حلم بونابارت_2


هنري لورنس
ترجمة بشير السباعي


وفي هذه الثلاثية النابوليونية، يظهر الخيال بوصفه الطرف المحوري الذي يؤطر ويوازن الحساب والقدر. ولا يمكن فهم الحملة دون هذا الرهان على الخيال، والمشترك بين بونابارت ومعاصريه. وفي الشطر الثاني من القرن الثامن عشر، وبدرجة أكبر في الأعوام الأولى للنظام الثوري، تصبح مصر في جدول الأعمال. ففي مجتمع يحرِّم الرمزية المسيحية، يبدو الهوس بمصر بوصفه الشيء الوحيد القادر على توفير السبل الضرورية للتعبير عن تساؤله عن الموت بلغة تبدو بالنسبة له حميمة مع تجنب اللجوء إلى المسيحية. وهو ما توضحه الماسونية ومعزوفة الناي المسحور التي وضعها موتسارت.

وفي خطاب لاعبي الأدوار الصريح، تبدو مصر في صورة أرض البدايات والأصول بينما تبدو الثورة الفرنسية نهاية التاريخ. وهكذا فإن الحملة إنما تختتم دورة تاريخ الإنسانية برد العلوم والفنون إلى وطنها الأصلي. وبشكل ملموس، يجد ذلك ترجمة له في البرنامج العلمي المثير للجنة العلوم والفنون، وهو برنامج بحث عن الأصول وجرد قبل الاستعمار. ونحن نعرف أن هذا سوف يؤدي إلى ذلك الأثر المثير والذي يتمثل في كتاب وصف مصر.

لم يحدث قط أن نابوليون قد اختزل، في كتاباته الرسمية، وحتى في سانت هيلانة، الحملة الفرنسية على مصر، إلى مستوى ضرورة سياسية عابرة. فخطابه عبارة عن دفاع متواصل عن مشروع استعماري من نوعٍ جديد. ومن المؤكد أنه كان مطلوباً من مصر أيضاً أن تكون تعويضاً عن ضياع جزر الأنتيل التي تُنتج السكر وذلك بوصفها منتجةً لمنتجاتٍ كولونيالية، لكن الطموح لا يتوقف عند هذا الحد. ففي سانت هيلانة، يؤكد بونابارت بشكلٍ محدد أن مصر قدرها، بفضل برنامج أشغال عمومية جبار، أن تصبح مركز عالمٍ جديد، يهيمن عبر الإسكندرية على أوروبا كما على أفريقيا وآسيا. إن سكان كل العالم سوف يتدفقون عليها و، في غضون قرن، سوف يكون بوسع مصر الجديدة هذه أن تأخذ في نهاية المطاف استقلالها، كما فعلت ذلك الولايات المتحدة مؤخراً.

وأحلام سانت هيلانة هذه إنما تعبر تعبيراً واضحاً عن أبعاد المشروع في الأمد الطويل، ومن هنا ضرورة البدء منذ الأيام الأولى بالجرد العلمي للبلد، فهو جردٌ ضروري قبل إحداث أي تغيير. لكن بونابارت يصور نفسه دائماً في صورة إسكندر جديد، وهو في عمره. إلاّ إنه لا يمكن الركون إلى تكوين إمبراطورية على هذه الدرجة من الاتساع في أمد طويل. لقد كان يريد كل شيء وفي التو والحال.

وهنا، يُعَدُّ الخيال جزءًا من الحساب نفسه. وبونابارت لديه منذ ما قبل ذلك تصورٌ رومانتيكيٌّ عن الشرق والإسلام. وهو يرى نفسه في صورة الرجل العظيم، الفاتح والمُشَرِّع، وهي شخصية تكررت في تاريخ الشرق بحسب رؤية عصر التنوير لهذا التاريخ. وإذ ينطلق من حدس أو من زعم أن كل شيءٍ في الإسلام سياسي، فإنه يرى أن الدين سوف يكون العقبة الرئيسية في وجه مشروعه. واتساع خياله يجعله يتصور، بما يتجاوز سياسة مراعاةٍ لابد منها تجاه السلطات الدينية الإسلامية، أنه سوف يكون بإمكانه أن يوظف لحسابه طاقة الإسلام السياسية، ومن هنا استبساله في تصوير نفسه في صورة المهدي المُرسَل من الله والذي ينتظره المسلمون. وهذه "الاحتيالات"، كما سوف يصفها بذلك هو نفسه في سانت هيلانة، ستنتهي إلى الفشل، لكن ذكراها سوف تلازمه أبداً، منذ عام 1800 وحتى موته، على شكل أسفٍ دائمٍ لهذا الفشل. هذا هو ما يعبر عنه جماع إفضاءات نابوليون للمقربين إليه. وربما وجب علينا أن نجد في ذلك عقدة يوسف التي يتحدث عنها فرويد والذي يرى أن فتح أوروبا لم يكن غير بديل عن فتح مصر والشرق.

ويتلاقى الحساب والخيال عند بونابارت في فكرة أن الثورة الفرنسية، عندما تأخذ الشكل الإسلامي، سوف تسمح له بتكوين إمبراطورية شرقية، من البحر المتوسط إلى الإندوس. لكنه ليس بالرجل الذي يحرق مراكبه. وصحيح أن الإنجليز قد أحرقوها له في أبي قير، لكنه قد حافظ دائماً بشكلٍ وافر على سبل العودة إلى فرنسا إذا ما فرض الموقف عليه ذلك، أي إذا ما حرمته الظروف من فتح الشرق والإسلام، وهو ما يحدث في عكا في ربيع عام 1799.

وشخصية بونابارت جد استثنائية إلى حد أنه يجيز لنفسه وضع نفسه أمام ثلاثة عوالم – التنوير والكاثوليكية والإسلام - ، والسعي إلى توظيفها لحسابه دون أن يضطر إلى معارضتها (حتى وإن كان يصور نفسه، في مصر، في صورة عدو للكاثوليكية) . وخياله يسمح له بذلك لأن عقلية الحساب عنده تحيل هذه العوالم دائماً إلى مستويات الفعل السياسي. والحلم الشرقي ليس نقيض المناورة السياسية، بل هو إسقاط لها على مستويات ما هو كوني وشامل مع كل البرودة التي تتطلبها البراجماتية الدائمة لأفعاله السياسية. ووحدها مصر، أرض الأصول، الساحة الأخيرة للتنافس مع يوسف وإن كانت أيضاً التعبير عن ألغاز الموت، هي التي يمكنها مساعدته على أن يضع التنوير والإسلام على مستوى واحد وعلى أن يُعَبِّر، بما يتجاوز أبعاد شخصيته هو، عن التوترات المميزة للثقافة الغربية في عزمها على الفتح وكوننة – تغريب مجمل العالم القديم. والحال أن السعي إلى فهم السبب في رغبة بونابارت في فتح مصر، إنما ينطوي على ملامسة العلاقة المثيرة ولكن الصعبة دائماً بين الخيال والفعل السياسي، وهي العلاقة غير الممكنة إلا هنا، لأن الأمر يتعلق بنابوليون وبمصر.

* *

(عن لو نوفيل أبورفاتور، عدد خاص تحت عنوان حكمة وأسرار مصر، 1997 ، ص ص 9 -11 ).

0 التعليقات: