باجرات سيرانيان
ترجمه عن الروسية بشير السباعي
عشية الحرب العالمية الثانية، بدأت الجمعيات والجماعات القومية الإسلامية من النوع الشمولي – الاستبدادي تلعب دوراً هاماً ومتزايداً باطراد في الساحة السياسية المصرية. وفي فترة فرض ديكتاتورية أوساط السراي وبفضل دعم قادتها على وجه التحديد نالت هذه القوى حق المواطنة في الحياة الاجتماعية للبلاد.
وكانت جماعة علي ماهر، التي يدعمها الملك، ذات دائرة ضيقة جداً من الأنصار. وقد رأى ماهر في المنظمات القومية الإسلامية تلك القوة التي يمكن أن تكفل له دعماً جماهيرياً أكبر، وكان أول رئيس وزراء مصري يقدر عن جدارة دورها ومكانها في الحياة الاجتماعية للبلاد، وروحها الإسلامية الكفاحية، وقدرتها على التأثير على الجماهير الشعبية.
إلا أنه من الخطأ تفسير سبب ظهور الجماعات الإسلامية – القومية بمجرد الدوافع الذاتية الخالصة. فتحول المنظمات الاستبدادية – الإسلامية إلى قوة يحسب حسابها قد نشأ عن مجموعة كاملة من العوامل الاجتماعية – الاقتصادية والسياسية.
إن ثمار تطور مصر الاقتصادي في العشرينيات والثلاثينيات قد جناها بشكل رئيسي الأوروبيون والمشارقة، الذين كانوا يسيطرون على الاقتصاد. أما المعدلات العالية نسبياً للتحضر فلم يواكبها تحسن ملحوظ في الوضع الاقتصادي لشغيلة المدن، مما ولد السخط العميق على الطبقات السائدة. كما أن عدم فعالية الديموقراطية البرلمانية من النمط الغربي، والتي فرضت على مصر، كان له أهمية غير قليلة. فالنظام الحزبي – البرلماني الغربي في شكله الكاريكاتوري، الذي وجد به في مصر، كان من البداية جسماً غريباً فيها.
كما نشأت عن الأزمة العميقة للنظام الحزبي – البرلماني خيبة أمل قوية لدى الجماهير الشعبية تجاه الأحزاب السياسية، خاصة حزب الوفد.
لقد انغمس الوفد وأحزاب "الأقلية" في صراع أناني وحقير على المقاعد البرلمانية والمناصب الوزارية، وعلى الامتيازات والفوائد الاقتصادية، وعجزت بصورة مطلقة عن حل المهمات القومية الرئيسية. فنشأت وما انفكت تتسع هوة تفصل الأحزاب السياسية عن الطبقات الكادحة وأخذت تشغل الفراغ السياسي الناشيء جماعات إسلامية – قومية، وبعد بضع سنوات - جنباً إلى جنب معها – جماعات ماركسية وشيوعية ومنظمات ديموقراطية يسارية أخرى.
ولم يكن هناك مفر من سقوط البرلمانية الغربية. وجنباً إلى جنب مع إفلاس قوميي "الحرس القديم"، الذين كانوا يجسدون الاتجاه الغربي في القومية المصرية، فقدت مذاهبهم أيضاً أهميتها.
وفي أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات انتعش في مصر الاهتمام بالإسلام، خاصة فيما يتعلق بتطبيق مبادئه في حل المسائل السياسية الملحة. ومن المعروف أن التيار الإسلامي في القومية المصرية لم ينقطع قط (جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا)، على أن أنصار الغرب قد سيطروا في الحياة السياسية حتى 1936 – 1937. إن السعي إلى إعادة النظر في القومية المصرية الخالصة وإلى توسيعها (ذاتياً) في نزعة قومية عربية قد دفع أيديولوجيي التوحيد العربي إلى التوجه إلى عقيدة الإسلام، وإلى تقاليده الثقافية (مع إعطاء أهمية خاصة للغة العربية)، أي إلى كل ما من شأنه تأكيد وتعزيز أفكارهم. لكن ذلك وحده لم يكن كافياً. إن تبدد الآمال المعلقة على معاهدة 1936 قد أدى إلى نمو سريع للميول المعادية للغرب في مصر، وعزز النضال ضد النفوذ الأوروبي في كل مجالات الحياة الاجتماعية. ويشير هيوارث - ديون إلى أن "الجماعات الإسلامية قد تميزت بميل إلى التغلغل والنجاح في تلك البلدان التي توجد فيها ميول قوية معادية للغرب".
والحال أن أزمة الديموقراطية البورجوازية والاتجاه الغربي المواكب لها في القومية المصرية قد ساعدت على النمو السريع للجماعات الإسلامية، التي مثلت التيار المعادي للغرب والتوحيدي الإسلامي والتوحيدي العربي في القومية المصرية.
* * *
ومن بين كل المنظمات القومية الإسلامية كان النفوذ الأوسع من نصيب جمعية الإخوان المسلمين، التي تأسست في أبريل 1929 على يد الشيخ المدرس حسن البنا في الإسماعيلية.
وقد اهتمت الجمعية في المرحلة الأولى (1929 – 1936) بالنشاط الديني والخيري أساساً. وفي عام 1934 انتقل مركز الجمعية إلى القاهرة. وبحلول عام 1936، كانت قد تحولت إلى منظمة سياسية – دينية قوية.
وقد أجاد البنا استغلال التوترات التي حدثت في فلسطين، والتي تحولت فيما بعد إلى انتفاضة من جانب العرب الفلسطينيين في 1937 – 1939، من أجل تدعيم المنظمة. فقد نظمت الجمعية حملة تضامن إسلامي واسعة معادية للبريطانيين ودفاعاً عن العرب الفلسطينيين. ومن خلال فروعها في مختلف أجزاء البلاد قامت بجمع التبرعات من أجل العرب الفلسطينيين ولقي نشاط الجمعية وقائدها تقديراً حماسياً من جانب مفتي القدس القوي الحاج أمين الحسيني، الذي أقام معه البنا صلات وثيقة ومتميزة بالثقة.
ومنذ ذلك الحين (وحتى عام 1940) توافرت ظروف مناسبة جداً للنمو التالي للمنظمة. واجتذب البنا انتباه على ماهر وعبد الرحمن عزام. وقد عملا بكل الوسائل على اجتذاب الإخوان المسلمين إدراكاً منهما للإمكانيات الضخمة التي تحتويها منظمة إسلامية كفاحية جيدة التنظيم في ظروف مصر. وتشهد المعطيات التالية على النمو الملحوظ للجمعية: فإذا كانت فروعها في عام 1934 قد وصلت إلى 50 فرعاً في مختلف أجزاء البلاد، فإن عددها وصل في عام 1939 إلى 500 فرع.
وفي عام 1937، كانت الجمعية قد تميزت بصورة ملحوظة من بين الجماعات الإسلامية – القومية الأخرى المنافسة لها وكسبت الصدارة بينها: لقد تحولت إلى منظمة جماهيرية ذات هيكل راسخ ومستقر، وعلى رأسها زعيم بارز. وبفضل الصلات الوثيقة بين علي ماهر والبلاط، حصل البنا منهما على مساعدة مالية وتمتع بحماية البوليس. وكانت له صلات مع صالح حرب وعبد الرحمن عزام وعزيز المصري الذين كانوا يريدون استخدام كل التجمعات الإسلامية – القومية، خاصة "الإخوان المسلمين" في تحقيق مآربهم.
وفي سنوات الحرب العالمية الثانية تسنى للمنظمة، بفضل سياسة مرنة بصورة غير عادية، ليس فقط صون صفوفها، بل وتوسيعها وتعزيزها بصورة ملحوظة. إن "الإخوان المسلمين"، شأنهم في ذلك شأن المنظمات والجماعات الإسلامية الأخرى، قد عبَّروا بشكل سافر عن تعاطفاتهم المؤيدة للنازيين وتنبأوا بهزيمة سريعة لبريطانيا العظمى.
وكان البنا يدرس دائماً بعناية طابع كل وزارة جديدة. فلو كانت تقف على رأسها شخصية قوية، كانت الموضوعات الدينية تهيمن في بياناته، أما إذا كان رئيس الوزراء شخصاً ضعيفاً ومهزوزاً، تميزت خُطبه بطابع سياسي أساساً. وقد قامت الجمعية بحملة سياسية حادة بوجه خاص في فترة حكم وزارة سري (نوفمبر 1940 – فبراير 1942). وقد طالب "الإخوان المسلمون" بعودة علي ماهر وزملائه إلى السلطة.
وفي منتصف مايو 1941، بناء على الأحكام العرفية، تم احتجاز زعيمي الجمعية – البنا وأحمد السكري، جنباً إلى جنب مع مجموعة من الشخصيات "الخطرة" من الناحية السياسية. إلا أن السلطات اضطرت إلى الإفراج عنهما في غضون بضعة أيام تحت ضغط قوي من جانب الإخوان المسلمين والمنظمات المتعاونة معهم. ونقل البنا إلى العمل في صعيد مصر. على أنه سرعان ما أدت موجة احتجاجات جديدة إلى إرغام الحكومة على التخلي عن هذا القرار أيضاً. وقد تحولت عودة "المرشد العام" إلى القاهرة إلى استقبال مهيب، مما شهد على الشعبية المتزايدة للجمعية ولزعيمها.
وبعد انتهاء الأزمة السياسية الحادة في فبراير 1942 ووصول الوفديين إلى الحكم جرى شن حملة كبيرة للقضاء على ما سمي بـ "الطابور الخامس" المصري. على أن الجمعية و"المرشد العام" لها لم يمسهما شيء هذه المرة أيضاً. وقد ارتاح النحاس إلى تعهد البنا بأنه سوف يؤيد سياسة الوفد. وقد ارتأى زعيم الوفديين إحباط "دسائس السراي ضده" بمساعدة الإخوان المسلمين، إلى جانب استخدامهم كثقل مضاد للحركة الديموقراطية العامة والعمالية المتنامية. وحسب تعبير هاريس، فإن الجمعية قد طبقت سياسة "تأييد سلبي للوفد". وقد تمسك البنا بتاكتيك انتظاري، آملاً في أوقات أفضل. وكان تعاونه مع النحاس بحكم طابعه "هدنة، أكثر من كونه إنهاء للحرب".
وبعد خروج وزارة النحاس من الحكم (8 أكتوبر 1944)، سارع قادة الجمعية إلى تحويل توجههم. فقد بدلوا موقفهم من الوفد ودخلوا في تحالف مع كتلة السعديين والأحرار الدستوريين وانضموا إلى جوقة الإدانة العامة لسياسة النحاس وحزبه. ولم يتمزق هذا التحالف حتى بعد الحادث الذي خيم بشكل ثقيل على علاقاتهم، عندما اغتيل أحمد ماهر، رئيس الوزراء، في فبراير 1945. لقد قبض على "المرشد العام" والأمين العام لـ "الإخوان المسلمين" بتهمة التواطؤ، إلا أنه سرعان ما تم الإفراج عنهما.
ولم يستغل حزب "الكتاب الأسود" الذي أصدره مكرم عبيد، بالدرجة التي استغلته بها الجمعية، من أجل التشهير بالوفد، وقد اندرجت الحملة المناوئة للوفد، والتي شنها الإخوان المسلمون، في مخطط تقويض النظام الحزبي بوجه عام.
* * *
من حيث هيكلها التنظيمي، كانت الجمعية تشبه، من ناحية، الأحزاب الاستبدادية – الشمولية المعاصرة ذات المركزية الصارمة والدور الخاص للزعيم، مع شبكة كبيرة من الشُّعَب المحلية تحت قيادة قادة معينين من المركز، ومع تنظيم كتائب شبه عسكرية، وفصائل جوالة، وأندية رياضية وما إلى ذلك، ومن ناحية أخرى، كانت تشبه الفرق الإسلامية السرية والشيع الإصلاحية مع وجوب انصياع كل أعضاء المنظمة لعقيدة دينية محددة والتمييز الصارم بين الأعضاء "السريين" و"غير السريين"، والتصوف، وعناصر من النزعة المهدية، وما إلى ذلك.
وكان المرشد العام يقود المنظمة بمعاونة مكتب إرشاد عام مؤلف من 11 شخصاً، وكان المكتب يحل المسائل الأكثر أهمية باسم المرشد العام. أما المستوى التالي فقد مثلته الهيئة التأسيسية، المؤلفة من 150 شخصاً. وكان مكتب الإرشاد العام يُنتخب كل سنة من جانب الهيئة التأسيسية، أما المرشد العام فكان يُنتخب بدوره لمدة سنتين من جانب مكتب الإرشاد العام وكان المرشد العام هو العضو الثاني عشر والقيادي فيه، وكان يتعين الحصول على إقرار الهيئة التأسيسية لاختياره. إلا أنه يجب ملاحظة أن الهيكل الموصوف لم يتحدد بصورة نهائية إلا بعد موت البنا. ففي حياة مؤسس الجمعية لم يكن مكتب الإرشاد العام يُنتخب من الناحية العملية، بل كان يُعيَّن من جانب المرشد العام، الأمر الذي جعل سلطة الزعيم حاسمة.
وكانت تلي ذلك عشرة مكاتب إدارية: مكتب للقاهرة، ومكتب للإسكندرية، وأربعة مكاتب للوجه البحري، وأربعة مكاتب للصعيد. وكانت تخضع للمكاتب الإدارية فروع الجمعية في المناطق، التي كانت تخضع لها بدورها الشُّعَب الأساسية.
وكان مكتب الإرشاد العام هو الذي يعين قادة المكاتب الإدارية وفروع المناطق والشُّعب. وكان يتعين على كل شعبة أن تلتزم التزاماً صارماً بالتعليمات الصادرة من أعلى.
وقد لعبت الأمانة دوراً هاماً في الهيكل التنظيمي للجمعية، وكان مكتب الإرشاد العام يتبعها مباشرة. وكانت الأمانة تقدم التقارير عن نشاط فروع المناطق والشُّعب المحلية وتسيطر على عملها.
* * *
لقد ظهرت إيديولوجية "الإخوان المسلمين" كاحتجاج على تسلط الأجانب ونفوذ الغرب المتزايد في شتى مجالات الحياة المصرية، وعلى تحديث الإسلام، وكانت المهمة الرئيسية بالنسبة إليها تتمثل في صون، وحماية، وتنقية الإسلام والمجتمع الإسلامي من التأثير الأجنبي.
وفي رسالته إلى رؤساء الدول الإسلامية (بمن فيهم ملك مصر)، والموجهة إليهم في خريف 1936، صاغ البنا لأول مرة عقيدة الجمعية بهذه الدرجة أو تلك من الاكتمال. لقد وجه في هذه الوثيقة نقداً بالغ الحدة لكل الحضارة الغربية وسعى إلى إظهار تفوق الإسلام عليها. وأعلن المرشد العام أن سبب الوضع التعس للبلدان الإسلامية وجميع عللها الاجتماعية هو السيطرة الأجنبية ورغبة أوروبا المسيحية في أن تفرض عليها حضارتها وثقافتها. وفي رأي البنا، ليست الحضارة الغربية، بل و"طريقة التفكير الغربية" نفسها، غير جسم غريب بالنسبة للعالم الإسلامي، ولذا فإن طريق الإسلام يجب إيثاره على "طريق" الحضارة الغربية "المنحط"، وكذلك "القومية الإقليمية" العلمانية (التي تعتبر هي أيضاً نتيجة لتأثير الغرب). فالإسلام "قادر" تماماً "على تلبية حاجات الأمة، المبادرة باتخاذ خطوة واسعة إلى الأمام"؛ والقرآن وحده هو الذي يمكن أن يصبح تلك الوسيلة القادرة على "إنقاذ العالم المضطهد والعليل".
وقد أكد البنا أن الفكر الاجتماعي – السياسي والفلسفي المعاصر لا يستطيع إشباع حاجات المسلمين، لأنه قد صيغ في الإسلام قبل قرونٍ عديدة (وبشكل أيسر وأسهل) كل ما تدعو إليه أكثر تيارات الحاضر الاجتماعية تبايناً (الشيوعية، الاشتراكية، الرأسمالية، الفاشية، إلخ)، بحيث أن المسلم "يملك كل هذا بل وأكثر".
وكان المرشد العام يحب الإشارة إلى شمولية الإسلام، الذي يستوعب بصورة مطلقة كل جوانب النشاط الإنساني. و"هو لهذا يعتبر عقيدة وعبادة، ووطناً وواجب مواطنة، وديناً ودولة، وتديناً وأخلاقاً، وقرآناً وسيفاً".
وقد أشار البنا دائماً إلى أن "جمعية الإخوان المسلمين ليست حركة سياسية، ولا طريقة صوفية، ولا جمعية خيرية، ولا نادياً رياضياً، ولا مؤسسة تجارية، بل جمعية إسلامية، مهمتها – تربية الجيل الجديد بالصورة التي تجعله قادراً على فهم الإسلام الحقيقي .. إن الإخوان المسلمين عقيدة وأمة".
وقد تمثلت إحدى السمات المميزة الرئيسية للجمعية في استخدامها للإسلام في أغراض سياسية. ومن الناحية النظرية، كان الإخوان المسلمون يفسرون ذلك على النحو التالي: بما أن الإسلام يستوعب كل أشكال النشاط الإنساني، فالسياسة تعتبر جزءاً لا يتجزأ من نظرية وبرنامج الجمعية.
لقد كانت عقيدة الجماعة وهيكلها التنظيمي موجهان بالكامل نحو فرض الهيمنة الكاملة للدين على الدولة وذوبانها في الإسلام. وقد رأى البنا أن إحياء مجد الإسلام وعظمته الغابرة لا يمكن تحقيقه إلا عن طريق العودة إلى أصوله وبعث نقاء تعاليمه وأخلاقه وصرامتها التطهرية. ولكونه حنبلياً متشدداً (شأنه في ذلك شأن مؤسس الوهابية)، فقد أعلن أن المصادر الوحيدة لعقيدته هي القرآن والسنة والسيرة، ودعا إلى التمسك بحروف القرآن والسنة. ومن أجل هذا يلزم قبل كل شيء القضاء على "طريقة التفكير الغربية" وتنقية الإيمان الديني والممارسة الدينية بشكل شديد الحزم من البدع الغربية الفاسدة. وقد دعا إلى إضفاء الروح الإسلامية على جهاز الدولة، أي نشر روح الإسلام بين الموظفين الحكوميين. كما أنه يجب تكييف القانون والقضاء مع الشريعة.
وكان المرشد العام ناقداً شديد الحدة للنظام الحزبي، حيث يعتبره أحد أسباب الوضع التعس للبلاد. (بل إنه قد ابتدع مصطلحاً خاصاً هو "وطنية الأحزاب"، التي اعتبرها من المحرمات). وقد أشار إلى أن وجود الأحزاب السياسية يتعارض مع الطابع التوحيدي للإسلام وينتهك مبادئ القرآن، الذي يوصي المؤمنين بالتعاون وبأن يكونوا إخوة.
وبهذا الشكل، فإن مجمل روح مذهب الجمعية كان موجهاً نحو القضاء على شكل الحكم الدستوري الذي كان قائماً آنذاك.
وقد رأى البنا أن من اللازم تماماً إنشاء جيش قوي، لأن "يقظة الأمة" تتوقف على مثل هذا الجيش، ويجب لهذا الجيش أن يتألف من أناس فتيان وأصحاء (جسماً وروحاً) مفعمين بفكرة الجهاد الإسلامية. وقد دعا المرشد العام إلى تطهير الأخلاق الاجتماعية من التأثير الغربي "الوبيل" وتحريم المشروبات الكحولية، والعقاقير المخدرة، والدعارة، والقضاء على الخيانة الزوجية، وإغلاق الأندية الليلية، وصالات القمار والرقص، وفرض الرقابة على العروض المسرحية، والأفلام والبرامج الإذاعية، والأغاني والمحاضرات، والصحف، وطالب بتطبيق العقاب على كل أولئك الذين لا يراعون المُحَرَّمات، وكذلك الصوم والصلاة.
وكان برنامج "الإخوان المسلمين" الاجتماعي – الاقتصادي منسجماً مع نفسه بما يكفي ومفهوماً من الجماهير، مما كان أحد أسباب نجاحات الجمعية. وقد شغلت مكاناً واسعاً فيه بيانات عن تنمية الصناعة القومية، وإحلال السلع المصرية محل السلع الأجنبية، وتحسين شبكة الخدمات الصحية، ورفع مستوى معيشة الفلاحين والعمال، وتقديم العون للعمال في رفع ثقافتهم وتأهيلهم وما إلى ذلك. أما فيما يتعلق بمصائر البنوك والشركات والمشروعات الأجنبية، فإن برنامج الجمعية في هذه المسألة لا يصمد للنقد حتى من زاوية عقيدتها الخاصة. ولم يعلن إلا في صيغة عامة للغاية سوى أن الشعب يجب حمايته من الشركات الاحتكارية أو أن المشروعات الأجنبية يجب أن تخدم بصورة رئيسية المصالح القومية للبلاد. ويترتب على ذلك أن البنا كان مؤيداً للإبقاء على المشروعات الأجنبية في مصر، مما لا يتماشى مع الروح العامة لعقيدته ومما يشهد على صلاته مع الطبقة الحاكمة. وفي مقابل ذلك، فإنه قد وجه انتباهاً كثيراً إلى شجب "الأرباح، المأخوذة على شكل فائدة على رأس المال"، ووصف ذلك بأنه ربا.
وسعياً إلى اجتذاب تعاطف الجماهير الشعبية، كان المرشد العام يطرح أحياناً مطالب "ثوروية". وهكذا، ففي أوائل عام 1948، نشر وثيقة، قال فيها أن الثروة يجب أن لا تكون حكراً لطبقة واحدة، حيث أن ذلك يتعارض مع مبادئ الإسلام، وقد أشار إلى أن الإسلام يقف ضد نظام "الإقطاع الرأسمالي" الحالي، الذي يسمح بحق غير محدود في الملكية، كما يقف ضد "الشيوعية الملحدة "التي" تملك الدولة كل الأرض" في ظلها. وقد أشار إلى أن الحل الصحيح للمسألة يوجد في منتصف الطريق بين الرأسمالية والشيوعية: إذ يجب أن يملك كل فلاح تلك المساحة من الأرض التي يمكنه فلاحتها بنفسه، أما الفائض من الأرض فيجب توزيعه بصورة مجانية على الفلاحين المعدمين. وقد وجد كلام البنا هذا صدىً واسعاً في البلاد بحيث أن المفتي رأى أن يصدر فتوى خاصة دافع فيها، بوصفه ممثلاً للطبقات السائدة، عن النظام الرأسمالي وخاصةً شرعية النظام القائم لملكية الأرض. وفي هذه المسألة ظهرت بشكل واضح وجهتا نظر متعارضتان في المسألة الزراعية في مصر.
أما إلى أي مدى سعت الجمعية بإخلاص إلى حل المسألة الزراعية لمصلحة الفلاحين، فذلك ما تبينه حقيقة أنه بعد أربع سنوات ونصف طالب زعيم آخر للإخوان المسلمين، هو حسن الهضيبي، بجعل الحد الأقصى لملكية الأرض.. خمسمائة فدان. وقد دل هذا الموقف الذي لم يكن عرضياً بالمرة على أن قيادة الجمعية قد تطورت في اتجاه اليمين ومالت بشكلٍ مُطَّرِد مع الرجعية المصرية.
ومثل هذا الانعدام للانسجام لم يكن يزعج قيادة الجمعية: ذلك أن كل المسلمين، حسب رأي البنا، إخوة، بصرف النظر عن الانتماء الطبقي والقومي. وبناء على ذلك أيضاً فإن الموقف من ملاك المشروعات المسلمين، من ناحية، ومن ملاك المشروعات المسيحيين واليهود، من ناحية أخرى، كان متعارضاً بصورة جذرية. فقد أيدت الجمعية كبار ملاك الأرض والرأسماليين، متى كانوا مسلمين. وهكذا، فإن الإخوان المسلمين قد اتخذوا موقفاً يتميز بالتعاطف تجاه واحد من أغنى الناس في مصر، هو أحمد عبود، صاحب مصانع السكر الكبرى، وتجاه الحاج محمد سالم، الصناعي الكبير، لمجرد أنهما مسلمين.
وقد اجتمعت القومية المصرية لدى الإخوان المسلمين مع نزعة الجامعة العربية. فقد رأوا أن العالم العربي قد جزأته الدول الإمبريالية بصورة مصطنعة. وفي نهاية الأمر، أكد البنا، بوصفه تلميذاً حقيقياً لجمال الدين الأفغاني، الإيديولوجي الأول لنزعة الجامعة الإسلامية، أن كل المسلمين يجب أن يتحدوا، وذلك لتعزيز العالم الإسلامي ولإعادته إلى عظمته السابقة، بتحصينه من "تغلغل المادية".
وقد تحولت نزعة الجامعة العربية ونزعة الجامعة الإسلامية لدى البنا إلى مذهب شديد الرجعية والعنصرية والضرر عن طابع سياسي وديني استثنائي للعرب وللمسلمين، الذين منحهم القدر حق قيادة العالم، والذين "اختارهم الله للنهوض بالبشرية وللسيادة على العالم".
وقد رأى الإخوان المسلمون هدفهم النهائي والرئيسي في بعث خلافة العصر الوسيط، التي سوف تنظم كل جوانب حياتها وفق عقيدة الجمعية وبرامجها.
وكان شعار الإخوان المسلمين هو: "الله غايتنا، والرسول زعيمنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا". وتؤكد الجملتان الأخيرتان جنباً إلى جنب مع رمز الجمعية (وهو يصور القرآن بين سيفين) الروح الكفاحية لـ "الإخوان المسلمين". وقد كتب البنا يقول: "إن القوة هي خير ضمانة للحق، وهي فريضة، شأنها في ذلك شأن الصلاة والصوم". وقد اعترفت الجمعية باستخدام أساليب النضال العنيفة (بما في ذلك الأعمال الإرهابية أيضاً) كأحد السبل الرئيسية لتحقيق برنامجها.
* * *
وقد جزأت الدعاية الإسلامية للجمعية صفوف الطبقة العاملة إلى مسلمين ومسيحيين، موسعة بذلك الانقسام القائم بين فئة غير كبيرة من العمال الماهرين (المسيحيين في غالبيتهم)، أي الفصيل القيادي داخل الطبقة العاملة، وجمهور العمال غير الماهرين أو الذين يتميزون بدرجة تأهيل غير عالية (المسلمين بصورة رئيسية). وهكذا، فكلما كان يثار موضوع بدء إضراب، كان الإخوان المسلمون يؤيدون الإضرابات في المشروعات التي يملكها غير المسلمين فقط، أما إذا كان مالك المشروع مسلماً، فقد كانت الجمعية تسارع إلى إقناع العمال (بمساعدة كاسري الإضراب) بأن الدين يحرم الإضرابات.
ولا غرو في أن هيوارث – ديون، وهو يدافع عن آراء إمبريالية، قد رأى أن القوة الوحيدة، القادرة على أن تمثل حاجزاً ضد الأفكار الشيوعية، إنما تتمثل في عقيدة الجمعية، وقد برر ذلك بأن الإخوان المسلمين قد تحركوا بشكل أكثر نجاحاً بين صفوف القوى الاجتماعية، التي تعتبر مهيأة بصورة قصوى لتقبل الأفكار الشيوعية.
والواقع أن نشاط الجمعيات والجماعات الإسلامية قد أعاق عملية توحيد الطبقة العاملة وفق المبدأ النقابي والطبقي.
* * *
وقد تمثلت نقطة قوة "الإخوان المسلمين" في أن شعاراتهم، المصاغة في صيغ دينية مفهومة، قد داعبت مشاعر الجماهير الشعبية، وكان المحرضون المنتمون إلى الجمعية يجيدون إلى حد بعيد فن الدعاية في المساجد، وكانوا يجدون بسهولة خاصة أنصاراً بين صفوف العناصر المتدينة والمحافظة. وفي الفترة الأولى، فترة الإسماعيلية، كان أعضاء الجمعية من العمال غير الماهرين، والفلاحين الفقراء، وجزء صغير من الموظفين والمدرسين ذوي الرواتب المنخفضة، وكذلك من الأشخاص العاملين في مجال الخدمات الخاصة. وكان المستوى المعيشي لهم جميعاً منخفضاً للغاية، وكانوا ورعين وذوي مستوى تعليمي محدود. وبعد انتقال مركز الجمعية إلى القاهرة، أخذ عدد أعضائها يتزايد بسرعة، وانضم إلى الجمعية كثيرون من طلاب الأزهر، ثم بعض طلاب المعاهد الدراسية المتوسطة والعالية الأخرى، كما تزايد عدد الموظفين، والمدرسين، والعمال (غير الماهرين أساساً)، والتجار الصغار والمتوسطين، والحرفيين.
وقد اجتذبت الجمعية إلى صفوفها عدداً صغيراً من الضباط وكثيرين من الجنود، كما اجتذبت عدداً كبيراً نسبياً من الفلاحين. أما ممثلو الطبقات السائدة فلم ينضموا إلى الجمعية واتخذوا منها موقف الحذر لكنهم لم يكونوا معارضين لاستخدامها في صالحهم. وقد تمكن الإخوان المسلمون من أن يجتذبوا إلى صفوفهم بعض الوفديين، وكذلك عدداً هاماً من أكثر أعضاء جمعية الشبان المسلمين و"مصر الفتاة" و"السبكية" والجماعات الإسلامية الأخرى نشاطاً وقدرة.
وقد عبرت الجمعية عن ميول الجماعات الأكثر تخلفاً ورجعية بين صفوف الفئات البورجوازية الصغيرة. وقد تعاونت قيادتها في مراحل مختلفة مع ممثلي الطبقات السائدة، ولم يتعارض نشاطها في أغلب الأحوال مع مصالح الرجعية المصرية، وإن كان قد وجد بين صفوف الإخوان المسلمين عدد غير صغير من الوطنيين الصادقين.
ومنذ عشية الحرب العالمية الثانية ظهر اتجاه واضح إلى دخول قيادة "الإخوان المسلمين" معسكر الرجعية. أما ثورية الجمعية المظهرية ونداءاتها الديماجوجية فقد جعلت منها واحدة من أخطر القوى وأكثرها ضرراً، ذلك أنها قد حرفت الجماهير الشعبية عن الحركة الثورية والديموقراطية الحقيقية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق