حلم بونابارت_1



هنري لورنس
ترجمة بشير السباعي



بما يتماشى مع تراث التنوير الفرنسي، يتصور بونابارت أن مهمته إنما تكمن في أن يوقظ في مصر حضارةً وشعباً طال رقادهما. إلا أنه لا المشروع السياسي ولا الحملة العسكرية هي ما سوف يحتفظ التاريخ به، بل الأثر الموسوعي الذي يتمثل في كتاب وصف مصر.


* *


لا مراء في أن الطابع الغريب بل وغير العادي للحملة الفرنسية على مصر كان سبباً لكثير من الحيرة عند المؤرخين. وفي وقتٍ مبكرٍ جداً، وبما يشكل استئنافاً لتأكيدات قادحي الحملة عندما ظهر فشلها مؤَكَّداً في عام 1799، رأى البعض فيها مناورة سياسية من جانب إدارة تواقة إلى التخلص من جنرال لا حدود لطموحه. كما يضيف كثيرون من المتخصصين في التاريخ النابوليوني أن مصلحة الجنرال الطموح نفسها كانت تتمثل في تواصل الحديث عنه في الوقت الذي كانت السلطة القائمة لا تزال جد قوية فيه بحيث تتعذر الإطاحة بها. وقد قدم فرويد نفسه رؤية مثيرة فهو يرى أن بونابارت كان مريضاً بـ عقدة يوسف (جوزيف)، أي بشهوة الإنتقام من أخيه الأكبر، المنافس الذي يُكِنُّ له مقتاً وحُبًّا في آنٍ واحد: والحال أن فتح مصر، أرض يوسف، له عين قيمة الزواج من جوزفين، (مؤنث يوسف). وهو تعبير مماثل عن هذه العقدة التي يستمد منها قوته. وباختصار "فإلى أين يذهب المرء، إن لم يكن إلى مصر، عندما يكون يوسف الذي يريد أن يبدو عظيماً في نظر إخوته؟ وإذا ما درسنا عن قربٍ أكثر الدوافع السياسية لهذه المغامرة التي قام بها الجنرال الشاب، فسوف نجد بلا ريب أنها لم تكن غير تبريرات عنيفة لفكرة استيهامية" (رسالة من فرويد إلى توماس مان بتاريخ 20 نوفمبر / تشرين الثاني 1936).


لكن هذه التفسيرات، التي تحتوي نصيبها من الحقيقة، ليست مع ذلك كافية تماماً. فهي، أولاً، لا تأخذ في اعتبارها تصريحات المعنيين الرئيسيين وشهادات المعاصرين. والحال أن مشروع فتح مصر كان مشروعاً قديماً عند فريق من الإدارة الفرنسية، منذ مستهل سبعينيات القرن الثامن عشر على الأقل. وكان مصير الدولة العثمانية وممتلكاتها في شرق البحر المتوسط هو الموضوع الرئيسي للشواغل السياسية الأوروبية، على الأقل حتى اللحظة التي أصبحت الأولوية فيها للحرب ضد الثورة الفرنسية (1792 – 1793). وانتهاء الائتلاف الأول المعادي لفرنسا في عام 1797، إذ تبقى انجلترا وحيدة في الوقوف ضد فرنسا، إنما يسمح بالعودة إلى الشواغل السابقة. ومنذ زمن لجنة الخلاص العام، ارتأى المسئولون الفرنسيون الاضطلاع بعمل عسكري ضد البريطانيين في الهند. وفي عام 1798 كان التزاوج سهلاً بين المشروعين.


وغداة فتح إيطاليا، أقرت حكومة الإدارة الخيار القاتل الذي يتمثل في توسيع فرنسا الثورية والذي سوف تترتب عليه الحروب النابوليونية. ومادامت هذه الحكومة عاجزة عن ضرب انجلترا على أرضها، فلم يعد أمامها غير استراتيجيتين ممكنتين: الحصار القاري أو الهجوم على الهند، القاعدة المفترضة للجبروت الإنجليزي.


والحال أن المشروع الثاني هو الذي ينتصر، لأنه يبدو أكثر معقولية. وفي الوقت نفسه، فإنه يتماشى مع المنطق الجمهوري الجديد الذي ينتصر في خريف عام 1797: فالثورة، برغم إخفاقاتها الداخلية وعجزها عن التوصل إلى استقرار داخلي حقيقي، لم تَعُد تخص الأوروبيين وحدهم، بل هي تنزع إلى الانسحاب على مجمل الجنس البشري. وبعد القضاء على النظام القديم الأوروبي، يجيء الدور للقضاء على النظم القديمة الشرقية. والحال أن كتابات فلاسفة مستشرقين مثل الكونت دو فولني أو إبراهام آنكيتيل – دوبيرون إنما تزعم أن شعوب الشرق تتحين تحريراً منقذاً من جانب "أمة عظمى" قادمة من الغرب، ويتحدث عدد من الشهادات عن اتساع الحماسة التي اجتاحت الأوساط القائدة للجمهورية، من سياسيين وعسكريين وعلماء، عند إقرار المشروع. ومن الناحية العملية، لم ير أحد في ذلك ملمحاً لا عقلانياً، حتى وإن كان من المحتمل أن بونابارت وحكومة الإدارة قد خامرتهما الكثير من الشكوك.


في رسالة إلى تاليران في عام 1797، كان بونابارت قد حدد بشكل حاذق تعامله مع السياسة: "إذا ما اتخذنا كأساس لجميع العمليات السياسةَ الصحيحة، وهي ليست غير نتيجة الحساب والتوليفات والفرص، فسوف نكون لزمن طويل سادة أوروبا؛ وأنا أقول علاوة على ذلك أننا يجب أن نحافظ على التوازن، وأننا سوف نجعله يميل كما نشتهي، بل إنني – إذا كان ذلك هو حكم القدر – لا أرى استحالة في أن يصل المرء في غضون سنواتٍ قليلة إلى هذه النتائج العظيمة التي يحلم بها الخيال الجامح والمتقد، وأن الإنسان البارد في تقديره للأمور والدءوب والحكيم إلى أقصى حد هو وحده القادر على بلوغها". ومن الواضح أن الحساب والخيال والقدر هي المصطلحات الثلاثة اللازمة لفهم عمل بونابارت في مصر.


فالفرصة والقدر، المسميان أيضاً بالحظ في نصوص نابوليونية أخرى، إنما يسمحان بفهم سلسلة المجازفات الجسورة بل واللاعقلانية والتي سوف يجري الإقدام عليها، كاجتياز البحر المتوسط مع خطر التعرض لهجوم من جانب الأسطول البريطاني أو الاتجاه إلى الشام دون التمتع بالتجهيزات الضرورية لتأمين زحف جيد للجيش.


أما الحساب الرزين والبارد فهو المفتاح لعمل ينفتح دائماً على إمكانيات متناقضة، كهجر المسرح الباريسي ترقباً للاستنزاف المحتوم لحكم حكومة الإدراة أو كالمشروع التالي الذي يتمثل في إنشاء بونابارت إمبراطورية شرقية لحسابه.

وفي هذه الثلاثية النابوليونية، يظهر الخيال بوصفه الطرف المحوري الذي يؤطر ويوازن الحساب والقدر. ولا يمكن فهم الحملة دون هذا الرهان على الخيال، والمشترك بين بونابارت ومعاصريه. وفي الشطر الثاني من القرن الثامن عشر، وبدرجة أكبر في الأعوام الأولى للنظام الثوري، تصبح مصر في جدول الأعمال. ففي مجتمع يحرِّم الرمزية المسيحية، يبدو الهوس بمصر بوصفه الشيء الوحيد القادر على توفير السبل الضرورية للتعبير عن تساؤله عن الموت بلغة تبدو بالنسبة له حميمة مع تجنب اللجوء إلى المسيحية. وهو ما توضحه الماسونية ومعزوفة الناي المسحور التي وضعها موتسارت.
وفي خطاب لاعبي الأدوار الصريح، تبدو مصر في صورة أرض البدايات والأصول بينما تبدو الثورة الفرنسية نهاية التاريخ. وهكذا فإن الحملة إنما تختتم دورة تاريخ الإنسانية برد العلوم والفنون إلى وطنها الأصلي. وبشكل ملموس، يجد ذلك ترجمة له في البرنامج العلمي المثير للجنة العلوم والفنون، وهو برنامج بحث عن الأصول وجرد قبل الاستعمار. ونحن نعرف أن هذا سوف يؤدي إلى ذلك الأثر المثير والذي يتمثل في كتاب وصف مصر.

يتبع

0 التعليقات: