[ الفن بوصفهِ أسلوب حياة ]
الفن في نظرنا لا يتألف من صور أو من أشكال منحوتة – فهو يمثل ما هو أكثر من ذلك بكثير، يمثل شيئاً آخر تماماً. فوراء جميع الترجمات الممكنة للحياة، جميع الأشكال المؤقتة أوالأبدية للشعور، جميع الحالات والإدراكات، يمثل أسلوب حياة، موقفاً هو في آنٍ واحد حيوي وشعوري وواع. فالشيء المهم بالدرجة الأولى عند الإنسان هو نوع من الأناقة الأخلاقية المعنوية يصبح الفن بالنسبة له انطلاقاً منها متاحاً بقدر ما يكون هو نفسه قد اجتاز عتبته. والحال أن هذه الأناقة الأخلاقية المعنوية التي يؤكد الفرد بها نفسه في وجه قوى الفساد والإذلال، هي التي تجد نفسها في اللحظة الحاضرة معرضةً للشجب من جانب بعض نظم الحكم العازمة على اختزال الروح إلى أكثر الأوضاع بؤساً. وهذا البؤس الروحي الذي لا سابق له لا يتماشى إلاَّ بشكل بالغ مع البؤس المادي الذي ينزل بشعوب برمتها محرومة من اللبن والزبد لكنها متخمةٌ بالمدافع. فما الذي يجري الآن هو تجريد الذكاء من جميع حقوقه؛ وحرمان الإنسان من امتلاك زمام مصيره. وأولئك الذين يهاجمون بحماقة لوحات رينوار أو كوكوشكا لا يمارسون ضراوتهم ضد أسلوبٍ في الرسم بل ضد أسلوبٍ في فهم الحياة وفي إفهام الناس لها. لم يعد من حق أحد أن يحلم بصوتٍ مرتفع لأن الحلم قد يعني لدى الفنان ( وهو يعني بشكلٍ عام ) إرادة التحرر من واقعٍ يتزايدُ غربة، إرادة تغيير الوطن إلى الأبد. وفي مرحلة العزلة الثقافية التي أصبحنا فيها في العالم، يجري النهي عن استيراد الحلم لاعتباراتٍ كبرى تتصل بالانضباط الاجتماعي. ومن شاجال البعيد إلى سلفادور دالي، فإن كل نصيب الحلم في الرسم الحديث محكومٌ عليه بالموت... ونحن نعتقد أن هناك مجالاً للرد على هذا التدجين القذر للفن. نحن نعتقد أن هناك مجالاً لكي نحقق بأسرع ما يمكن اتحاد الكُتاب والفنانين حول رجال وأعمال تبدو غير قابلة للتوظيف لحساب مجتمعات بالية. وهذه الأعمال وهؤلاء الرجال موجودون. وهم موجودون بشكلٍ واسع بحيث إنه في بلدانٍ عديدة ليس لإداراتٍ بأكملها من وظيفة سوى أن تحاصرهم وتحشد ضدهم، بالتناوب، الصمت والافتراء والإرهاب. إنهم ليسوا موجودين وحسب، بل إنهم يظلون في عالمٍ مسكونٍ بالأشباح الدموية، الكائنات الوحيدة الحية حياةً كاملة.
وإنها لواحدةٌ من أقوى مفارقات الزمن الحاضر أن يتعين علينا المطالبة بالحرية الفنية، أي بشيءٍ يوجد إجماعٌ على اعتباره طبيعياً إن لم يكن مقدساً. وهي مفارقةٌ يمكن توضيحها بسهولة مع ذلك لأنه بهذه الحرية نفسها يملك الفن إمكانية أن يكون مصدر خطر على مجتمع محدد. لأنه يستخدم هذه الحرية نفسها بالضرورة استخداماً ناقداً أكثر بقدر ما أن النظم الاجتماعية أقل استعداداً للتسامح معه.
1939
ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي
[ الصورة المقفلة والصورة المفتوحة ]
حتى يتسنى لنا، كما يشدد على ذلك رامبو، أن نكون في المقدمة، حتى يتسنى لنا أن نستعيد من هناك في آنٍ واحد ما له صورة وما ليست له صورة، يجب بشكلٍ واضحٍ وفي المقام الأول أن نتخلى عن كل ما يتعارض، في الأطر القديمة للشعر وللتعبير الشعري، بل ولأسلوب عمل الذهن، مع هذا السير نحو المجهول، مع هذا التجاوز لعالم تم تبويبه وتدجينه بحسب قواعد مقررة. وإذا كانت أشياء كثيرة قد بدت من قبل غير قابلة للتعبير عنها، أفلا يرجع ذلك ببساطة إلى أن الحاجات التي جرى اكتشافها فجأة والتي يتطلبها الحلم ومخيلة أصبحت منذ ذلك الحين فصاعداً حية بالنسبة لنفسها، بحيث أصبح العنان مطلقاً لكل شيء، قد فرضت تداعيات جديدة لصور توسَّع إحداها الأخرى على مدى البصر، لصور مفتوحة، لصورٍ نوافذ؟
هنا، من حقكم أن تتساءلوا: ما هو المقصود بـ "الصور المفتوحة" و"الصور المقفلة"؟ إن من شأن عدد من الأمثلة السريعة أن يسهم في إيقافنا على هذا الأمر.
كنموذج للصور المقفلة، أقدم خاتمة هذا المقطع الشعري من لامارتين:
المساءُ يعيد الصمت
جالساً على هذه الصخور المهجورة،
أجد نفسي في موجة الفضاء
مركبة الليل التي تتقدم
فما الذي تقدمه لنا هذه الصورة: "مركبة الليل التي تتقدم"؟ لا شيء سوى ما هو مُجازٌ ومعترفٌ به بالفعل. زحف الظلمات الرهيب على الأرض، حيث المركبة، في الشفرة الشعرية، هي الأداة التي ترتبط بشكلٍ عاديٍّ تماماً مع فكرة المهابة. لكن ذلك لا ينشئ أية علاقة جديدة بيننا وبين الليل. والحق أننا لسنا بإزاء صورة بقدر ما أننا بإزاء تذكير. وهو تذكير ملون بإشارة جد عمومية لا يتوجب بعدُ أن يوجد مجال للعودة إليها. وهذه الصورة تنتقل على جانب من جوانب الليل تم اكتسابه وتقريره منذ زمن بعيد. وهو مقرر إلى حد بعيد بحيث إننا لا نجد مجرد إغراء في إعادة التفكير فيه، مع الشاعر، حيث لا يمكننا أن ننتظر – لا نحن ولا الليل – شيئاً من وراء ممارسة طقسية تجري تأديتها تحت ضغط مبرراتٍ عتيقة للنظر، لا شك أن مراعاتها لا طائل من ورائها.
وفي هذه الحالة المحددة، تتقدم مركبة الليل ما شاءت أن تتقدم، بلا طائل، أمَّا الشعر فإنه يتراجع إلى الوراء، يتراجع بشكلٍ لا علاج له.
لننظر الآن في فلاح باريس، حيث تنتشر في باقاتٍ من الكريستال العبقرية الشعرية لأراجون الذي نحبه، والذي لم تكن قد أفسدته بعدُ تقلبات حياته وزوجته وحزبه. فما الذي نقرأه هناك؟ "على مدار عامٍ كامل، شددتُ بنواجذي على شعور من السرخس. عرفت شعوراً من الراتنج وشعوراً من الزبرجد، وشعوراً من الهستريا. شقراء كالهستريا، شقراء كالسماء، شقراء كالتعب، شقراء كالقبلة... كم هو أشقر صخب المطر، كم هو أشقر غناء المرايا! من عطر القفازات إلى صرخة البومة، من دقة قلب القاتل إلى لهب – زهرة شجرات السنط، من اللدغة إلى الأغنية، ما أكثر الشقرات، ما أكثر الجنون... ."
هاكم إذاً، أليس الأمر كذلك؟ ، موجة من الصور المفتوحة، المفتوحة على ما لا نهاية له من العلاقات الجديدة – بين الكائن وأكثر ما يهمه في المرأة، في الطبيعة، في الحب. إن كل صورة من هذه الصور إنما تستقر في وجداناتكم وتمارس فعلها فيها. وخبرة المرء الشخصية، بقدر ما لا يكون المرء جثةً بالفعل، سرعان ما تتخذ مظهراً جديداً من جراء ذلك. ثم إنها بدورها، تحوز فرصاً لإنماء، أي لإثراء الرؤية الأولى التي تدين لها بزخمها. والحال أن أراجون هذا نفسه هو الذي يفصح لنا، في صفحةٍ أخرى من فلاح باريس هذا نفسه، عن فضيلة الصورة المفتوحة التي، إذ تصل إلى أقصى انفتاحٍ لها، تصبح الصورة السريالية: "إن الرذيلة المسماة بالسريالية هي عبارة عن الاستخدام الخارج عن الأعراف والمتقد العاطفة للصورة المدهشة، أو بالأحرى للاستفزاز المنفلت للصورة لأجله في حد ذاته ولأجل ما يستتبعه في مجال تمثيل الانقلابات التي يصعب التنبؤ بها والتحولات الغريبة: لأن كل صورة، في كل لحظة، إنما ترغمكم على مواجهة الكون برمته."
1945
ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي
0 التعليقات:
إرسال تعليق