أحمد صادق سعد
بادئ ذي بدء، أرجو من القارئ الكريم إعفائي من "الرد" على مهاترات وشتائم الدكتور رفعت السعيد التي أعاد شحذ نصالها في عدد أبريل 1989 من هذه المجلة.
والواقع أنني كنت قد قصدت من وراء نبرة ردي – الهادئة – على مقاله الذي نشره في عدد مارس 1989 أن تكون رسالة غير مباشرة إليه تدعوه إلى تجنب الانجرار إلى المهاترات والشتائم، خاصةً وأن المعارك الفكرية لا يمكن كسبها عن طريق مثل هذه الوسائل. ولكن يبدو أن رسالتي إلى الدكتور لم تصل، وأنا لا أملك سوى الأسف لذلك.
* * *
إجابة على تساؤلات:
يتساءل الدكتور رفعت السعيد: أين ومتى وكيف كان ستالين طرفاً في مناظرة حول أشكال ومراحل تطور التنظيم الاجتماعي؟
وجوابي على هذا التساؤل هو أن ستالين قد تحدث عن أشكال ومراحل تطور التنظيم الاجتماعي في كراسه الشهير:
"المادية الجدلية والمادية التاريخية" في عام 1938 والذي يشكل الجزء الثاني من الفصل الرابع من كتاب: "تاريخ الحزب الشيوعي السوفييتي/ البلاشفة". وفي هذا الكراس يحدد ستالين خمسة أنماط أساسية للتنظيم الاجتماعي ولا يشير إلى النمط الآسيوي للإنتاج(1).
أما المناظرة الستالينية ضد أطروحة ماركس عن النمط الآسيوي للإنتاج فقد بدأت على نطاق محدود في عام 1929 ثم اتسعت في عامي 1930 و1931. وكان أبرز فرسان هذه الحملة هم ج. دوبروفسكي و ي. يولك و م.جوديس. وقد اتهموا ماركس بقصور المعلومات وبعدم فهم النمط الإقطاعي للإنتاج (ج. دوبروفسكي) وبعدم فهم تعاليمه هو! (ي. يولك) ويمكن للدكتور الرجوع إلى كتاب ج. دوبروفسكي: "حول مسألة جوهر النمط الآسيوي للإنتاج"، موسكو، 1929، بالروسية، وإلى مداخلة ي. يولك المنشورة في كتاب: "مناقشة حول النمط الآسيوي للإنتاج"، موسكو- لينينجراد، 1931، بالروسية، وإلى مداخلة م. جوديس في هذا الكتاب الأخير. كما أن الباحث الاقتصادي السوفييتي الشهير ي. فارجا قد قدم عرضاً جيداً لهذه المناظرة في كتاب: "دراسات حول مشكلات الاقتصاد السياسي للرأسمالية"، موسكو، 1964، بالروسية. ونحيل الدكتور إلى الترجمة الإنجليزية لهذا الكتاب (ص ص 230-351)، والمنشورة في موسكو في عام 1968 تحت عنوان: "المشكلات السياسية – الاقتصادية للرأسمالية" (2).
ويتساءل الدكتور رفعت السعيد: ما هو المقصود بالقول بأن مراحل التطور الخمس (المشاعية البدائية – العبودية – الإقطاع – الرأسمالية – الشيوعية) مراحل "ضرورية"؟
وجوابي على هذه التساؤل هو أن المقصود بهذا القول هو أن المراحل الخمس مراحل لابد لأي مجتمع بشري من المرور بالمراحل الأربع الأولى منها كلها قبل أن يصل إلى المرحلة الشيوعية، وهو قول استنكره ماركس بشدة في عام 1877 (3)، كما أنه يتعارض مع الواقع التاريخي.
ويتساءل الدكتور رفعت السعيد: بأي حق سمح كاتب هذه السطور لنفسه تصنيف المستشرقين السوفييت إلى ثلاث مجموعات متمايزة في المناظرة حول مشكلات التطور التاريخي لبلدان الشرق وتحديد أسماء ممثلين بارزين لهذه المجموعات؟
وجوابي على هذا التساؤل هو أن هذا التصنيف وهذا التحديد ليسا من عندي – رغم أنهما من حقي ومن حق كل متابع للاستشراق السوفييتي في مصادره الاصلية! - بل هما من عند المستشرق السوفييتي ل. ب. آلايف والذي قام بهما في مقال يمكن للدكتور الرجوع إليه في مجلة "شعوب آسيا وأفريقيا" الروسية، العدد 4، عام 1977، ص ص 67 - 79!.
ويتساءل الدكتور رفعت السعيد أخيراً – وأعتذر للقارئ الكريم إذ أورد هذا التساؤل (!) وإذ أجيب عليه: إذا كان بشير السباعي يضع توراييف في الدرجة العاشرة، ففي أية درجة يضع بشير السباعي نفسه؟
وجوابي على هذا التساؤل هو أنني أضع نفسي في الدرجة التي يضع نفسه فيها أي إنسان عادي بسيط يحترم الحقيقة التاريخية ويدافع عنها في وجه أي مزور لها، حتى ولو كان هذا المزور عضواً في معهد الاستشراق!
المادية التاريخية:
يعلن الدكتور رفعت السعيد نقطتين يدعو إلى وجوب التوقف عندهما:
1- أن المادية التاريخية ركن أساسي من أركان الماركسية.
2- أن المادية التاريخية تقوم على أساس أطروحة مراحل التطور الخمس وأن هذه الأطروحة تشكل جوهر المادية التاريخية.
بالنسبة للنقطة الأولى، لا أدري بالتحديد ضد من يعلنها الدكتور، فأي ملم بالماركسية سواء كان ماركسياً أم لم يكن، لا يمكن أن ينكر هذه الحقيقة.
وبالنسبة للنقطة الثانية، يكرر الدكتور ما سبق أن قاله في عدد مارس 1989 من هذه المجلة وما سبق أن رددنا عليه في عدد أبريل 1989. وللمرة الثانية يعجز الدكتور، الذي يزعم أن ماركس وإنجلز ولينين يؤيدون هذا الزعم، عن إيراد استشهاد واحد من ماركس أو إنجلز أو لينين لتأييد زعمه، وبدلاً من ذلك، يحيلنا الدكتور إلى: السيد غليزرمان الذي لا تعلو درجته كثيراً عن درجة السيد توراييف!
وحسماً لهذه النقطة، أود أن ألفت انتباه الدكتور إلى أن ما ذكره كاتب هذه السطور في عدد أبريل 1989 من هذه المجلة عن جوهر المادية التاريخية لم يكن أكثر من إعادة طرح لما ذكره إنجلز عن هذا الموضوع في رسالته إلى ج. بلوخ بتاريخ 21-22 سبتمبر 1890 وفي مقدمته للطبعة الإنجليزية لكراس: "الاشتراكية: الطوباوية والعلمية"، الصادرة في عام 1892 – وأرجو من الدكتور ألا يتصور أنني كنت أزرع "لغماً" تروتسكياً في طريقه، فالرسالة والمقدمة مشهورتان إلى حدٍ بعيد!
نمط مستقل أم حالة خاصة لنمط آخر؟
يشير الدكتور رفعت السعيد إلى أن ماركس وإنجلز لم يعتبرا النمط الآسيوي للإنتاج نمطاً مستقلاً، ويحاول الإيحاء بأن ماركس وإنجلز كانا يعتبران هذا النمط حالة خاصة من حالات العبودية أوالإقطاع!
وعلاوة على أن الدكتور لا يثبت صحة هذه الإشارة ولا مشروعية هذا الإيحاء، فإنه عندما يورد جملة ماركس الشهيرة في مقدمة كتاب: "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" والتي يتحدث فيها ماركس عن أنماط إنتاج متميزة، يحذف عمداً إشارة ماركس إلى النمط الآسيوي للإنتاج والتي ترد قبل إشارة ماركس إلى الأنماط الأخرى: القديم والإقطاعي والبورجوازي الحديث!
وللاطلاع على تفنيد تفصيلي لمثل هذه الإشارة وهذا الإيحاء، نحيل القارئ إلى كتاب الباحث السوفييتي ي. فارجا الذي سبقت الإشارة إليه.
ابتكار:
ويستخدم الدكتور رفعت السعيد مصطلحاً جديداً من ابتكاره، هو مصطلح "التشكيلة الخماسية"!
وتعليقاً على هذا الابتكار، نُذَكِّرُ الدكتور بأن من الممكن الحديث عن "تشكيلات اجتماعية – اقتصادية" وعن مخطط لهذه التشكيلات، أما الحديث عن "تشكيلة خماسية" فهو لغز من الألغاز، لا أكثر ولا أقل!
"تأميم" أحمد صادق سعد لحساب "التروتسكية"!
يتصور الدكتور رفعت السعيد أن هناك مؤامرة لـ "تأميم" أحمد صادق سعد لحساب "التروتسكية". وهذا التصور لا يستند إلى أي أساس. فمعركة أحمد صادق سعد مع الستالينية معركة جزئية، وتبني أطروحة النمط الآسيوي للإنتاج ليس علامة فارقة من علامات "التروتسكية" التي يحلو للكثيرين عندنا الحديث عنها وإصدار أحكام بشأنها وبشأن علاقتها بالماركسية دون أن يكونوا قد اطلعوا على كتابات تروتسكي!
المسألة باختصار، هي أن "التروتسكية" تعتبر أطروحة النمط الآسيوي للإنتاج أطروحة ماركسية وأن البحث التاريخي هو وحده الذي يمكن أن يسمح بالتحقق من مدى صحة هذه الأطروحة وأن حذف هذه الأطروحة ليس غير تزييف لآراء ماركس عن أنماط الإنتاج وأن الستالينية قد تورطت في مثل هذا التزييف!
فما الذي يثير الدهشة في هذا الكلام؟!
وما هو "المنطق" الذي يجيز اعتبار هذا الكلام عداءً للماركسية أو دليلاً على الإنتقائية؟!
الحواشي:
(1) انظر، "تاريخ الحزب الشيوعي السوفييتي (البلاشفة)"، موسكو، 1943، ص 123، بالإنجليزية.
(2) يعتبر ي. فارجا (1879-1964) من أبرز الباحثين الاقتصاديين السوفييت، وهو من أصل مجري. وقد عارض جوانب من الستالينية خلال أواخر الأربعينيات، الأمر الذي قاد إلى التنكيل به. ولم يجر رد الاعتبار إليه إلا بعد موت ستالين.
(3) انظر، رسالة ماركس إلى هيئة تحرير مجلة "المذكرات الوطنية" الروسية، والمنشورة في ك. ماركس و ف. إنجلز: "المراسلات المختارة"، موسكو، 1965، ص ص 311-313، بالإنجليزية. وفي هذه الرسالة المهمة، يسخر ماركس من ميخائيلوفسكي على النحو التالي: "إنه يشعر أنه يجب عليه وجوباً مطلقاً أن يمسخ مخططي التاريخي لأصل الرأسمالية في أوروبا الغربية وأن يحوله إلى نظرية تاريخية – فلسفية عن الطريق العام الذي كتب على كل شعب أن يسلكه، أيًا كانت الظروف التاريخية التي يجد نفسه فيها، حتى يتسنى له أن يصل في نهاية الأمر إلى شكل الاقتصاد الذي يكفل أكمل تطور للإنسان، إلى جانب أكبر اتساع للقوى الإنتاجية للعمل الاجتماعي. لكنني أطلب عفوه"، وقد وصف ماركس مثل هذه النظرية التاريخية – الفلسفية بأنها "مفارقة للتاريخ"!
ومن الواضح أن كلام ماركس هذا يتعارض على طول الخط مع مخطط المراحل الخمس الضرورية الذي عرضه ستالين في كراس "المادية الجدلية والمادية التاريخية" والذي خلق مشاكل عسيرة للمؤرخين السوفييت الذين استسلموا لاستئصال ستالين أطروحة ماركس عن النمط الآسيوي للإنتاج وأخذوا يجهدون أنفسهم في البحث عن تعاقب المراحل الأربع الأولى في تاريخ كل شعب وفي محاولة اكتشاف عبودية أو إقطاع في تاريخ شعوب لم تعرف قط عبودية أو إقطاعاً، الأمر الذي قاد إلى تزييف تاريخ شعوب بأكملها وإلى تخلف الدراسات التاريخية السوفييتية على مدار عقود. ولم يكن هذا التزييف وهذا التخلف غير نتيجة منطقية للانطلاق من "نظرية تاريخية – فلسفية عن الطريق العام الذي كتب على كل شعب أن يسلكه".
مجلة "أدب ونقد"، القاهرة، سبتمبر – أكتوبر 1989
(ملحق)
(رسالة إلى رئيس تحرير مجلة "مجلة أدب ونقد")
السيدة / فريدة النقاش، رئيس تحرير مجلة "أدب ونقد"
تحية صافية
إذا كان من الواضح أننا ليس لدينا اعتراض على قراركم بوقف النقاش الذي بدأه الدكتور رفعت السعيد ضدنا – ذلك النقاش الذي لم نفرضه أصلاً بل فرضه الدكتور علينا دون أن ينجح في إثرائه (1) – فلابد أنه من الواضح أيضاً أن ذلك لا يعني التخلي عن حقنا في الرد على المزاعم والافتراءات التي وجهها الدكتور ضدنا في رسالته إليكم والمنشورة في عدد نوفمبر 1989 والتي لا دخل لها بموضوع النقاش الذي بدأه.
فأولاً، يتهمنا الدكتور بأننا نعتقد دون أية رغبة في التسامح أننا نمتلك ناصية الحقيقة المطلقة، وهو اعتقاد لا ندري مبرراته، خاصة وأننا كنا قد طالبناه بأن يؤكد مزاعمه التي ينسب فيها مخطط المراحل الخمس إلى ماركس ولينين ولو بإيراد استشهاد واحد فقط من ماركس أو من لينين، وهو ما يعني أننا قد أبدينا استعدادنا سلفاً للتخلي عن تصوراتنا في هذا الصدد إذا ما جاء الدكتور بمثل هذا الاستشهاد، وهو ما عجز عنه في جميع مداخلاته، بينما أوردنا نحن استشهاداً واضحاً من ماركس يؤكد زيف زعمه!
وثانياً، يزعم الدكتور أن اتهامنا له بالستالينية – ما يسميه باستخدام "أوصاف غير مبررة"! – في الموضوع المثار – ليس له ما يبرره. ونحن لا ندري كيف يكون هذا الاتهام غير مبرر في الوقت الذي لم يبرر فيه الدكتور كيف تختلف الفكرة التي يدافع عنها عن الفكرة التي دافع عنها ستالين (1879-1953) في كراس "المادية الجدلية والمادية التاريخية"، والتي لم يوافق عليها ماركس أو لينين. ومن الواضح أن تنصل الدكتور – اللفظي والمتأخر – من الستالينية – في هذا الوقت بالذات – ليس غير مظهر من مظاهر الرعب أمام انهيار الستالينية المدوي الذي يشاهده العالم بأسره الآن! (2)
وثالثاً، يزعم الدكتور أن ردنا الأخير عليه كان حافلاً بمجموعة من الاقتباسات كلها بالروسية، في حين أن الرد المذكور، رغم إشارته إلى مراجع روسية، لم يورد غير اقتباس واحد من رسالة ماركس إلى هيئة تحرير مجلة "المذكرات الوطنية"، أشرنا إلى مصدره في ترجمته الإنجليزية وأوردناه مترجماً إلى العربية في الهامش!
وأخيراً يتهمنا الدكتور – من الناحية الفعلية – بالاحتيال إذ نشير إلى مراجع روسية، فهو يذكر أنه يعتقد أننا – مثله – لا نعرف الروسية، وذلك دون أن يورد مبررًا واحدًا لهذا "الاعتقاد"! ومن الواضح أننا إذ نثير هذه النقطة لا نهدف إلى تذكير أحد بترجماتنا لعدد من الدراسات الاستشراقية الروسية والتي أشارت مجلة "أدب ونقد" بالفعل إلى إحداها في صدر عدد فبراير 1989، فما نهدف إليه هو مجرد الإشارة إلى أن موضوعات هذه الدراسات كلها تندرج ضمن إطار الموضوعات التي يزعم الدكتور الاهتمام بها!
بشير السباعي
27-11-1989
(1) الواقع إننا إزاء عجز الدكتور البين عن إثراء المناقشة كنا قد بادرنا بإبلاغ السيد سكرتير تحرير المجلة – بعد نشر ردنا الأخير – أننا نكتفي بما قلناه!
(2) ومن هول الصدمة، يبدو أن الدكتور فقد توازنه تماماً، فهو يتحدث في رسالته عن "التروتسكية"، مؤكدًا – جادًا لا مازحًا! – أنها قد أصبحت الآن "مرفوضة أكثر من ذي قبل"! وذلك دون أن يوضح لأحد صلة هذا "الاعتقاد" (!) بموضوع المناقشة!
[ لم تشأ "أدب ونقد" نشر هذه الرسالة ونشرت، بدلاً من ذلك، كلاماً فارغاً تحت عنوان "توضيح من بشير السباعي"، وكأن توضيحي الوارد بالرسالة المنشورة أعلاه ليس واضحاً ! ]
0 التعليقات:
إرسال تعليق