كافافي وأحمد راسم


بشير السباعي


خلال صيف عام 1971، زارت الناقدة الأمريكية " جين لاجوديس بنتشن" الإسكندرية في سياق بحثها عن إسكندرية "كافافي" و"فورستر" و "داريل". وفي عام 1977 نشرت في برنستون، نيوجيرسي، كتابها المعروف: "الإسكندرية لا تزال" والذي ذكرت فيه، أن "كافافي" "لم يكن مهتماً بمشاكل مصر المعاصرة، اللهم إلاَّ في مناسبة واحدة – في قصيدة تبكي فلاحاً شاباً أعدم دون وجه حق، انتقاماً لموت رجل إنجليزي".


والقصيدة التي تشير إليها "بنتشن" هي قصيدة "27 يونيو 1906، الثانية ظهراً" التي كتبها كافافي في عام 1908والتي نشر "جورج سافيدس" أصلها اليوناني، لأول مرة ، في أثينا في عام 1968.


ويَرِد زعم "بنتشن" في سياق أكثر عمومية يؤكد على أن كافافي لم يكن مهتماً بأي شيء مصري معاصر له، وهو تأكيد يكذبه ستراتيس تسيركاس في كتابه : "كافافي السياسي" الذي يتضمن فصلاً بأكمله تحت عنوان : "كافافي ومصر المعاصرة"، استندت إليه الناقدة اليونانية "مارينا ريسفا" في تأكيدها على "تمرد كافافي على الظلم الذي اقترفته بريطانيا العظمى في حق الأمة المصرية".


لكن ما يعنينا هنا ليس هو إبراز هذا الواقع الذي لا ينكر، بل إبراز واقع آخر تعرض للتجاهل زمناً طويلاً: اطلاع "كافافي" على الإبداع الشعري المصري، المكتوب بالفرنسية، وتحمسه له، ونعني هنا بالدرجة الأولى إبداع "أحمد راسم" (1895-1958)، وهو الشاعر الذي قال عنه الناقد "جاستون بيرثي" إنه "أكثر شعراء الفرنسية المصريين مصرية".


فمنذ عام 1926 ، شقَّت قصائد "أحمد راسم" طريقها من مدريد، ثم من براغ، إلى مجلة "لاسومين إيجيبسيان" التي كان يرأس تحريرها الصحفي المعروف "ستافروس ستافرينوس" صديق "كافافي". وفي سبتمبر 1927، نشرت دار "رسائل الشرق" الباريسية ديوان "أحمد راسم" الأول المكتوب بالفرنسية بعنوان "كتاب نيسان". وفي 31 مايو 1928، أصدر "ستافرينوس" عدداً خاصاً من المجلة مكرَّساً لإبداع "أحمد راسم" الشعري، تضمن مجموعة من القصائد التي كتبها الشاعر في براغ، قلب بوهيميا الذي أنصت إليه "أبوللينير".


كان "كافافي" يتابع بدأب قصائد الشاعر المصري الذي ولد – مثله – في الإسكندرية. ولم يكن الشاعر اليوناني الشيخ ليخفي حماسه لإبداع الشاعر المصري الشاب، فقد أعرب عن هذا الحماس أمام كثيرين من المبدعين السكندريين الأجانب، الذين كانوا أصدقاء مشتركين له ولـ "أحمد راسم" في الوقت نفسه.


وعندما قرر "ستافرينوس" إصدار عدد خاص من مجلته عن إبداع "أحمد راسم"، وهو قرار سابق لقراره بإصدار عدد خاص عن إبداع "كافافي"، أرسل من القاهرة رسالة إلى الأخير في الإسكندرية يخبره فيها بما قرره. ورداًّ على هذه الرسالة، كتب "كافافي" الرسالة التالية، والتي نُشرت في صدر العدد الخاص من المجلة عن "أحمد راسم":


"الإسكندرية، 9 مايو 1928، 10 شارع ليبسيوس
عزيزي ستافرينوس،
تلقيت رسالتك المؤرخة في 6 مايو والتي تخبرني عن طريقها بأن مجلة "لاسومين إيجيبسيان" تنوي تكريس عدد خاص لأحمد راسم، إنك محقٌ في القول بأنني أكنُّ التقدير له. فقد أعربتُ، شفاهةً، مراراً، عن مشاعر التقدير التي أكنها لأحمد راسم، وسوف أكون سعيداً إذا ما تسنَّى تحقيق أوسع ذيوعٍ لها من خلال مجلة "لاسومين إيجيبسيان".
إنني أحب في أحمد راسم التعبير الحي، والروح، والموقف. وعندما أرى في مجلة "لاسومين إيجيبسيان" مقالة أو قصيدة بتوقيع أحمد راسم، فإنني أسارع إلى قراءتها، مقتنعاً بأنني سوف أجد شيئاً جميلاً ومثيراً للاهتمام. وحتى هذا اليوم لم يَخِبْ ظنِّي.
إنني أتحدث عن ذلك الجانب من عمله المكتوب بالفرنسية، إلاَّ أنه يبدو لي من المؤكد أن خصائص الكتابة العديدة المجتمعة في أحمد راسم، لابد وأنها قد منحت الأدب العربيّ أيضاً صفحات مماثلة لتلك المكتوبة بالفرنسية، والتي تدخل السرور على قلبي، تدخل سروراً جمًّا على قلبي.


صديقك
ك. ب. كافافي"

0 التعليقات: