(2)
بشير السباعي
1987
إن حملة الافتراءات التي بدأت ضد تروتسكي منذ العام 1923 قد بلغت ذروتها في محاكمة موسكو الاستعراضية في عام 1938، حيث جرت محاكمة تروتسكي - غيابياً – بتهم من بينها التجسس لحساب الجستابو النازي والنشاط التخريبي. وسرعان ما أصبحت كلمة "تروتسكية" تعني عند الستاليني العادي من طراز ديكومب وتلامذته والكوريليين المصريين – التجسس والنشاط التخريبي. فهي لا تشير إلى اتجاه سياسي داخل الحركة العمالية العالمية بل تشير إلى نشاط مشبوه ضد هذه الحركة، بينما كان ميليوكوف، المؤرخ وقائد حزب الكاديت الروسي، والذي "كان لينين يعتبره سياسياً بارزًا... وكان مؤرخاً كبيرًا لم تفقد مؤلفاته أهميتها العلمية حتى يومنا هذا" (صحيفة "أنباء موسكو"، 8 فبراير 1987، ص 9 وص 14)، والذي كان أول من ابتدع كلمة "تروتسكية" خلال ثورة 1905 – 1907 في روسيا، قد استخدم هذه الكلمة للإشارة إلى المزاج الثوري لبروليتاريا سان بطرسبورج، حيث كان تروتسكي رئيسًا لسوفييت نواب عمال عاصمة الإمبراطورية القيصرية.
والحال أن الصورة التي روجتها محاكمة موسكو في عام 1938 قد رُسمت بهدف استئصال شأفة الماركسية الثورية داخل الحركة العمالية العالمية وإحكام سيطرة البيروقراطية الستالينية على هذه الحركة. وقد قبل ديكومب وتلاميذته هذه الصورة وعملوا على ترويجها. ولم يجد أحمد صادق سعد حرجًا في أن يكتب أن تروتسكي قد تكشف عن مجرد "خائن وعميل للفاشية" (أحمد صادق سعد: مصدر سبق ذكره، ص 256). وقد جاء هذا الوصف في مقال بمناسبة ذكرى ثورة أكتوبر الثامنة والعشرين التي كان ستالين قد كتب في ذكراها الأولى أن "كل عمل التنظيم الفعلي للانتفاضة قد تم تحت القيادة المباشرة لرئيس سوفييت بتروجراد، الرفيق تروتسكي" (برافدا، 6 نوفمبر 1918). لكن أحمد صادق سعد كان يردد افتراءات عام 1938 والتي شكلت "تتويجاً " لجهود تزويرية كانت قد بدأت بشكل خجول قبل ذلك بخمسة عشر عاماً.
وعلى الرغم من استبعاد ورثة ستالين لهذه التهمة (انظر، History of the Communist party of the Soviet Union, F. L. P., Moscow, n. d. 1964?, P. 505 )، فإن أحمد صادق سعد، عندما أعاد نشر مقالاته التي كان قد ساهم بها في مجلة "الفجر الجديد"، وجد أن من غير المناسب سحب هذه التهمة عبر تعليقاته على مقالاته بينما وجد أن من المناسب الاعتذار عما وصفه بـ "فجاجة" هجومه في أحد مقالاته على مؤازر الفاشية المصري أحمد حسين! (انظر أحمد صادق سعد: مصدر سبق ذكره، ص 264). وقد اعتبر د. رفعت السعيد، سخرية أنور كامل من اتهام تروتسكي بالجاسوسية "جرمًا"، وذلك في كتاب أصدره في ذات العام الذي أعاد أحمد صادق سعد نشر مقالاته فيه (انظر د. رفعت السعيد: تاريخ المنظمات اليسارية المصرية، 1940-1950، دار الثقافة الجديدة، القاهرة 1976، ص 159)، وهو ما يشير إلى تخلف تلامذة ديكومب وهنري كورييل – على حد سواء – عشرين سنة على الأقل في مدرسة التزييف الستالينية، غير قادرين على استيعاب دروسها الجديدة التي بدأ تلقينها منذ عام 1956. فمنذ ذلك التاريخ، أصبح المتهم بالجاسوسية هو لافرينتي بيريا، الساعد الأيمن لستالين، لا تروتسكي ولا بوخارين ولا توخاتشيفسكي.
والحال أن كل ما حدث هو أن ديكومب قد نقل إلى التربة المصرية ممارسة كانت معتمدة من جانب مجمل الحركة الستالينية العالمية. مثال ذلك أن هذه الحركة قد وصفت حزبًا بأكمله، هو الحزب العمالي للتوحيد الماركسي، في إسبانيا، بأنه حزب تروتسكي، رغم سجالات تروتسكي العنيفة ضد هذا الحزب، وذلك لمجرد أن هذا الحزب لم يكن مستعداً للاندراج في الكورس الستاليني! وقد اغتال الستالينيون أندريه نين، زعيم الحزب المذكور وأحد ألد أعداء الفاشية في إسبانيا. وحتى وقت غير بعيد جداً، كان المؤرخون السوفييت يتعاملون مع هذا الحزب باعتباره حزباً تروتسكياً (انظر: ف. م. إيفانوف، أ. ن. شيميليف: اللينينية والهزيمة الفكرية – السياسية للتروتسكية، لينزدات، لينينجراد، 1970، ص 478 "بالروسية").
وعلاوة على ما سبقت الإشارة إليه فيما يتعلق بموقف تروتسكي من مؤتمر أمستردام وتعارض التوجهات السياسية التروتسكية مع فكرة الروابط من النوع الذي سانده الستالينيون، أعتقد أن من شأن إشارة سريعة إلى سيرة راءول كورييل السياسية أن تكون كافية لإبراز حقيقة أنه لم يكن تروتسكيًا في أي وقت من الأوقات، خلافًا لمزاعم أحمد صادق سعد.
كان راءول كورييل (ولد عام 1913)، بعد عام واحد من فصل تروتسكي من الحزب الشيوعي السوفييتي وقبل أقل من عام على نفيه من الاتحاد السوفييتي، أي منذ عام 1928، منتميًا إلى جماعة أصدقاء الاتحاد السوفييتي. وكانت الجمعيات من هذا النوع عبارة عن شلل لا وزن لها، تضم بين صفوفها، شأنها في ذلك شأن "الرابطة السلمية"، مسالمين بورجوازيين وصحافيين فابيين، مثل الزوجين سيدني وبياتريس ويب، وعناصر ماسونية تنتمي إلى مختلف المحافل... إلخ. وقد شاركت مثل هذه الجمعيات في الافتراء على تروتسكي، القائد البارز لانتفاضة أكتوبر وقائد الجيش الأحمر إلى الانتصار في الحرب الأهلية وحروب التدخل، الذي رد لأبرز ممثليها – ذوي الماضي المعادي لثورة أكتوبر في حالات كثيرة – الصاع صاعين، مركزاً بشكل خاص، على تاريخ الزوجين ويب الأسود.
وقد أمضر راءول كورييل خمس سنوات متواصلة في فرنسا للدراسة بين عامي 1933 و1938 حيث لم يعد إلى مصر إلا في أكتوبر من العام الأخير.
وخلال تلك الفترة، كان منتمياً إلى اتحاد الطلاب الاشتراكيين التابع للشعبة الفرنسية للأممية العمالية (الحزب الاشتراكي الفرنسي). وعندما قرر ليون بلوم (1872 - 1950) زعيم الحزب الاشتراكي، ورئيس وزراء حكومة الجبهة الشعبية – التي كانت قد وصلت إلى الحكم بدعم من الستالينيين – عدم التدخل إلى جانب الجمهوريين الأسبان، بموجب ميثاق عدم التدخل الموقع بين فرنسا والمملكة المتحدة في 15 أغسطس 1936، تقارب راءول كورييل مع الحزب الشيوعي الفرنسي الذي واصل دعم حكومة الجبهة الشعبية بأصوات نوابه في الجمعية الوطنية الفرنسية، رغم خيانة بلوم للجمهوريين الأسبان.
وعندما عاد راءول كورييل إلى مصر في أكتوبر 1938 انضم إلى "الرابطة السلمية" التي سرعان ما استقال منها للأسباب التي سبقت الإشارة إليها (عصبوية ديكومب وتخوفه من توسيع نشاط الرابطة) كي يؤسس، بالاشتراك مع ريمون أجيون، وهنري كورييل، ومارسيل إسرائيل، وجورج بوانتيه (الستاليني السويسري)، وساندرو روكا، وكيبريو، وأحمد الأهواني ومحمد نصر الدين "الاتحاد الديموقراطي"، في مستهل عام 1939.
وقد شكل أغلب المذكورين اللجنة القيادية للاتحاد، وكان مارسيل إسرائيل هو أمين هذه اللجنة. وقد حصلوا على مساعدات مالية سخية من المليونير دانييل نسيم كورييل (والد راءول وهنري) وتمتعوا بتعاطف أحد المحافل الماسونية، مواصلين جانباً من تقاليد "الرابطة السلمية". ولم يكن بين أعضاء اللجنة القيادية للاتحاد تروتسكيٌّ واحدٌ مما يشهد على زيف ادعاء الدكتور عبد العظيم رمضان، استاداً إلى رواية أحمد صادق سعد، أن "الاتحاد الديموقراطي" قد تكوَّن على يد "تروتسكيين منسلخين" من "الرابطة السلمية" (د. عبد العظيم رمضان: مصدر سبق ذكره، ص 21). لقد رحب راءول كورييل وجورج بوانتيه باتفاق هتلر – ستالين الذي وقعه ريبنتروب، وزير خارجية ألمانيا، ومولوتوف، وزير خارجية الاتحاد السوفيتي، في موسكو في 23 أغسطس 1939، وهو الاتفاق الذي اعتبره التروتسكيون افتتاحاً لـ "صفحة من أسود صفحات سياسة ونشاط الأممية الشيوعية والأحزاب الشيوعية "الستالينية". (Pierre Frank, Histoire de l'international Communiste, 2, Editions la Breche, Paris, 1981.P. 823) . وغداة إعلان المملكة المتحدة وفرنسا الحرب على ألمانيا في 3 سبتمبر 1939، سارع راءول كورييل إلى تسجيل اسمه في القنصلية الفرنسية متطوعاً (فعل أخوه الشيء نفسه) ، رهن إشارة الأركان العامة لجيش فرنسا الإمبريالية، في حرب اعتبرها التروتسكيون حرباً غير عادلة بين دول إمبريالية يتعين على الثوريين تحويلها إلى حرب أهلية. وقد فعل ذلك حتى قبل سقوط باريس وتوقيع بيتان اتفاق الهدنة مع الألمان. ويذكر أحمد صادق سعد أن الاتحاد الديموقراطي "قد أصدر بياناً يؤيد فيه فرنسا وانجلترا ضد ألمانيا" (أحمد صادق سعد: مصدر سبق ذكره، ص 42) إلا أن أحمد صادق سعد يزور التاريخ، مرة، حين يحاول الإيحاء بأن هذا الموقف كان موقف تروتسكيين ويزور التاريخ، مرة أخرى، حين يزعم أن موقف الكومنترن خلال تلك الفترة كان "هو الدعوة إلى قلب الحكم الرأسمالي في أوروبا" (أحمد صادق سعد: مصدر سبق ذكره، ص 42). فقد تمثل موقف التروتسكيين في الدعوة إلى الانهزامية الثورية في كل من فرنسا وانجلترا وألمانيا وإيطاليا بينما كان موقف الكومنترن الستاليني، في فترة الاتفاق الروسي الألماني، وقبل الهجوم النازي على الاتحاد السوفيتي، ليس "الدعوة إلى قلب نظام الحكم الرأسمالي في أوروبا" بل الدعوة إلى انهزامية من نوع خاص، لا علاقة لها بالانهزامية الثورية اللينينية، الدعوة إلى انهزامية من جهة واحدة فقط على حساب فرنسا والمملكة المتحدة ولحساب ألمانيا النازية.P. Frank, Op. Cit., P.831))
وقد شارك راءول كورييل، في ديسمبر 1939، في إصدار صحيفة "دون كيشوت" التي أراد لها أن تكون على غرار جريدة "ماريان" الباريسية غير التروتسكية. وعندما أعلنت الهدنة بين فرنسا البيتانية وألمانيا الهتلرية، ذهب إلى أحد الآباء اليسوعيين ليجد لديه العزاء والسلوى: "ليست الهدنة مأساة! إنها العقاب العادل الذي استحقته فرنسا إذ تحالفت مع أمة بروتستانتية" (يقصد انجلترا!) [المعلومات البيوجرافية عن راءول كورسسل مستمدة من جيل بيرو: مصدر سبق ذكره، صفحات مختلفة].
ومن الجلي أن سيرة سيرة سياسية كهذه لا يجمع بينها وبين السيرة السياسية لأي مناضل تروتسكي في ذلك الوقت أي جامع. ولا يمكن اعتبار راءول كورييل تروتسكياً إلا عبر تشويه مواقف التروتسكية المعروفة تجاه عدد كبير من المسائل المهمة خلال الثلاثينيات ومستهل الأربعينيات، وهو تشويه لا مفر من أن يدمغ من يحاولون تجربته، في أحسن الأحوال، بالحماقة النادرة، لأن مواقف التروتسكية من الحرب خلال فترة 1939-1941 أشهر من نار على علم وقد جسدت في بيان الأممية الرابعة الصادر عن مؤتمر مايو 1940، والذي وصف الحرب الدائرة بين قوى أوروبا الاستعمارية بأنها "حرب إمبريالية"، ذلك أن "السبب المباشر للحرب الدائرة هو التنافس بين الإمبراطوريتين الاستعماريتين القديمتين: بريطانيا العظمى وفرنسا واللصين الإمبرياليين المتأخرين: ألمانيا وإيطاليا".
(Jean-Jacques Marie, Trotsky: Textes et Débats, L. G. F., Paris, 1984, PP. 413-14)
وبينما أصر التروتسكيون على اعتبار الحرب حرباً إمبريالية من جانب الأطراف المذكورة كلها، كانت مجلة الكومنترن الستاليني إنترناسيونال كومينيست تعلن في يناير 1940 – وسط الحرب الدائرة – أن "النضال الأممي للطبقة العاملة ضد النظام الإمبريالي العالمي يتطلب تركيز القوى ضد العدو الرئيسي الراهن في ساحة السياسة الدولية... لقد أصبحت الإمبريالية البريطانية... العدو الرئيسي للطبقة العاملة العالمية". وقد ورد هذا الكلام وسط صمت تام عن أهداف الإمبريالية الألمانية. واستمر هذا الموقف حتى اعتداء هتلر على الاتحاد السوفييتي. ففي افتتاحية المجلة المذكورة في أول مايو 1941 لم يرد ولو مرة واحدة أي ذكر لكلمتي النازية أو الفاشية، بل لم يرد أي ذكر لأسماء هتلر أو موسوليني أو حتى فرانكو وذلك في مقال من إحدى عشرة صفحة موجهة إلى الطبقة العاملة في عيد أول مايو! وهو ما يعني أن موقف "الاتحاد الديموقراطي" الذي لا علاقة له من قريب أو من بعيد بموقف التروتسكيين من الحرب ليس أكثر خزياً من موقف الكومنترن الستاليني! ومن الشطط والسخف تسوية حسابات تاريخية بين الديكومبيين والكوريليين على حساب التروتسكية. لكن التاريخ يبين أن مثل هذه الأمور تحدث غالباً عندما تمسك إحدى الشيع العصبوية بخناق شيعة عصبوية أخرى! وهكذا يجري زج اسم تروتسكي في قتال محزن بين شقيقين!
يتبع
0 التعليقات:
إرسال تعليق