في عدد مارس 1989 من مجلة "أدب ونقد" اتهمني الدكتور رفعت السعيد بـ "مهاجمة الماركسية بحجة مهاجمة الستالينية" وباتهامات أخرى تندرج، بطبيعة الحال، تحت هذا الاتهام الرئيسي.
"والجريمة" التي ارتكبتها تتلخص في أنني كنت قد ذكرت في مقال موجز لي في عدد فبراير 1989 من مجلة "أدب ونقد" أن محاولة أحمد صادق سعد (1919-1988) تقديم رؤية جديدة للتاريخ المصري تستند إلى أطروحة كارل ماركس (1818-1883) المعروفة عن النمط الآسيوي للإنتاج قد دلت على نفوره المتزايد من الأطروحة الستالينية عن مراحل التطور الخمس الضرورية وأن كتابات أحمد صادق سعد الأخيرة تشهد على التوتر الذي أخذ يتزايد احتداداً في تفكيره بين العقائد الستالينية الجامدة ونتائج البحث الماركسي الجديد في تاريخ وحاضر العالم الثالث، خاصة مصر والعالم الإسلامي.
هذه هي "الجريمة" التي ارتكبتها، إذ أن الدكتور رفعت السعيد يعتبر الأطروحة الخاصة بمراحل التطور الخمس أطروحةً ماركسية ولينينية وأنها تشكل جوهر المادية التاريخية، في حين أنني أعتبر هذه الأطروحة أطروحة ستالينية وأن جوهر المادية التاريخية يقع في مجال آخر غير مجال "مراحل" التطور، بصرف النظر عن عدد هذه "المراحل" !
والحال أن أطروحة مراحل التطور الخمس الضرورية تستبعد النمط الآسيوي للإنتاج الذي لم يستبعده لا ماركس ولا إنجلز (1820-1895) ولا لينين (1870-1924). ورغم أن إنجلز لا يشير إلى النمط الآسيوي للإنتاج في كتابه: "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة" (زيورخ، 1884) ، إلا أن لينين الذي استشهد في كتابه: "من هم أصدقاء الشعب وكيف يحاربون الاشتراكيين – الديموقراطيين؟" (1894) بإشارة ماركس إلى النمط الآسيوي للإنتاج قد اعتمد في كتابه المذكور نفسه على كتاب إنجلز، ورغم ذلك فإنه – كما يذكر الكاتب السوفييتي ن. ب. تير – آكوبيان – لم يعتبر كتاب إنجلز متعارضاً مع مخطط ماركس عن التشكيلات الاجتماعية – الاقتصادية! (1).
وعلى أية حال، فقد سخر ماركس نفسه في نوفمبر 1877 من محاولة ن. ك. ميخائيلوفسكي (1842 – 1904)، الشعبي الروسي، تصوير أطروحته عن مسار التطور الذي قاد إلى ظهور الرأسمالية في أوروبا الغربية على أنها أطروحة عن مراحل تطور جميع المجتمعات البشرية بوجه عام. والحال أن ي. ف. ستالين (1879-1953) قد تورط في مثل هذه المحاولة خلال الثلاثينيات (3). ولهذا السبب فقد سميت أطروحة "مراحل التطور الخمس الضرورية" أطروحة ستالينية وغير ماركسية، لأن الستالينيين قد عمموا هذه الأطروحة على مجمل التاريخ البشري العالمي واستبعدوا أطروحة ماركس عن النمط الآسيوي للإنتاج على مدار عقود لم تحدث خلالها مناقشة واحدة في صفوف أي حزب ستاليني بشأنها إلا بعد سنوات من رحيل ستالين ! (4).
ومن ناحية أخرى، فإن جوهر المادية التاريخية يقع في مجال آخر غير مجال مراحل التطور التي ميزت المسيرة التاريخية لهذا المجتمع المحدد أو ذاك. فهذا الجوهر يتمثل في الكشف عن التفاعل الجدلي بين العناصر الموضوعية والذاتية للتطور التاريخي للمجتمعات البشرية مع إيلاء الأولوية في عملية تحديد المسيرة التاريخية لعناصر موضوعية على رأسها تبدل أنماط الإنتاج والتبادل، وانقسام المجتمع – الناشئ عن ذلك – إلى طبقات متمايزة ونضالات هذه الطبقات الواحدة ضد الأخرى.
وأخيراً، فإن من حق الدكتور رفعت السعيد أن يختلف مع أحمد صادق سعد – ومع ماركس نفسه – في مشروعية تطبيق أطروحة النمط الآسيوي للإنتاج على التاريخ المصري، إلا أن ما ليس من حق الدكتور هو الإيحاء بأن هذه الأطروحة غير ماركسية أو معادية للماركسية، فالدكتور – باختصار – لا يمكن أن يكون ماركسياً أكثر من ماركس!!
الحواشي:
(1) ن. ب. تير – آكوبيان: "آراء ماركس وإنجلز حول النمط الآسيوي للإنتاج والمشترك القروي" في كتاب: "من تاريخ الماركسية والحركة العمالية الدولية" موسكو، 1973، ص ص 170 – 171، بالروسية.
(2) ك. ماركس و ف. إنجلز الأعمال الكاملة، المجلد 19، ص 120، بالروسية، أو ك. ماركس وف. إنجلز، المراسلات المختارة، موسكو، 1965، ص 313، بالإنجليزية.
(3) ج. ستالين، مسائل اللينينية، بكين، 1977، ص 877، بالفرنسية.
(4) حين وجد الدكتور رفعت السعيد نفسه عاجزاً عن إيراد استشهاد واحد من ماركس أو إنجلز أو لينين يفيد أن ماركس قد اعتبر "المراحل الخمس" ضرورية لتطور جميع المجتمعات، غرباً وشرقاً، شمالاً وجنوباً، لجأ إلى الاستشهاد بكاتب ستاليني من الدرجة العاشرة، متصوراً أن هذا الكاتب يعبر عن رأي جماعي موحد للمستشرقين السوفييت!.
والحال أن هناك ثلاثة اتجاهات في الاستشراق السوفييتي:
1- اتجاه ف. ن. نيكيفوروف ورفاقه الذين يرون أن الشرق قد مر بذات مراحل التطور التي مر بها الغرب الأوروبي؛
2- اتجاه ل. س. فاسيليف ورفاقه الذين يرفضون الأطروحة الستالينية عن مراحل التطور الخمس ويرون أن الشرق قد سلك في تطوره مساراً يختلف جذرياً – على مدار نحو ألفي سنة – عن مسار تطور الغرب الأوروبي، يتميز بسيادة النمط الآسيوي للإنتاج على ما عداه من أنماط؛
3- اتجاه ثالث يتخذ موقف التوفيق بين الاتجاهين السابقين.
ومن الناحية التاريخية، فإن اتجاه ف. ن. نيكيفوروف ورفاقه ليس غير امتداد لاتجاه الاستشراق الستاليني الذي يرجع إلى الثلاثينيات، أما الاتجاه الثاني فقد ظهر في أواسط الستينيات، بينما ظهر الاتجاه الثالث في أواخر الستينيات.
وللوقوف على معالم الاتجاه الأول، نحيل القارئ إلى كتاب ف. ن. نيكيفوروف: "الشرق والتاريخ العالمي"، موسكو، 1975، بالروسية.
وللوقوف على معالم الاتجاه الثاني، نحيل القارئ إلى مقال ل. س. فاسيليف: "العام والخاص في التطور التاريخي لبلدان الشرق" في مجلة (شعوب آسيا وأفر يقيا)، 1965، العدد رقم 6، بالروسية.
وللوقوف على معالم الاتجاه الثالث، نحيل القارئ إلى "مقدمة" و"خاتمة" كتاب: "تاريخ الهند في العصور الوسطى"، موسكو، 1968، بالروسية.
(5) يشير ن. ب. تير – آكوبيان في دراسته التي سلفت الإشارة إليها في الحاشية رقم (1) إلى أن ماركس وإنجلز "نظرا إلى المجتمع الشرقي (مصر والهند تحديداً) بوصفه شكلاً خاصاً من أشكال التنظيم الاجتماعي، يتميز عن الأشكال (أو المراحل) الأخرى لتطور المجتمع البشري" (ص181). وفيما يتعلق بمصر تحديداً، أشار الكاتب إلى مقال لماركس يرجع إلى يناير 1849، أي ما قبل عشر سنوات من طرح المصطلح.
وبهذه المناسبة ، أود أن أشير إلى أن أحمد صادق سعد كان قد حث كاتب هذه السطور، خلال حديث دار بينهما، على ترجمة دراسة ن. ب. تير – آكوبيان. ويبدو أنه قد آن الأوان لإنجاز هذه المهمة.
مجلة "أدب ونقد"، القاهرة، سبتمبر – أكتوبر 1989
0 التعليقات:
إرسال تعليق