ترجمة بشير السباعي
جان ليوتار
أشارت النيويورك تايمز مؤخراً إلى أن ما بعد الحداثة هي "الموضة الثقافية للثمانينيات و، حتى الآن، للتسعينيات". فمن الصعب العثور على أي مظهر من مظاهر الحياة الثقافية المعاصرة لا يجري وصفه بأنه "بعد حداثي".
ويجري تطبيق المصطلح على الكثير جداً من الأمور المتناقضة بحيث أنه يبدو بلا معنى محدد. على أن ما بعد الحداثة يمكن النظر إليها على أنها تداخل لثلاثة عناصر متميزة.
أما العنصر الأول فهو الردة التي تطورت خلال السنوات العشرين الماضية على الحداثة، الثورة الكبرى في الفنون والتي حدثت في بداية هذا القرن.
والردة "ما بعد الحداثية" أوضح ما تكون في رفض لـ "الأسلوب الدولي" – الكتل الصماء المستطيلة التي أخذت تهيمن على مراكز المدن بعد الحرب العالمية الثانية. فالعمارة "مابعد الحداثية" تمثل هرباً من التقشف إلى التزيين، من التجديد إلى التقليد، من العقلانية إلى الهزل – كما في حالة بلوكات المكاتب المزينة بأعمدة كلاسيكية.
وتنطوي ما بعد الحداثة، ثانياً، على تيار فلسفي محدد – ما أصبخ يعرف بما بعد البنيوية، عبرت عنه مجموعة الفلاسفة الفرنسيين الذين برزوا على المسرح في الستينيات، خاصة دولوز وجاك دريدا وميشيل فوكوه.
وقد طوروا أفكاراً معينة، تتمثل أولاها وأكثرها أساسية في رفض التنوير. وكان (التنوير) هو المشروع الذي صاغه عدد من المفكرين الاسكتلانديين والفرنسيين في القرن الثامن عشر استناداً إلى فكرة أن العقل البشري قادر على فهم العالم الطبيعي والاجتماعي والسيطرة عليه في آن واحد، وهو مشروع حاول ماركس تطويره، بشكل انتقادي.
ويرى دعاة ما بعد الحداثة أن العقل والحقيقة ليسا غير وهْمَين. فالنظريات العلمية هي منظورات تعبر عن مصالح اجتماعية خاصة. وكما قال فوكوه فإن إرادة المعرفة هي مجرد شكل واحد من أشكال إرادة السلطة.
والواقع نفسه لا يعدو أن يكون مجموعة غير منتظمة من الجزيئات التي يهيمن عليها صراع لا ينتهي من أجل السلطة يصوغ الطبيعة والمجتمع على حد سواء. والبشر، بوصفهم جزءاً من هذا الواقع، إنما يفتقرون إلى أي تماسك أو سيطرة على أنفسهم. وهكذا اعتبر فوكوه الذات الإنسانية الفردية كتلة من الدوافع والرغبات التي تصوغها علاقات السلطة السائدة داخل المجتمع.
أما العنصر الثالث من عناصر ما بعد الحداثة فهو نظرية المجتمع بعد الصناعي التي طورها علماء اجتماع مثل دانييل بل في أوائل السبعينيات. فقد ذهب بل إلى أن العالم يدخل عصراً تاريخياً جديداً سوف يصبح الإنتاج المادي فيه أقل أهمية بينما تصبح المعرفة فيه هي القوة الدافعة الرئيسية للتطور الاقتصادي.
وقد تبنى الفيلسوف الفرنسي جان ليوتار هذه الفكرة وذهب إلى أن المعرفة، في "الوضع بعد الحداثي"، تتخذ شكلاً مُجَزَّأً بشكل متزايد، متخلية عن كل دعاوي الحقيقة أو المعقولية.
وهذا التحول يترجم ما يصفه ليوتار بـ "انهيار المرويات الكبرى". فمشروع التنوير – كما واصله هيجل وماركس، سعياً إلى تقديم تفسيرات لمجمل مسار التطور التاريخي كمدخل لتوضيح الشروط التي يمكن في ظلها تحقيق التحرر الإنساني – لم تعد له مصداقية بعد كارثتي النازية والستالينية.
وهكذا فإن الفكرة التي تتحدث عن تغيير منهجي شامل وجديد للغاية هي فكرة محورية بالنسبة لما بعد الحداثة. فقد دخل العالم عصراً اجتماعياً واقتصادياً جديداً، مصحوباً بتحول ثقافي – الفن ما بعد الحداثي، وبثورة فلسفية – ما بعد البنيوية. ومن هنا زعم مجلة ماركسيزم توداي بأننا نحيا في "أزمنة جديدة".
لكن شيئاً من ذلك لا يصمد للفحص الجدي.
والحال أن فكرة أننا نحيا في عصر جديد إنما تجد أفضل فضح لها في من خلال النظر في الادعاء القائل بأن هناك فناً بعد حداثي بشكل مميز.
ولعل أشهر تعريف للفن بعد الحداثي هو التعريف الذي قدمه كريستوفر جينكس، مؤرخ فن العمارة. فهو يقول أن ما بعد الحداثة تتألف من "التشفير المزدوج"، أي الجمع بين أساليب مختلفة في العمل الفني الواحد، كالجمع، مثلاً، بين الكلاسيكية والأسلوب الدولي في المبنى الواحد.
وهذا ادعاء غريب، لأن ما يصفه جينكس بـ "التشفير المزدوج" هو سمة جد واضحة من سمات الحداثة. وهكذا فإن جيمس جويس يخلط في عوليس بين أصوات وأساليب ولغات مختلفة – وهو وقع أدرجه في الشعر ت. س. إليوت في الأرض الخراب. إن الفكرة التي تتحدث عن فن بعد حداثي مميز إنما تستند إلى كاريكاتور للحداثة.
وأفضل تعريف للحداثة يقدمه يوجين لان في "الماركسية والحداثة". فهو يميز أربع سمات. أولاً "الوعي الذاتي الجمالي" :فالفن الحديث يميل إلى أن يكون خاصاً بالإبداع الفني نفسه – وهكذا فإن رواية "ذكرى الأشياء الماضية" لمارسيل بروست إنما تعيد بناء التجارب التي قادت إلى اتخاذ القرار الخاص بكتابة الرواية. ثانياً، "التزامنية، التجاور، أو المونتاج": فالفن الحديث يهشم عالم التجربة اليومية ثم يعيد تجميعه في توليفات جديدة وغير متوقعة. ثالثاً، "المفارقة، الغموض وانعدام اليقين": فالفن الحديث يعرض عالماً ليست له بعد معالم واضحة أو بنية مرئية. وأخيراً، "نزع الطابع الإنساني": فالفرد في الفن الحديث لا يسيطر بعد على دوافعه ناهيك عن العالم نفسه.
والحال أن الأمر الغريب هو أن كل هذه السمات المميزة للحداثة كثيراً ما يجري الادعاء بأنها مميزة للفن بعد الحداثي. فروايات سلمان رشدي، على سبيل المثال، توصف بأنها بعد حداثية في حين أنها في واقع الأمر حداثية بشكل نموذجي وفقاً لتعريف لان للحداثة.
وكثيراً ما يقال أن الفارق يكمن في واقع أن الحداثة كانت نخبوية ومتفائلة بشكل فج في حين أن ما بعد الحداثة شعبوية ومتشائمة في نهجها. لكن ذلك ينطوي على سوء فهم كامل للحداثة بوصفها ظاهرة تاريخية.
يتبع
0 التعليقات:
إرسال تعليق