اليهود الذين لا يتنصرون، من جهة أخرى، فقد كان يتوجب طردهم على الفور. وفي غضون عشر سنوات، سوف يجري سحب المراسيم الليبرالية الخاصة بالإسلام أيضاً.


وفي مواجهة تغيرات ضخمة، فإن العالم القروسطي ومؤسسته المركزية، الكنيسة الكاثولكية، كانا مضطرين إلى إبداء مقاومة شرسة. لقد دعا مارتن لوثر إلى إصلاح للكنيسة. وكان الرد على ذلك هو إنشاء محاكم التفتيش في عام 1480. لكن هشاشة الاقتصادات الإقطاعية كانت تجعل من التغيير ضرورة لا مفر منها. وكانت الطبقة التجارية التي نمت مع توسع التجارة تضرب بشدة أبواب القلعة. ففي إسبانيا، كان التاج، الذي توحد حديثاً والذي كان لا يزال هشاً، عرضة للتحدي من جانب الطبقة المانيفاكتورية والتجارية، الكومونيروس، الذين قالوا أن عبء الضرائب الملكية يحرمهم من ميزتهم التنافسية. لكن تاج إسبانيا كان من الصعب عليه البقاء دون تلك الضرائب. وكان اقتصاد إسبانيا غير كفء وغير دينامي. وقد زاد الضغط من أجل التغيير من جراء الحاجة إلى إطعام السكان وكذلك إطعام طبقة وفيرة العدد من ملاك الأرض المتغيبين الطفيليين وحشد من الخدم المتفرغين في بلاط فيرديناند وإيسابيللا الكثير الرحلات.


وفي الوقت نفسه، فإن المصادر المعروفة للمعادن الثمينة كانت قد أصبحت بعيدة المنال حيث سيطر البرتغاليون على مصادر الذهب الأفريقي، مثلاً. وأصبح من المُلِح بالنسبة للآخرين العثور إما على طرق بديلة إلى مناجم الذهب أو على مصادر بديلة للوصول إلى المعدن. وكان الموقف مماثلاً فيما يتعلق بالطرق المؤدية إلى التوابل. وما كان محل رهان هو البقاء نفسه. وشكل الأمور يتغير من جراء الفعل الإنساني، فتوزيع الخيرات والموارد لا يتوقف على مخطط رباني بل على صراع بالغ الشراسة. وكانت الخريطة الجيدة تساوي ألف دعاء. وذلك هو ما قدمه كولومبوس لإسبانيا.

يتبع

0 التعليقات: