المؤلفون الموسيقيون الكلاسيكيون العظماء هم الأبطال الثقافيون للميثولوجيا البورجوازية. فبانعزالهم عن المجتمع، تلمع عبقريتهم الفردية، رمزاً للفكرة القائلة بأن التاريخ هو ببساطة من عمل العظماء.
والنص الكلاسيكي المستخدم للتعبير عن ذلك هو رسالة من بيتهوفن إلى إخوته عن ضعف قدرته على السمع: "لا يمكن لي أن أجد ارتياحاً في المجتمع الإنساني.. ويجب عليّ أن أحيا بمفردي تماماً وقد لا أرجع إلى المجتمع إلاَّ بالقدر الذي تقتضيه الضرورة المحضة".
لقد كان صمم بيتهوفن واقعاً مريعاً، لكن حيوات المؤلفين الموسيقيين العظماء قد زينت بالأسطورة والأسطورة المضادة. ومنذ يوم موت موتسارت في ديسمبر 1791، تقاتل كُتَّاب السيرة والنقاد على الرفات دون توقف تقريباً.
وعلى مدار القرن التاسع عشر، كانت صورة الفنان النبيل الطاهر، روح فيينَّا المستنيرة نفسها، تغذي متطلبات النزعة القومية النمساوية. وقد جرى كبت أي أثر للقصص البذيئة وللجنس في رسائل موتسارت الكثيرة. وكتبت كلمات جديدة تستراً على أغانيه الخمرية الماجنة.
أما في أيامنا، خلافاً لذلك، فقد أبرز النقاد الجانب "الإنساني" إلى درجة أن فولفجانج الصغير يبدو الآن – خاصةً في الفيلم المأخوذ عن مسرحية بيتر شافير: "آماديوس" – كغلام دائم متعلق بأبيه تعلقاً شاذاً، ومتقلب بين الإبداع الملهم والمجون المخمور.
والسمة المشتركة لكلٍّ من هاتين الصورتين عن حياة موتسارت هي أنهما تقومان على الفكرة الرومانسية التي تتحدث عن طفلٍ لم يكبر البتة في الواقع. وهما تفسران الخاصية الفريدة لموسيقى موتسارت، تقلبها المُرَكَّب بين المزاج المرح والمزاج الأسود، على أنه نتيجة لأمزجته المتقلبة هو نفسه: ما يقال عن عدم إخلاص زوجته له، ومحاولاته الدؤوبة لأن يخلق اسماً لنفسه، ناهيك عن توقعه لموته الوشيك.
وليس أياً من ذلك كافياً ولو من طرف بعيد لتفسير هذه الخاصية.
فمن بين أعمال موتسارت التي تصل إلى 660 عملاً تحمل أرقام ك (والتي سُمِّيت بهذا الاسم نسبةً إلى الكتالوج الذي صنفه لودفيج كوتشيل)، يرجع البعض إلى أعوامه المبكرة، عندما كان يجري عرض موتسارت وشقيقته في كل بلاطٍ في أوروبا كطفلين معجزين. وقد كتبت مقطوعاته الأولى عندما كان في الخامسة من عمره. وكُتبت مقطوعات أخرى كثيرة بناءً على تكليف أو سعياً إلى سداد ديون. وكان هذا هو الحال بشكلٍ خاص في السنوات القليلة الأخيرة، عندما هددت الضغوط المالية باجتياح أسرته ولم يعد عمله يجد حظوةً لدى نبلاء فيينا.
وهذه المقطوعات رائعة من الناحية التقنية لكنها لا تختلف بحال اختلافاً أساسياً عن عمل المؤلفين الموسيقيين الآخرين في ذلك الزمن. إلاَّ أنه عندما بلغ موتسارت النضج في أوائل سبعينيات القرن الثامن عشر – عندما كان في السابعة عشرة من العمر – بدأ يؤلف أعمالاً تحدت المعايير الموسيقية للقرن الثامن عشر. ففي كونشيرتات الفيولين الخمسة التي ألَّفها، والمكتوبة في الأشهر الأربعة الأخيرة لعام 1775، تظهر الأداة المنفردة للمرة الأولى كقائد للأوركسترا. وقد بدأ في الوقت نفسه سلسلة من الأعمال للبيانو والأوركسترا. وفي نهاية الأمر توافر 27 عملاً من كونشيرتات البيانو هذه، والتي تعتبر شكلاً ابتكره موتسارت من الناحية الفعلية.
وكونشيرتو البيانو من مقام دي صغير (ك 466) المكتوب في فبراير 1785 هو مثال كلاسيكي لذلك. فالفواصل الموسيقية الأولى نفسها، بلحنها العميق الخفيض الحازم النابض، تخرج بشكل حازم على عرف القرن الثامن عشر. ويدخل البيانو بهدوء ثم ينفجر في شلالات من الصوت بحيث يبدو وكأنه ينافس الأوركسترا على الهيمنة. ويجري الحفاظ على الدراما في الحركتين التاليتين، بقفزاتهما وثمانياتهما المكسورة وأنغامهما غير المتوقعة.
"شيطانيّ" هي الكلمة التي استخدمها معظم النقاد الموسيقيين لوصف هذا العمل، كما لو كان ضلالاً مبيناً. لكن نغمته واندفاعته تبشران بالضراوة الهادرة التي سوف تميز أعظم مؤلفات بيتهوفن الموسيقية. والواقع أن كونشيرتو موتسارت من مقام دي صغير كان له تأثير رئيسي على بيتهوفن. وقد واصل الهيمنة على قاموس أدوات المؤلفين الموسيقيين في القرن التاسع عشر، تماماً كما أن أوبراته العظيمة الثلاث – زواج فيجارو، دون جيوفاني، والفلوت السحري – سوف تحدد التطور التالي للمسرح الموسيقي.
إن اثنين فقط من كونشيرتات موتسارت للبيانو (ك 466 و ك491 من مقام سي صغير) هما اللذان يستغلان الأنغام الدرامية التي سرعان ما تتحقق عن طريق استخدام المقام الصغير بوصفه المقام المهيمن – والواقع أن أعماله المكتوبة في المقام الصغير قليلة للغاية. لكن استخدام المقام الصغير خلافاً لمقامٍ كبيرٍ مهيمن، وهو مصدر لتوتر دينامي متواصل، هو أمر أساسي بالنسبة لمؤلفات موتسارت الموسيقية الأخيرة، خاصةً الأوبرات.
إن أوبرا "زواج فيجارو" التي عرضت لأول مرة على نحوٍ مناسب في أول مايو 1786، كانت غزوة موتسارت الأولى لموضوع سياسي. فمسرحية بومارشيه الجديدة، بموضوعها الذي يتحدث عن إقصاء الخدم لسيدهم، قد اعتبرتها السلطات النمساوية ذات أهداف هدامة شديدة الوضوح ومن ثم فقد جرى حظرها. وكان من الشجاعة البالغة إنتاج أوبرا تحمل الاسم نفسه، خاصةً بالاشتراك مع الكاتب أندريا دابونتي، وهو قسٌ معين من أصلٍ يهودي، كان قد ترك إيطاليا بسرعة بعد أن نظم حلقة دراسية تشكك في سلطة الكنيسة والدولة.
والواقع أن العنصر السياسي في الحبكة قد جرى التخفيف من نبرته، لكن الأوبرا لم تدخل السرور على أفئدة النبلاء. فالتيمات الجذابة التي رصد موتسارت التعبير عنها في الشارع لم تعجب الطبقة التي كانت في موضع السخرية. وفي ذروة إبداعه، أخذ موتسارت يفقد الحظوة في فيينا. وبدلاً من ذلك، حققت أوبرا "زواج فيجارو" أولاً ثم أوبرا "دون جيوفاني" نجاحات كبيرة في براغ.
والواقع أن العملين كانا هدامين بدرجة قوية وذلك بسبب الأسلوب الذي تربطان به بين العلاقات الاجتماعية والعلاقات الجنسية. ففي "زواج فيجارو" نجد أن ما يتعرض للتساؤل هو تفوق الذكر شأنه في ذلك شأن النظام الإقطاعي. فالشخصية الرئيسية ليست فيجارو بل سوسانا، المرشحة لأن تكون عروساً له. وفي "دون جيوفاني" نجد أن شخصية البطل المضاد المتناقضة تهدد كل الأعراف الراسخة. فدون جيوفاني يعلن "تحيا الحرية الشاملة"، لكن الحرية الشاملة تلتهمه في الوقت نفسه. فهو يستغل ويسخر من النساء اللاتي يغويهن، لكنه يفشل في تحقيق فتح واحد على مدار الأوبرا. والنساء يطاردنه سعياً إلى كلٍّ من الحب والثأر. وإذ يجد نفسه مهدداً بنار جهنم لقاء أفعاله الشريرة، فإنه يرفض التوبة – وبذلك تتحقق البطولة.
والواقع أن الموسيقى التي كتبها موتسارت لهذه الأعمال هي التي خلقت المسرح الموسيقي من الناحية الفعلية. فقبلها لم يجر تأليف شيءٍ يدانيها ولو من طرفٍ بعيد. وبالدرجة الأولى، فإن الموسيقى لم تكن مصاحبةٍ للغناء وحسب، وإنما كانت مصاحبةً للكلمات المنطوقة التي تتفوَّه بها الشخصيات، معبرةً بذلك عن المشاعر العميقة بقوةٍ مذهلة. وفي المشهد الأخير ولكن الواحد لأوبرا "دون جيوفاني"، لم يخرج موتسارت على أعراف القرن الثامن عشر وحسب، بل وعلى أعراف القرن التاسع عشر أيضاً. فقد استخدم الأنغام المتنافرة لمجمل السلم اللوني لخلق مناخ الرعب والمصير المحتوم. وباستثناء بيتهوفن – في أواخر أعماله – لن يفعل أحدٌ ذلك مرة ً أخرى على مدار مائة عام.
وقبل شهورٍ قليلة من بدء موتسارت تأليفه أوبرا "زواج فيجارو" كان قد انضم إلى أحد المحافل الماسونية الجديدة في فيينا. وكان الماسونيون في أواخر القرن الثامن عشر بعيدين عن القوة الرجعية التي نعرفها اليوم. فقد عبروا عن كثيرٍ من أفكار التنوير – الإخاء والعدالة وحرية الفكر - وتجمعوا كممثلين للبورجوازية الصاعدة وللمؤسسة في آنٍ واحد. وعبرت فلسفتهم الاجتماعية عن كثير من تناقضات الأقسام الإصلاحية من الطبقة الحاكمة، لكن أفكار الماسونيين كانت في نظر الشرطة السرية النمساوية غير منفصلة عن اليعقوبية الثورية. وقد بدأ الإمبراطور بالحد من حريتهم قبل أن يحظر نشاطهم في عام 1794.
وفي هذا المناخ أنتج موتسارت أوبراه العظيمة الثالثة "الفلوت السحري" بصورها الماسونية الحاشدة وفكرتها الرئيسية عن الإرشاد والإخاء. وكان العمل فاشلاً في نظر النقاد لكنه كان ناجحاً في نظر الشعب. وقد اجتذب ألف مشاهدٍ يومياً في أرخص مسرح في فيينا، حيث كانت أغانيه تؤدى بالألمانية، في مشاهد مثيرة.
ويبين نجاح أوبرا "الفلوت السحري" ما كان يمكن أن يصير إليه موتسارت لو كان قد عاش: لقد مات بعد شهرين فقط من أداء العرض الأول. وحتى في ذلك الوقت كانت هناك شائعات بأن غريمه الحسود، سالييري، قد دسّ له السم. ومن شبه المؤكد أن الحقيقة أكثر ابتذالاً، وإن كانت فظيعة في الوقت نفسه، فالأعوام الأولى التي شهدت تسويقه من جانب أبيه ومعركته هو من أجل بيع نفسه قد استنفذت حياته في سن السادسة والثلاثين.
إن تقلب مكانته هو، الثورة في مكانة المؤلف الموسيقي من خادم أو موسيقار بلاط ملكي إلى منتج مستقل، والقوى الجبارة التي كانت على وشك الانطلاق في مجمل أوروبا، خاصةً الانقلاب في العلاقات الإنسانية – تجد كلها تعبيراً عنها في أعمال موتسارت الأخيرة وتناقضاتها غير المحلولة. وموسيقى أعوامه الأخيرة تضعه جنباً إلى جنب بيتهوفن بوصفه الموسيقار الأكثر روعة للثورة البورجوازية.
ترجمة: بشير السباعي
0 التعليقات:
إرسال تعليق