(6)
بشير السباعي
1987
أما لطف الله سليمان (ولد عام 1918) فقد اشترك مع أنور كامل في عام 1947 في تحرير كراس صدر في مايو 1947 تحت عنوان "اخرجوا من السودان". وقد دعا هذا الكراس إلى جلاء البريطانيين دون قيد أو شرط عن مصر والسودان وإلى اعتراف مصر بحق الشعب السوداني في تقرير مصيره بنفسه (انظر، أنور كامل، لطف الله سليمان: اخرجوا من السودان، مطبوعات الدهماء، القاهرة، مايو 1947، ص 3).
وقد سبقت الإشارة إلى أن لطف الله سليمان لم يكن عضواً في جماعة "الخبز والحرية" وهو، علاوة على ذلك، لم يكن عضواً في جماعة "الفن والحرية" إلا أنه قد آزر كلاً من الجماعتين.
وقد أسس لطف الله سليمان حوالي عام 1942 (بالاشتراك، على ما يبدو، مع جورج حنين) داراً للنشر جعلت مهمتها نشر الأدبيات الثورية. و عندما تولى رمسيس يونان (1913-1966) (لا تختلف سيرة رمسيس يونان الفكرية – السياسية كثيراً عن سيرة جورج حنين) رئاسة تحرير مجلة "المجلة الجديدة" اعتباراً من أبريل 1943، كان لطف الله سليمان مديراً لتحرير المجلة. وقد انحازت المجلة إلى صف الاتحاد السوفييتي دون قيد أو ششرط في الحرب ضد ألمانيا الهتلرية وأقامت صلات مع مجلات وصحف الجماعات الستالينية في لبنان والعراق وأيدت حزب الوفد (هذا الموقف الأخير بالذات يشهد على أنها لم تكن مجلة تروتسكية), وكان من كتابها رمسيس يونان، وجورج حنين، وأنور كامل (لم ينشر الأخير فيها غير مقال واحد، تحت الاسم المستعار "نسيب الحديدي"). وقد تحولت إلى مجلة مناهضة للستالينية بعد تصريح لورد فانيستارت، وعندئذ قطعت مجلات وصحف الجماعات الستالينية في لبنان والعراق صلاتها بها. ثم عطلت المجلة بموجب أمر عسكري اعتباراً من العدد 444.
وقد التف عدد من السورياليين والمثقفين اليساريين المصريين – المستقلين عن التيار الستاليني – حول لطف الله سليمان منذ عام 1945، وكان سليمان قد طرح فكرة إنشاء "حزب شيوعي ثوري" دون أن تتحول الفكرة إلى واقع تنظيمي في أي وقت من الأوقات.
وقد كتب لطف الله سليمان (بالفرنسية) منشوراً محدود التوزيع يدعو إلى تكوين حزب كهذا تحت عنوان: "نحو حزب شيوعي ثوري". واتهم سليمان كلاً من محمد مندور وأنور كامل في هذا المخطوط بـ "الانتهازية" لتعاونهما مع صحيفة "الوفد المصري". وكان أنور كامل قد رتب لقاء بين مصطفى موسى وأمين الكاشف (من شبيبة اليسار الوفدي) وجورج حنين ولطف الله سليمان لتدارس إمكانيات العمل المشترك. ويذكر أنور كامل في حديثه مع س. بوتمان أن جورج حنين لم يبد اهتماماً بالموضوع بعد المناقشة وأن لطف الله سليمان اتخذ موقفاً أكثر تشدداً ضد العمل المشترك مع شبيبة اليسار الوفدي. وقد ضبط مخطوط لطف الله سليمان مع أنور كامل خلال حملة صدقي في يوليو 1946. وكان لطف الله سليمان آخر مناضل يخرج من السجن.
والحال أن س. بوتمان قد ذكرت في عام 1980 أن لطف الله سليمان قال إن حركة تروتسكية حقيقية قد بدأت في عام 1945، ذات هياكل تنظيمية حقيقية. وقد نفى ذلك أنور كامل (الذي أيد دعوة لطف الله سليمان إلى إنشاء حزب شيوعي ثوري والذي اعتبر الانتقاد الذي وجهه سليمان إليه نوعاً من "الانتقاد الذاتي" والذي اشترك مع سليمان في عام 1947 في تحرير كراس "اخرجوا من السودان" (انظر، A. Kamel, Op, Cit.). وعلاوة على ذلك فقد عاد لطف الله سليمان في عام 1984 ليعلن أن المجموعة التي التفت حوله كانت "من دون بنىً تنظيمية حقيقية" (جيل بيرو: مصدر سبق ذكره، ص 283).
ويبدو أن محاولة لطف الله سليمان كان لا مفر لها من أن تفشل. فهو قد أراد بناء "حزب شيوعي ثوري" من خلال التعاون مع جورج حنين ورمسيس يونان (السوريالييْن المياليْن إلى الفوضوية) وأنور كامل (الماركسي المستقل المستعد للتعاون مع صحف الوفد). ويدل ذلك، وحده، على أن سليمان لم يكن يملك رؤية تروتسكية حقيقية فيما يتعلق بأبسط مقدمات بناء "حزب شيوعي ثوري".
على أن مما يذكر لهذا الفصيل – على اختلاف عناصره – أنه قد طرح شعارات ثورية فيما يتعلق بضرورة استناد الحركة القومية التحررية إلى قوة الطبقة العاملة وصهر النضالات القومية – التحررية الثورية في نضال الطبقة العاملة الطبقي وأنه قد شجب قرار التقسيم ودعا إلى حرب تحريرية ضد الدولة الصهيونية.
والحال أن موقف الحركة الستالينية من المسألة الفلسطينية خلال 1947 – 1948 قد أدى إلى تهميش عام لمجمل قوى اليسار في الشرق العربي، الأمر الذي مهد السبيل أمام الديماجوجية القومية البورجوازية الصغيرة. وقد استمر هذا الوضع حتى حرب يونيو 1967.
استنتاجات:
تكشف الدراسة التاريخية الموضوعية عن عدد من الحقائق:
1- إن تجمع الفن والحرية الذي كان قائده، جورج حنين، وأغلب المنتمين إليه والمؤازرين له، مناهضين للستالينية، هو أول تجمع واسه للمثقفين اليساريين المصريين في هذا القرن.
2- إن هذا التجمع يرمز إلى ظاهرة ذات مغزى تاريخي: ظاهرة حلول المثقف الثوري محل المثقف الليبرالي.
3- إن التيار المناهض للستالينية تيار أساسي من تيارات الحركة اليسارية المصرية بين عامي 1938 – 1948.
4- إن وجود هذا التيار طوال تلك الفترة دليل على فشل الستالينية في فرض هيمنتها المطلقة على توجهات الإنتلجنتسيا اليسارية المصرية.
5- إن هذا التيار، خلافاً للتيار الستاليني المتحجر، كان منتفتحاً على مختلف تيارات الفكر الثوري.
6- إن هذا التيار كان التيار الوحيد – داخل الحركة اليسارية المصرية – الذي دعا إلى الثورة الاشتراكية سبيلاً إلى القضاء على تخلف المجتمع المصري.
7- إن المؤرخين الستالينيين وزملاءهم القوميين قد زوروا تاريخ التيار المناهض للستالينية لاعتبارات تتصل بالماضي وبالحاضر على حد سواء.
8- إن تاريخ هذا التيار لا يزال بحاجة إلى دراسة موضوعية مستفيضة، تستند إلى فهم عميق لمختلف المنطلقات التي شكلت ملامح هذا التيار. أما الاكتفاء بالحديث عن "تروتسكية" هذا التيار المزعومة فليس من شأنه أن يساعدنا كثيراً – كما رأينا – خاصة وأن كل من استخدموا هذا المصطلح من المؤرخين لم يوضحوا ما الذي يقصدونه به.
___________
تذييل (2 يوليو 2011): يجد القارئ تدقيقاً لهذا الجزء الأخير في المقال المنشور على هذه المدونة عن لطف الله سليمان، في باب المقالات والمداخلات:
http://mabda-alamal.blogspot.com/2010/06/blog-post.html
وللإطلاع على الخلاف العميق بين لطف الله سليمان وجورج حنين، أحيل القارئ إلى رسالة لطف الله سليمان إلى بولا حنين والتي سبق نشر ترجمة عربية لها على هذه المدونة، في باب الترجمات:
http://mabda-alamal.blogspot.com/2010/03/blog-post.html
0 التعليقات:
إرسال تعليق