في ربيع عام 1935 زار أندريه مالرو مصر لكي يحضر افتتاح معرض الفنان اليوناني الأثير لديه د. جالانيس، الذي كان قد رسم ديك بلاد الغال على طابع بريد فرنسي.
ربما ضمن مظروف يحمل طابع البريد هذا نفسه، وصل إلى مصر مقال مالرو المنشور في عدد مارس 1935 من مجلة "لاسومين اجيبسيين"، والذي قال فيه ما هو أساسي من منظوره: " إن الفنان الحديث إنما يعبر عن الأشياء، ليس وفق طابعها الأكثر حيوية أو الأكثر حدة، بل وفق شخصيته الجوهرية هو. والسنوات المائة الأخيرة هذه ليست غير أمثلة صراع بين عملية خلق ذاته التي يخوضها الفنان والوسائط التي يستخدمها. ليس هوى للرسم "المرسوم جيداً"، وفق النموذج الهولندي، يرسم سيزان ثمار التفاح، بل لأن ثمار التفاح تتيح لسيزان مساحة أوسع للتحدث عن نفسه؛ والواقع أن الضرورات التشكيلية ليست هي أساساً التي سوف تدفع الرسامين إلى الرسم التجريدي، بل هي المساحة الشاسعة، الفاتنة، التي يتيحها كل فن تجريدي لشخصية الرسام. إن القرن الأخير للرسم هو حرب عمرها مائة عام بين الموضوع والذات التي تريد تصويره".
منذ عمله الأول، ""أقمار من الورق" (1921)، وهو عمل ذو طابع سوريالي واضح، تتجلى التيمات الوجودية المحاربة التي تكمن وراء هذا التصريح المكتوب في عام 1935.
في كتاب صدر في عام 1967 في الولايات المتحدة الأمريكية تحت عنوان "مالرو – بحث في النقد السياسي"، يحدد ديفيد ويلكنسون تيمات ذلك العمل المبكر على النحو التالي: "إختفاء الله من التجربة الإنسانية، وهيمنة كائن شيطاني داخل الإنسان نفسه، والرحلة إلى بلاد غير مألوفة سعياً إلى القوة ولمحاربة حضور الموت، وهو حضور جد واقعي".
هكذا نجد أنفسنا أمام مغامرة وجودية ليست شيئاً آخر غير مغامرة تحدي الموت، من خلال فعل إرادة يؤكد حضور الذات واستنفار توقها إلى الانتصار على الزمن؛ إنها مغامرة حمل عبء الحرية. والمخاطرة بالحياة نفسها، تأكيداً لما تعتبره تلك الذات قيمها الأصيلة.
وإذا تركنا جانباً المسألة الخلافية حول ما إذا كان مالرو قد شارك شخصياً في أحداث الثورة الصينية الثانية، فإن هذه المغامرة الوجودية تظل التيمة الأساسية لرواية "قدر الإنسان" (1933) والهاجس الأساسي لمالرو تلك الفترة على الأقل.
في عام 1933، قرأ جورج حنين، رائد السوريالية المصرية، رواية مالرو. وفي ربيع 1935، لابد أن حواراً مهماً قد دار بين الرجلين، فقد خرج مالرو من هذا الحوار بانطباع جد قوي عن حنين الذي كان لايزال في الواحدة والعشرين من عمره.
سوف تتردد أصداء تيمة مالرو الوجودية في قصائد الشاعر السوريالي المصري وكتاباته النقدية على حد سواء، منذ أواسط الثلاثينيات، وخاصة منذ نشوب الحرب الأهلية الأسبانية (1936-1939)، وحتى رحيله عن عالمنا في عام 1973.
من الصعب في مداخلة قصيرة كهذه، رصد كل هذه الأصداء في عمل تواصلت مسيرته نحو أربعين عاماً. لذا سوف أكتفي بالإشارة إلى مداخلة جورج حنين في ندوة جماعة المحاولين في 6 أبريل 1939.
لقد أشار إلى حديث مالرو، في رواية "الأمل"، عن ملحمة مدريد. ثم أورد قول الكاتب: "لقد عاش هؤلاء الناس على الأقل يوماً وفقاً لقلبهم" ثم أردف: "إن التعارض الشائخ والكاذب بين الحلم والفعل قد طال أكثر من اللزوم، وعلى الفنانين والكتاب أن يناضلوا من أجل أن يكسب البشر حق الحياة دائماً وفقاً لقلبهم".
بالنسبة لجورج حنين، كما بالنسبة لأندريه مالرو، يكمن الشيء الأساسي، مهما كان الثمن، حتى لو كان هذا الثمن هو الموت، في أن نحيا وفقاً لإملاءات الضمير، ضميرنا نحن، أي مجموعة القيم التي نتوحد معها وتصبح جوهرنا الإنساني ذاته.
إليكم مثالاً آخر: في مقال له تحت عنوان "العدالة الإشعاعية" (5 مايو 1960)، يتذكر جورج حنين كيف كان الفوضويون الأسبان يلقون بأنفسهم على فوهات مدافع الفاشيين وهم يهتفون "يحيا الموت!" ويردف قائلاً: "أولئك هم شرف عصرنا... ".
يبدو لي أننا لا يمكننا فهم رؤى السورياليين المصريين بعيداً عن إدراك أثر إبداع مالرو الروائي، بل وأثر تجربته الشخصية في الهند الصينية وأسبانيا.
(إن جورج حنين سوف يحييه عند مستهل السبعينيات على تأييده لاستقلال البنغال الشرقية).
على أن ما يجب أن نلتفت إليه هو أن ثراء تجربة مالرو الإبداعية كان كفيلاً بإتاحة مساحة لتباين آثار هذه التجربة على السورياليين المصريين. فمن الواضح أن مالرو هو ابن ثقافة مسكونة بهاجس الموت وعبثية الوجود الإنساني، حيث يتساوى موت الله مع إعلان وحدة الإنسان وعزلته الحزينة، وهو ما يردنا إلى مواقف كان جورج حنين بعيداً عنها، بالرغم من أن الهاجس المشار إليه يتبدى بين حين وآخر عند شاعرنا السوريالي، خاصة خلال زمن "المنفى الداخلي" بين عامي 1954 و 1960، قبل رحيله النهائي إلى فرنسا.
وبينما كانت غالبية الانتلجنتسيا العلمانية الراديكالية المصرية قد استسلمت منذ أواخر الثلاثينيات وحتى كارثة يونيو 1967 لمشروع حداثة سلطوية ترمز إليه ممارسة ستالين، وهو سوبرمان مالروي من نوع خاص، اختار جورج حنين ورفاقه مشروع حداثة ديموقراطية، مشددين على نقد عبادة الزعيم، لأن تفرد الكائن ، الذي شدد عليه مالرو بالرغم من كل شئ، لا يجب له أن يتلاشى في سديم أجواء بونابرتية تهيمن عليها إيمانات جماعية، خاصة إذا كانت إيمانات قومية.
وفي جميع الأحوال، يظل صحيحاً، بالنسبة لجورج حنين ورفاقه، ما ذكره ألفرد كازن في عام 1965، في كتابه الصادر في الولايات المتحدة الأمريكية تحت عنوان "البدء من الثلاثينيات"، حيث قال إن مالرو كان مصدراً أساسياً من مصادر إلهام جيل كامل من الراديكاليين.
يبدو لي أن مؤرخينا سوف يتعين عليهم الانكباب على تتبع مسيرة أندريه مالرو الإبداعية، إذا كان لابد لهم من التوصل إلى فهم سليم لمصادر إلهام الحركة السوريالية المصرية. وأرجو أن تكون مداخلتي القصيرة هذه حافزاً إلى ذلك.
مداخلة في ندوة بالمركز الفرنسي للثقافة والتعاون، بالمنيرة، القاهرة، بتاريخ (؟)
0 التعليقات:
إرسال تعليق