إنزو ترافيرسو
ترجمة : بشير السباعي
منذ خمسين سنة، مات رجلان محوريان من رجال الثقافة والفكر الماركسيين في هذا القرن، تفصل مصرع أولهما عن مصرع الآخر بضعة أسابيع : ليون تروتسكي، وفالتر بنيامين. فالأول، المنفي في المكسيك، قتل تحت ضربات معول عميل ستاليني، أما الثاني فقد انتحر في بورت – بو، على الحدود الأسبانية، خوفاً من تسليمه للنازيين الذين احتلو فرنسا، منفاه بعد 1933. وليست هناك أية مصادفة في هذه الذكرى. فتروتسكي، ضحية الستالينية، وبنيامين، ضحية الفاشية، قد جسدا – على مستويين مختلفين – النضال من أجل اليوتوبيا المشاعية وسط عالم بسبيله إلى الانحدار صوب الكارثة، وهذا هو السبب في أن موتهما يبدو بالنسبة لنا مشحوناً بمثل هذه القيمة الرمزية القوية.
وللوهلة الأولى، قد يبدو هذا التشابه غريباً. فما الذي يجمع بين قائد ثورة أكتوبر وناقد أدبي ألماني غير شهير، عازف بشكل حاسم عن كل شكل من أشكال الحياة الكفاحية السياسية؟ إنهما لم يلتقيا قط خلال حياتهما ولم يربط أحد، في عام 1940، بين موتهما. وبينما تردد خبر اغتيال القائد الأول للجيش الأحمر على أسماع الدنيا، مر موت بنيامين دون أن يلحظه أحد، بل ودون أن يلحظه أصدقاؤه الأكثر قرباً إليه والذين لم يعلموا به إلا بعد وقت كثير من حدوثه. لكن بوسعنا القول أن الرجلين كانا ماركسيين. وإن كان من المؤكد أن بنيامين لم يكتب قط عملاً من أعمال التحليل الاجتماعي والسياسي كـ "الثورة المغدورة"، كما أن تروتسكي لم يكتب نصاً مفعماً بالخلاصية وبالدين كـ "موضوعات حول فلسفة التاريخ". على أن المرء قد يضيف أن الرجلين كانا يهوديين، ولكن ما الذي يجمع بين الفلاحين اليهود في قرية أوكرانية وأسرة إسرائيلية ربها تاجر تحف برليني؟ إن هذا العنصر لم يكن مميزاً إلاَّ بالنسبة للسلطات النازية، التي أعربت عن مقتها لـ "اليهودي – البولشفي" تروتسكي واضطهدت بنيامين، المتهم بكونه يهودياً وماركسياً في آن واحد.
إن أصولهما، تكوينهما الثقافي، خبراتهما السياسية، باختصار، حياتيهما، كانتا مختلفتين اختلافاً عميقاً. على أن بالإمكان رصد بعض التوافقات المهمة في مسيرتهما الثقافية و، بشكلٍ أعم، في فكرهما السياسي. إن اسم بنيامين لا يظهر ولو مرة واحدة في كتابات تروتسكي، ونحن لا نعرف ما إذا كان الثوري الروسي المنفي قد أتيحت له الفرصة من حينٍ لآخر للاطلاع على الصفحات الأدبية لمجلة "فرانكفورتر تسايتونج"، وفي المقابل، فإننا نعرف أن بنيامين قد قرأ بانتباه عدة مؤلفات لتروتسكي وتأثر بها تأثراً قوياً. ففي عام 1926، قرأ " إلى أين تمضي بريطانيا العظمى؟"، وفي العام التالي، في مقال مكرس لـ "الأدب الروسي الجديد"، استشهد بإعجاب كبير بنقد "البروليت كولت" (دعوة الثقافة البروليتارية)، الذي طوره تروتسكي في كتاب "الأدب والثورة"، وهو نقد يتوافق من نواحٍ عديدة مع نقده. وقد تقاسما الرأي الذي يذهب إلى أن مهمة الثورة لا تتمثل في خلق "ثقافة بروليتارية" جديدة، بل تتمثل بالأحرى في السماح للمستغلين باستيعاب الثقافة المراكمة عبر التاريخ، على مدار ماضٍ يتميز بعلامة السيطرة الطبقية (ومن ثم، بهذا المعنى، ثقافة بورجوازية). وقد أشادا، في شبابهما، بالتراث الأدبي الكلاسيكي، حيث كرس بنيامين دراسات نقدية ممتازة لجوته بينما كرس تروتسكي دراسات نقدية ممتازة لتولستوي. وفيما بعد، تقاسما اهتماماً مشتركاً بالفرويدية وبالطليعة الفنية والأدبية، خاصة السوريالية. وفي بيانه الشهير من أجل فن ثوري حر، والذي كتبه في المكسيك بالاشتراك مع أندريه بريتون، أدخل تروتسكي فقرة تؤكد بقوة على مبدأ الحرية الكاملة في الإبداع الفني: "إباحة كل شيء في الفن". ويذكر ذلك إلى حد ما بالملاحظات التي قدمها بنيامين في عام 1929 بشأن السوريالية، فهي حركة وجد فيها "مفهوماً جذرياً للحرية" يبدو أن أوروبا قد فقدته بعد باكونين.
وفي رسالة كتبها في ربيع 1932 إلى جريتيل أدورنو، كتب، بشأن سيرة تروتسكي الذاتية وكتابه "تاريخ الثورة الروسية"، أنه لم يتمثل شيئاً "منذ سنوات بمثل هذا التوتر وبمثل هذا الانبهار للأنفاس". وخلال رحلته إلى موسكو، بين ديسمبر 1926 وفبراير 1927، في لحظة اهتز فيها الحزب الشيوعي السوفييتي بنضال المعارضة اليسارية ضد ستالين، لم يبد اهتماماً كبيراً بالشئون الداخلية لروسيا. ولم يترك راديك ولوناتشارسكي انطباعاً عميقاً في نفسه، ولم يك بوسعه متابعة مناقشات أصدقائه الحادة بشأن النزاعات الفصائلية التي تمزق الحزب الحاكم، لأنها كانت تدور بالروسية.على أنه لا بد وأنه قد احتفظ بشيء من أصدائها، فقد أشار، في عمله، "يوميات موسكو"، إلى أن النظام في الاتحاد السوفييتي يسعى إلى "وقف دينامية السيرورة الثورية" واستنتج أن البلد الآن "شئنا أم أبينا، قد دخل إلى الردة". وفي عام 1937، قرأ كتاب "الثورة المغدورة"، الذي كان بيير ميساك قد قدم له عرضاً مقرظاً في مجلة "كاييه دو سود"، وأثير التفكير في تروتسكي في عدة مناسبات خلال مناقشاته مع بروتولت بريشت في الدانمرك. وكان بريشت قد أبدى، تحت تأثير كارل كورش، قدراً من التعاطف تجاه النقد التروتسكي للستالينية ولنظرية "الاشتراكية في بلد واحد". وخلال محادثة، وصف الاتحاد السوفييتي بأنه "ملكية عمالية"، وقارنه بنيامين بـ "غرائب الطبيعة المضحكة المنتزعة من أعماق البحار على شكل سمكة ذات قرنين أو شيء آخر بشع ما". وقد اشتد ارتيابه في الستالينية مع الخديعة التي ولدتها الجبهة الشعبية الفرنسية وهزيمة الثورة الإسبانية، لكي يتحول إلى رفض جذري بعد ميثاق 1939 الألماني – السوفييتي، الذي دمغه في "الموضوعات" عبر التنديد بالسياسيين الذين "يفاقمون هزيمتهم عبر خيانة قضيتهم". كما يشير إلى تعاطف بنيامين مع تروتسكي شهود مختلفون التقوا به خلال الثلاثينيات. ويرى فيرنر كرافت أن بريشت كان "ضد ستالين وكان بنيامين مع تروتسكي"، أما جان سيلز، الذي عرف بنيامين في عام 1932 في جزر الباليير، فقد أكد أنه كان نصيراً لـ "ماركسية معادية للستالينية بشكل سافر، وقد أبدى إعجاباً كبيراً بتروتسكي".
لكن هذا التشابه الغريب بين رجلين جد مختلفين كمؤسس الأممية الرابعة ومؤلف "باريس، عاصمة القرن التاسع عشر" لم يقتصر على التعاطف مع السوريالية وعلى نقد الاتحاد السوفييتي المتبقرط في ظل ستالين. فكتاباتهما تتضمن تحليلاً متماثلاً من نواح عديدة للاشتراكية – الديموقراطية ولماركسية الأممية الثانية ذات الطابع الوضعي. ولم يوفرا الكلمات في رفض وتفنيد مفهوم تطوري وموضوعي ينظر إلى الاشتراكية بوصفها النتيجة الحتمية لـ "قوانين التاريخ" الطبيعية ولا ينسب إلى الحركة العمالية غير مهمة تعزيز مكاسبها انتظاراً للمجيء التلقائي لنظام جديد. فهذه السلبية تتحول بسرعة إلى نزعة محافظة بيروقراطية لدى الأجهزة وإلى خوف مريع من كل قطيعة ثورية. وقبل الحرب العالمية الأولى، انتقد الاشتراكيون – الديموقراطيون الروس والألمان والنمساويون نظرية تروتسكي عن الثورة الدائمة بسبب طابعها "الطوباوي"، وذلك باتهامه على نحو خاص بعدم مراعاة "القوانين الموضوعية" للتطور الاجتماعي وبالرغبة في تحويل الثورة الروسية – الديموقراطية، المعادية للحكم المطلق و"المعادية للإقطاع" – إلى ثورة اشتراكية. وفي مواجهة الترهات التطورية الصادرة عن غالبية الماركسيين الروس، وعلى رأسهم بليخانوف، رأى تروتسكي أن أي قانون جامد للتاريخ لا يحكم على المجتمع الروسي بمكابدة عصر طويل من النمو الاقتصادي الرأسمالي قبل الاستيلاء البروليتاري على السلطة. فالتكوين الاجتماعي الروسي، بالرغم من ثباته الظاهري، إنما يخضع لتطور متفاوت ومركب يجمع بين عالم الموجيك العتيق والحداثة الصناعية – وقد رأى المثقفون الأكثر "تأورباً" بين مثقفي موسكو وسان بطرسبرج أن فكرة إيجاد أساس للاشتراكية في روسيا القياصرة والعزب هي فكرة مهرطقة وعلقوا كل آمالهم على بورجوازية ليبرالية غير موجودة. والحال أن ثورة أكتوبر، التي أثبتت مشروعية نظرية تروتسكي عن الثورة الدائمة قد نظر إليها كثيرون من الاشتراكيين الذين تربوا في مدرسة الأممية الثانية على أنها زيغ تاريخي. وفي عام 1921، خلال المؤتمر الثالث للكومنترن، كتب تروتسكي أن "الإيمان بالتطور التلقائي هو السمة الأكثر أهمية والأكثر تميزاً للانتهازية". وسوف يؤكد فيما بعد، مشيراً إلى عمل كاوتسكي، أن ماركسية الأممية الثانية قد تشكلت في عصر تطور "عضوي" وسلمي للرأسمالية، وبوجه إجمالي بين هزيمة كومونة باريس والحرب العالمية الأولى، وقد حملت سماته. على أن الحرب وأزمة الرأسمالية وصعود الرجعية قد أدت كلها فجأة إلى إنهاء الأوهام العمياء في نمو متواصل للقوى المنتجة وفي تقدم لا يقاوم للاشتراكية – الديموقراطية.
أما بنيامين، الذي لم يتعلم الماركسية من كتب كاوتسكي، وإنما بالأحرى بفضل عمل غير أرثوذكسي ككتاب "التاريخ والوعي الطبقي" للوكاش، فقد صاغ لأول مرة نقده للاشتراكية – الديموقراطية في دراسة كتبها في عام 1937 عن إدوارد فوش، المؤرخ وهاوي المجموعات الألماني. فقد كتب أنه في أواخر القرن الماضي استولى شكل من الحتمية التطورية وإيمان أعمى بالتقدم على الاشتراكية – الديموقراطية التي نظرت، منذ ذلك الحين، إلى التاريخ بوصفه تطوراً عضوياً، متواصلاً، لا يمكن وقفه. وقد سخر من النزعة الوضعية الساذجة لدى الاشتراكي فيري، الذي استخلص تاكتيك الحركة العمالية من "قوانين طبيعية"، وميز العمليات الاجتماعية بين عمليات "فسيولوجية" وعمليات "مرضية" ورد "الانحرافات الفوضوية" لليسار إلى سوء إدراك للجغرافيا وللبيولوجيا. وقد أضاف بنيامين "أن المفهوم الحتمي قد سار من ثم يداً بيد مع تفاؤل لا يقهر". والنتيجة "أن الحزب لم يك مستعداً للمجازفة بما نجح في كسبه. إن التاريخ يأخذ سمات "حتمية " ولا يمكن للانتصار أن يغيب". والواقع أن هذا الانتقاد لفكرة التقدم وللجبرية الإصلاحية سوف يتمم في عام 1940 في "الموضوعات" بالكلمات التالية: "إن التقدم كما يتخيله دماغ الاشتراكيين – الديموقراطيين هو، أولاً، تقدم للإنسانية نفسها (لا استعداداتها ومعارفها وحدها). وهو، ثانياً، تقدم غير محدود (يتماشى مع طابع الإنسانية القابل للكمال إلى ما نهاية). وهو، ثالثاً، يعتبر من حيث الجوهر متواصلاً (تلقائياً ويتخذ شكل خط صاعد أو شكل حلزون).". وفي مواجهة فيتيشية التقنية والجبرية التاريخية، والنزعة الطبيعية وعلموية الأممية الثانية يعيد بنيامين اكتشاف ملامح أوجوست بلانكي، الذي "لم يفرض" نشاطه الثوري "الإيمان بالتقدم"، بل تأسس بالأحرى على رغبته "في إزالة الظلم الماثل".
وكما يذكر تروتسكي نفسه في سيرته الذاتية، فإنه قد ربى في مدرية أنطونيو لابريولا المعادية للوضعية وتعرض لعداوة سافرة من جانب بليخانوف منذ وصوله إلى سويسرا، في فجر القرن. وفيما بعد، أبدى ارتياباً شديداً تجاه النزعة الكانطية الجديدة لدى الماركسيين النمساويين الذين جاورهم خلال بضع سنوات، أثناء وجوده في المنفى في فيينا (1907-1914). لكنه بالرغم من انتقاده للنزعة الوضعية للأممية الثانية، كان تكوينه الثقافي تكوين ماركسي روسي، تنويري وعقلاني بشكل صارم، يعتبر تراث التنوير بالنسبة له أكثر أهمية بكثير من المصادر الرومانسية التي استمد منها بنيامين عناصر انتقاده للحداثة الصناعية والرأسمالية. ويبدو لي أن ذلك يزيد من إبراز وتوضيح تماثل معارضتهما للاشتراكية – الديموقراطية. ففي نص كتبه في عام 1926، بمناسبة المؤتمر الأول لجمعية أصدقاء الراديو، وهو لا يخلو من تقديرات ساذجة إلى حد ما لإمكانيات التقنية – وهي التقديرات نفسها التي نجدها من جهة أخرى في دراسة كـ "العمل الفني في عصر الإمكانية التقنية لاستنساخه"، التي كتبها فالتر بنيامين في عام 1935 - ، يتباعد تروتسكي عن تصور حتمي للتاريخ محكوم بفكرة التقدم. فقد كتب: "إن العلماء الليبراليين قد صوروا بشكل عام مجمل تاريخ الإنسانية بوصفه مسيرة خطية ومستمرة للتقدم. وهذا غير صحيح. فمسيرة التقدم ليست مستقيمة، إنها منحنى منكسر، متعرج. فأحياناً تتقدم الثقافة، وأحياناً تنحط".
وفي تفسير مجازي شهير للوحة بول كلي، "الملاك الجديد"، يقارن بنيامين التقدم بمراكمة مستمرة للأطلال والخرائب، بكارثة لا تنتهي يشهد ملاك التاريخ، الذي تحمله العاصفة، وينشر جناحيه، تزايدها أمامه، فينتابه الشعور بالعجز والفزع. فما جرى اعتباره، زيفاً، مسيرة ظافرة للإنسانية نحو التقدم ليس في الواقع غير مسيرة ظافرة للغزاة، تنفتح على الفاشية والحرب. ونحو أواخر الثلاثينات، وخاصة في عام 1940، تتضمن كتابات تروتسكي إيماءات متكررة بشكل متزايد إلى مخاطر إجهاز كامل على جميع المنجزات الأساسية للإنسانية في حالة انتصار حاسم للنازية في أوروبا. إن النتيجة لا يمكن أن تكون غير "نظام انحطاط يرمز إلى انهيار الحضارة". وهناك تشابه كبير أيضاً بين تفكيرهما في الاستخدام اللاإنساني للتقنية في إطار الرأسمالية وضرره الاجتماعي العميق. وفي عام 1930 بالفعل، في انتقاد لكتاب إرنست يونجر "الحرب والمحارب"، يشير بنيامين إلى أن النزعة القومية تتصور التقنية على إنها "فيتيش للانحطاط" بدلاً من أن تجعل منها "مفتاحاً للسعادة". ومن جهته، يشير تروتسكي إلى أن الرأسمالية المتأخرة تميل بشكل متزايد إلى تحويل القوى المنتجة إلى قوى مدمرة. وفي عام 1940، في بدايات الحرب، كتب أنه "بين عجائب التكنولوجيا التي فتحت الأرض والسماء أمام الإنسان، نجحت البورجوازية في تحويل كوكبنا إلى سجن كريه".
وقد اعتبر بنيامين وتروتسكي الثورة قطيعة عميقة للاستمرارية التاريخية. وهي تظهر في نظر الناقد الألماني بوصفها "قفزة نمر إلى الماضي" قادرة على تخليص مقهوري ومغلوبي التاريخ، بتمكينهم من الفعل في الحاضر. ويجب التغلغل في الماضي بشكل جدلي ويجب رده إلى ضحاياه، فمهمة الثورة هي تنشيط الماضي وانتزاعه من متصل التاريخ. وبالشكل نفسه، بالنسبة لتروتسكي، فإن الثورة ليس هناك ما يجمع بينها وبين زمن التاريخية "المتجانس والفارغ". وقد شبهها، في مقدمة "تاريخ الثورة الروسية" بـ "انفجار عنيف للجماهير في ساحة تسوية مصائرها". وتتحدد تماثلات هذا المفهوم ومفهوم بنيامين بشكل أوضح في الكلمات التي كرسها إسحق دويتشر لتروتسكي المؤرخ: "إن الثورة، بالنسبة له، هي تلك اللحظة، القصيرة ولكن المشحونة بالمعنى، التي يقول فيها المستذلون والمقهورون كلمتهم أخيراً، والذين تمثل هذه اللحظة بالنسبة لهم نجاة من قرون الاضطهاد. وهي ترجع ساعتها بحنين يهب إعادة تكوينها شعوراً مريحاً ومتوهجاً بالخلاص".
بوسعنا من ثم أن نجد عند هذين الكاتبين مفهوماً نوعياًّ للزمانية، متعارضاً مع زمانية الوضعيين المتجانسة. على أن انتقاد التاريخية وفكرة التقدم كان عند بنيامين أكثر جذرية بكثير. فبالنسبة لتروتسكي، كما بالنسبة لماركس ولمجمل تراث الماركسية الكلاسيكية، يتعين على الثورة دفع التاريخ للأمام. وقد قارنها بمحرك، تمثل فيه الجماهير بخاره ويمثل البلاشفة قيادتهم، الاسطوانة. وبالمقابل، يتصور بنيامين الثورة على أنها مجيء عصر جديد من شأنه قطع مسيرة التاريخ. فالثورة، بدلاً من دفع مسيرة التاريخ إلى الأمام، يتعين عليها "وقفه". وخلافاً لماركس، الذي عرف الثورات بأنها "قاطرات التاريخ"، يرى فيها بنيامين "الفرملة" التي يمكنها وقف مسيرة القطار نحو الكارثة.
ويجرنا هذا إلى فارق أساسي مستمر بين فلسفتي بنيامين وتروتسكي: تدين وخلاصية الفيلسوف الألماني، والإلحاد الجذري لدى الثوري الروسي. فهذا الأخير، الذي أعلن في وصيته أنه يريد أن يموت "ماركسياً، مادياً جدلياً ومن ثم ملحداً لا يتزحزح"، لم يتصور قط الثورة على أنها هزيمة "المسيح الدجال" أو على أنها مجيء عصر خلاصي. وموقف بنيامين يتألف من كسر كل حاجز بين الدين والسياسة، سعياً إلى إعادة تفسير المادية التاريخية في ضوء الخلاصية اليهودية. وهو يرى أن ماركس قد علمن، في يوتوبيا المجتمع اللاطبقي المشاعية، صورة بشرية متحررة في "عصر خلاصي". إن المشاعية ليست خاتمة التاريخ بل تجاوز جدلي له.
وأعتقد أن فارقاً مهماًّ آخر يتصل يتصل بمفاهيمهما عن العلاقة بين المجتمع والطبيعة. ففي هذا المجال، كان فكر تروتسكي مشبعاً بشكل من النزعة الإنتاجية كانت ماثلة بالفعل في كتابات ماركس وميزت بدرجة عميقة مجمل تراث "الاشتراكية العلمية" للأممية الثانية. وفي صفحات "الأدب والثورة"، دافع دفاعاً قوياً عن ميل الإنسان إلى الهيمنة على الطبيعة: "إن المكان الحالي للجبال والأنهار والحقول والمراعي، والبراري والغابات والسواحل لا يمكن اعتباره نهائياً. لقد أدخل الإنسان بالفعل بعض التغيرات التي لا تفتقر إلى الأهمية على خريطة الطبيعة، وهي مجرد تمرينات مدرسية بالمقارنة مع ما سوف يجيء (...) إن الإنسان الاشتراكي سوف يهيمن على الطبيعة برمتها، بما في ذلك طيورها وأسماكها، عن طريق الآلة. وسوف يحدد الأماكن التي يجب رمي الجبال فيها ويغير مجرى الأنهار ويسجن المحيطات". إننا بصدد مجرد ملاحظات جنينية غير مبلورة، وإن كانت تكشف عن تفكير يعتبر البعد الإيكولوجي غائباً عنه بشكل جذري.
ويبدو لنا أن تأمل بنيامين في هذه الإشكالية أكثر حالية وخصوبة بكثير. ففي مواجهة المفهوم الاشتراكي – الديموقراطي عن العمل بوصفه أداة تهدف إلى "استغلال الطبيعة"، لا يتردد في الإعلاء من شأن إمكانيات يوتوبيات فورييه التي، بالرغم من سذاجتها، تكشف في نظره عن "حس سليم مدهش". وقد اكتشف بحماس كتابات يوهان ياكوب باشوفن، منظِّر المطريركية، الذي سمح له بأن يرى في مجتمعات الماضي اللاطبقية – المشاعية البدائية – آثار تجربةٍ كونية – طبيعية ضاعت في الحداثة. والحال أن تراث باشوفن الفكري، عند تفسيره تفسيراً صوفياً، قد استحوذت عليه النزعة الطبيعية الألمانية (ستيفان جورج ولودفيج كلاجيس)، لكنه قد ألهم أيضاً رؤى كتاب ماركسيين عديدين، من فريدريك إنجلز إلى بول لافارج، ومن أوجست بيبل إلى إيريك فروم. ومندرجاً بطريقته في هذه السلالة، رأى بنيامين أن مجتمع المستقبل المشاعي لا يجب لا أن يستغل الطبيعة ولا أن يهيمن عليها. بل يجب بالأحرى أن يستعيد توازناً منسجماً بين الانسان وبيئته.
ومن ثم فإن المسألة لا تتمثل في ضم بنيامين إلى التروتسكية أو في محو الخلافات النظرية والفكرية التي تفصله عن الثوري الروسي. على أن فكرهما، بالرغم من هذه الخلافات، يكشف أيضاً عن تماثلات مدهشة تظل حاملة لثراء يجب الاستفادة منه. ويرى تيري إيجلتون أن "(الموضوعات) تعتبر وثيقة ثورية رائعة، لكنها تشير إلى صراع الطبقات أساساً من زاوية الوعي والصور والذاكرة والخبرة، مع السكوت شبه التام عن مشكلة أشكاله السياسية". وينهي كلامه مؤكداً على "أن ما يظل صورة عند بنيامين يصبح استراتيجية سياسية عند تروتسكي". ولا مراء في أن هناك عنصراً من الحقيقة في هذه الملاحظة، لكن النظر إلى المفاهيم السياسية للثوري الروسي كما لو كانت امتداداً لفلسفة الناقد الألماني إنما يعني حل مشكلة علاقتهما بشكل جد ساذج. ويبدو لي أن من الأجدى والأصوب اعتبار بنيامين وتروتسكي شخصيتين متميزتين في كوكبة مفكري الماركسية. والتماثلات التي حاولنا الكشف عنها في كتاباتهما إنما تثبت أن بوسع الماركسية أن تثرى في آنٍ واحد من نقد رومانسي للتقدم ومن تحليل عملي وعقلاني للرأسمالية، خاصة عندما يتحدان في المنظور المشاعي لتجاوز الواقع الحالي. ويظل بنيامين وتروتسكي مصدرين أساسيين للإلهام بالنسبة لفكر انتقادي وثوري يرمي إلى التدخل في عالم اليوم، في نهاية القرن العشرين.
1 التعليقات:
موضوع رررررررررائع وأن كان مرهق فى تتبعه
هند بكر
إرسال تعليق