لامبررات الوجود
عدم التدخل
المستشاريات تفيض بجثث رائعة
تنبجس من أعظم تمزقات إسبانيا
كم يتشابه كل هؤلاء الموتى الجدد
كم حوى موتهم كل ماهو جدير بالحياة
لم يتوافر قط
مثل هذاالقدر من اللحم
للخطب والملفات والتقارير
دمعة من هنا وأخرى من هناك
لم يحدث قط أن سقط مثل هذا القدر من الضحايا
والضمير معدوم إلى هذا الحد
انظروا المدن فقدت شرايينها شرياناً بعد شريان
والقرى فتكت بها قُرَحٌ شرهة
والطرق ما عادت تُسلم
إلاَّ لسواد رعب مماثل
حيث لا يستطيع أحد أن يميز سماء من أرض
لأنه لم يبق في المكان غير بعد واحد
هو بعد القتل
انظروا الضربات القاصمة
تستقر في جوف الشعب
والملاك الجدد للشاطئ الأزرق
يخلقون في اللحم – الهبة العظيمة للأحياء –
مساحات من العذاب كل يوم
الديبلوماسيون لحسن الحظ هناك
جدلهم ما عاد يزدهر إلاَّ فوق الحطام
فوق حداد مدريد وبرشلونة
العاصمتين المشدوفتين
أيتها الأحياء التي خرجت من ليل الحديد ناراً
فلتواصل صفاراتك الحادة صراخها
حتى تصاب بالصمم آذان الزمن
أيها الحطام الذي لا يغتفر
يتحدثون عنك في وزارات الخارجية
عن نقالات الجرحى والتوابيت والمقابر
أيها الناس أيتها الحجارة عزاء
يا خرائب إسبانيا لن تكوني الأخيرة
هكذا تقرر أن يكون المصير
ثم لا تيأسوا من الآخرة
فها هي ذي تتقدم نحوكم
خيانات غيبية مبجلة
ساحة لمن استولوا على باداخوث
ساحة لمن ابتدعوا عذاب الجلجثة
إنهم سوف يقدمونكم قرباناً لخلودهم
سيرتبون لكم طقوس رحيلكم
على هيئة طوربيدات
حتى تكون في النار راحتكم الأبدية!
ترجمة
أنور كامل وبشير السباعي
معنى الحياة
"لا معنى لوجه يشبه جميع الوجوه"
ج. جويس "عوليس"
في اللحظة التي يوشك المرء فيها أن يباغت شيئاً ما – أن يقترب من الإجابات الشفافة العظيمة – أن يتمكن من إبطال الأصوات المتعادلة في نفسه – أن ينتصر على قانون ثقل الروح – أن يمعن في الاغتراب – أن يكبر من جميع الوجوه – أن يراوغ القدر – في اللحظة التي يوشك فيها أن يكون ذلك كله قريب الحدوث – يصطدم المرء بعتامة حائط – هذا الغريب نحييه مع ذلك – تتهيأ للشرح نحو أية ثروات مجردة تدفعك سرعة داخلية غامضة – دون جدوى – كل كلام عند خروجه من فمك تقطع رقبته مقصلة حائط جديد – يأتي من بعيد جداً – يسقط من عال جداً – بيننا وبين الاكتشافات الشاغرة التي لن يعرف أحد عنها شيئاً – امبراطورية الحوائط لا تنتهي – الويل لمن يساومها على وجبة الطوب والجبس المستحقة لها – إنها بعد نعاس طويل تنشر في وضح النهار أشباحاً لا تطاق – تنفث الاضطرابات في اضطراب الجماعات – من قال حائط فقد قال سُمك – وفي نهاية الحساب يدرك المرء أن كل شيئ يجري وفقاً لسُمك معين – في البداية يكون المرء واحداً – بلا سُمك تماماً – مهملاً تماماً – خَرْيَِة ضئيلة وحيدة – ثم يصبح خَرْيَتَيْن – أمام القانون أو من ورائه – وهكذا فوراً يصير أكبر سُمكاً – الناس الآن تريد أن تنظر إليك باهتمام واحترام – إنهم يراقبونك لكي يروا ما إذا كنت لن تنمو أكثر – ما إذا كنت لن تكون أشد إزحاماً – فما تقضي به قوانين الطبيعة – ووصايا الأخلاق – هو أن تملأ مكانك تحت الشمس – أن تسهم في السُمك الجمعي – الأسرة تمثل سُمكاً مهماً بما فيه الكفاية – يستحق التشجيع – من الصعب تخطيه – واثقاً من حقه في الوضع النظامي – تبقى بعد ذلك طوابق أعلى للتخطي – على القمة تتربع الدولة – الدولة تكتب التاريخ – مسألة خطوط بسيطة – ومن حين إلى حين تعبئ الدولة مجموع خدمها – لكي تتحقق من درجة سُمك الأمة – لكي تُذِلَّ السُمك المنافس للأمم المجاورة – وعندما يُستهلك كثير من السُمك – يبدأون من جديد في بناء الحوائط – وفي الحياة كحوائط – بالضجر نفسه – بالجمود نفسه – مع وجود الحوائط المعادية – مع مصير سميك عقيم مليء بالحوائط.
ترجمة أنور كامل وبشير السباعي
قصة غارة
الممر المرشوق بالمسامير يفضي إلى قلب الصحراء. أحاذي إذاً طريقاً خالياً من الدم موشحاً بإعلانات صغيرة. لا شيء غير سيدات بين أعمار لا بأس بها يتقن إلى المحبة البريئة. بعيداً يتنزه ببراءة دخان متموج. أستوقف حاجباً ينبئني. هناك يجلس الراعي الذي يعقد زيجات المصلحة. يشتغل على فحم الكوك. يبدو من جهة أخرى أنهم سوف يعينون راعياً جديداً تماماً. راعياً جديداً لن يعقد قراناً بعد الآن إلاَّ على المازوت.
بعد بضع ساعات من السير وحيداً ألمح فجأة سيقان نساء يخرجن من ميدان شفاه رحيب ويلوحن مودعات بالوشاحات، أو بالنوارس أو بالثلوج. موسيقاهن تشبه الخرق الذي تحدثه في الطبل المحموم صرخة قطار سريع يغيب في نفق يعرف تماماً أنه لن يخرج منه.
أسأل حيواناً أليفاً – أخطبوطاً في الغالب – يتشمم المشهد بمسحة مرتابة. يقول لي هذا الحيوان: "ما تظنه نساء ليس في الواقع غير خطوط زوال طولية والإنسان الذي يحيينه بهذه الطريقة ليس سوى الحريق. الحريق يزور في هذه اللحظة كل المنطقة على متن مُطفئه الخاص. السكان الأصليون يحسبون أن شرفاً عظيماً أسدي إليهم لأن الحريق يسافر في الغالب متنكراً".
الحيوان الأليف الذي أوحيت إليه بشيء من التعاطف يستطرد: "لاحظ أن بين خطوط الزوال والشفاه سوء تفاهم كبير. كل قرن تحدث بينهما منازعات لا تنتهي. الجيران يفقدون فيها الحياة والحلم. تلك فضيحة يا سيدي، فضيحة خالصة، ومن المستحيل، مع ذلك، فهم دوافع هذه المنازعات. إنهم يصرحون فقط – وأنا أبلغك الرواية الرسمية للأحداث... إنك في نهاية الأمر لست سوى أجنبي – بأن خطوط الزوال تترصد بشكل خاص أسرة من الشفاه تكرر لها دون توقف قسماً لا يتبدل: "أقسم لكِ بأنني لم أخدعكِ قط... أقسم لكِ بأنني لم أخدعكِ قط" وهكذا دواليك. إذا كانت خطوط الزوال تهلل للحريق بهذه الطريقة فذلك لأنه يحرق كل التظلمات التي تقدمها له الشفاه. أنا أعتقد أنه قد آن الأوان لطرد خطوط الزوال هذه بإرسالها، مثلاً، لمغازلة أدوات الجراحة التي يحزنها أن تموت وحيدة في علبتها".
قبل أن تنام خطوط الزوال تؤدي صلاتها وترسم في رماد الفضاء إشارات سيمافور مديدة في عشق الأفق. الإشارات تمكث طويلاً بعد مولدها بلا حركة ثم تحلق بأجنحة من رصاص صيد الطيور ولا تلبث أن تحط على جنبات الكثبان حيث تزدهر صفوف من الكوى المتآلفة تضيء بنورٍ ثابتٍ محطةً محفورةً في قلب الماس.
الأخطبوط يشرح لي، وقد اتضح بشكل قاطع أنه أخطبوط: " هذه المحطة لا تفيد في شيء على الإطلاق. لا في القيام ولا في الوصول. ولا في أي شيء. بل إنها لا تؤكل. لهذا يحترمها الجميع " .
القضبان سواعد عذارى، من اللحم المشغول، تُهَدْهَدُ على رصة السكة، شبيهة بأطفال متعَبين مسهدين لا يجرؤ أي قطار على سحقهم.
ناظر المحطة قط سيامي يحمله على الأكتاف مقعد من الزمرد. ناظر المحطة لا يتعجل. إنه لا يبالي. ربما لأنه على موعد مع المستقبل. العلم في بلُّورة عينيه.
ترجمة أنور كامل وبشير السباعي
انتحارٌ مؤقت
إلى "المنتحر" أنجيلو دي ريز
في أعماق الأدراج الزرقاء
التي رحلت مفاتيحها صوب الأقفال المتوحشة
وتاهت خطاباتها في سوق الاعترافات
في أعماق الأدراج الملونة بلون التلميذة
بين سيجارة ذابلة وصفعتين
يرجع تاريخهما إلى الفضيحة الأخيرة
يحدث أحياناً أن تلتقط
شفاه مرة
تتلو كلمات قريبة
تهبط كالحصى
منحدر الصوت
شفاه نادرة مختصرة
تنفتح لتدع جاسوساً يمر
متخفياً في فرقة عازفة
لا أعرف بعد أية سمفونية
تتشبث بطوق من اللهيب
والآن تقف النافذة
بلا عمر ولا نور
شقيقة الشفاه المهيبة
منها تدخل الأعصاب الهائجة
متلبسة بأيدٍ بشرية
تقطع رؤوس النساء
بعد الحب
على مائدة ما
شيء يبتسم خلال كل نعاس العالم
إنه وجه
لا يُلمح أبداً
لا يُنسى أبداً
وجه يؤرجحه
ثلجُ الذكرى الذي لا ينتهي
ترجمة مجلة "التطور" (فبراير 1940)
آفاق
إلى أندريه بروتون
لم لا نصادف على قنطرة تنتصب فجأة بين كارثتين امرأة ذات عينين خفاقتين تخبرانك باسمها فيبدو أجمل من شفا هاوية مكسوة بغلالات سوداء؟
لم لا نجسم على مسرح الأفق المقفر دائماً غروبات مهيبة لشعور متعددة الألوان؟
لم لا لا نُجَسِّمُ غروباتٍ مهيبة لشعورٍ ذات فروجٍ راديوميةٍ تتحد بالمناظر الطبيعية وتشعلها عند كل عناق وتبقى وحدها في ألقٍ مُدَوِّخ؟
لم لا ننقذ بضربة واحدة حشد المرايا المرشوقة على فراش الأرض؟
لم لا نجعل الحياة أهلاً للسكنى؟
لم لا نهرب من المقاعد المألوفة والمصائر المعيشة بما يكفي؟
لم لا نُبعد الجفون عن الطرق الملعونة ونختفي في الليل الأكثر غموضاً حاملين بأقصى سرعة جثة لمجهولة مزق أوصالها حلمٌ يحتدمُ دون خطرٍ من يقظة؟
ترجمة بشير السباعي وأنور كامل
في مستوى الغياب
أكداس من منتصفات الليالي ذابلة في عينيك
وبرك من خمر مُرَوَّعة
يردها أشقياء منكسرون
ينكشفون متلبسين باقتراف البراءة
والذاكرة نفسها بين كابوسين
في منتصفات لياليك أرغنات حامية
تطيل دموعها الشمعية
الأصابع المحمومة لأغنية
تخنق الاستصراخات المبحوحة للحيوانات الضالة
واحدة فواحدة
على جبين حياتك
كل الغضون المهينة للشباب
والتوقيع الذي تطبعه شفتاك
أسفل صفحة من الخمر
يحوي كل ضروب الحكايات الحقيقية
الجالسة على فراش طريق يكاد يكون مقفراً
لا تزال تطوف به جلجلات ضحك صاخبة
وغربانٌ ضخمةٌ تَبَرَّأَتْ منها سماؤها
في صوتك أكداس وداع
وحين تنكسين رأسك
لكي تسعلي ما شئت
يبدو كما لو كنت تحفظين الموت عن ظهر قلب
وحين ترحلين للِّحاق بصمتك الأثير
يخلو المكان كله مما ليس أنت
ويتركنا وحدنا مع غيابك الخصب أبداً
الخصب كإعلان انتحار
أو كالوجه الآخر لمحيط.
ترجمة بشير السباعي وأنور كامل
بورتريه كامل التلمساني
ها أنت ذا أيها السحاب الأسود على استعداد أبداً لأن تنصهر على المواكب الأخلاقية المتجهة صوب الحساب الأخير أو ما لا أدري أي خبز عبثي يومي...
أسمع كلامك المنقض على صلابة المدن مع تأوه شجرة تستمتع باستئصال نفسها بنفسها.
أنت ذاتك الشهاب المجعد ينتزع كل أصحاب عائد المغامرة من بطء هضمهم ويقلب بحركة طائشة المناظر الطبيعية التي يتمدد فيها البشر الراضون بالوجود.
تعرف كإنسان كيف تهتك أسرار العاهرات غير المباحة وكيف تعيد إلى وجه النهار عيونهن الفاحشة المدفونة منذ زمن بعيد.
تعرف كيف تجعل من هذه الغنائم المنتزعة من باطن اليأس بصائر طريق عظيم مسددة ضد أرواح الجنتلمانات.
تحب الفُرُشَ الذابلة مرة وإلى الأبد – أسرة نقض الحب والشرفات الليلية التي تنطلق منها تجديفاتك النقية لتطارد السماء.
مأثرتك السامية ستكون تلك الغارة الكبرى بين أحضانها يتآخى قطاع الطرق والعسكر في العالم كله متحدين أخيراً ضد العالم كله.
أيها السحاب الأسود الجميل أرى فيك لقاءً غير مأمول بين نهاية العالم والأحداث التافهة.
فلا تنطفئن أيها السحاب الأكثر صفاء من حريق!
ترجمة بشير السباعي وأنور كامل
سان لوي بلوز
الشمس تتأهب للسقوط مثل حجر جسيم بالغ النضوج. الحجر الذي أضناه سفر طويل يسأل النهر أن يستضيفه فيجيب : " أدخل – أنت هنا بدارك " .
يتوقف الفلاحون لمشاهدة المنظر. أحدهم يتمتم: أود لو اجتزت هذا الشيء لأن من المؤكد أن على الجانب الآخر امرأة من المدينة سوف أحبها.
ويضيف الفلاح الذي لم ير حلياً قط:
امرأة من المدينة سوف أحبها بسبب الحلي التي تلبسها.
يحدق الآخرون في وجبة النهر اليومية. ينفتح النهر نهرين كما لو كان ليسمح بمرور غرق كبير.
أما الطرق فتستنشق النسيم الوفير لصديقها الليل.
فلاح جديد يحاول عد النجوم.
عبثاً يحاول لأنه لا يعرف العد فوق العشرة
يظن أنه عندما يكبر بما يكفي سوف يتوصل إلى جرد السماء.
لكنه يخشى أن تنقص النجوم في تلك الأثناء. أن ترحل واحدة فواحدة.
أن تتركه وحيداً مع الليل الحقيقي.
صوت امرأة المدينة يتسرب الآن من الأفق كله. يطوق السهل كله.
إنهم جميعاً يسمعونه، ومعهم، قرون وقرون من الترقب الصامت.
إنها تقول إن بها رغبة جامحة في لقاء جديد مع نهرها.
إنها تنوي أن تحكي له كماً من الأسرار الخرافية التي لا يعرفها لا الراعي ولا الصيدلي.
إنها تود أن تشرح له حكاية السوارات التي تحرق ساعديها.
والسهاد المحتدم الذي يفرغ عينيها ولن يبرحها إلاَّ بالرغبة في قتل بعض العشاق العاجزين عن الإحاطة بشيء غير جسدها.
والحنين المر إلى شموس طفولتها. والحاجة إلى الرحيل زمناً أطول، ومسافة أبعد – وشراب الجن في الروح – صوب العواصم المتوحشة للوحدة.
يمد الفلاحون أكفهم صوب هذا الكلام.
كل منهم يحلم بالاستيلاء على كلمة سوف يكتم سرها مرغماً مدَّة طويلة.
لكن الكلام يهرب كالخفافيش.
إنه يعود إلى المدينة حيث تغني هذه المرأة أغنية رحيل بلا نهاية.
ترجمة بشير السباعي وأنور كامل
0 التعليقات:
إرسال تعليق