قراءة في كتاب روبرت هيوز
"صدمة الجديد"
كيث فيشر
ترجمة بشير السباعي
ترجمة بشير السباعي
"إن التغيير الذي شهده العالم منذ يسوع المسيح هو أقل من التغيير الذي شهده في السنوات الثلاثين الأخيرة". هذه الملاحظة أدلى بها الكاتب الفرنسي شارل بيجي في عام 1913. وقد لخصت موقفاً ورؤية تقاسمهما كثيرون آنذاك. وكانت رؤية تكمن في أساس سلسلة من الأساليب الفنية التي أصبحت توصف بـ "الحداثة".
وفي طبعة منقحة وموسعة لكتاب "صدمة الجديد – الفن وقرن التغيير"، حاول روبرت هيوز تحديد العلاقة بين الفن – خاصة الرسم، ولكن أيضاً جانباً من النحت والعمارة – والمسائل الثقافية الكبرى للسنوات المائة الماضية. كيف خلق الفن صور الاحتجاج والانشقاق، وصور المتعة؟ كيف حاول خلق يوتوبيا، وكيف تناول الاغتراب واللاوعي واللامعقول؟ وأخيراً كيف واجه ضغوط وسائل الإعلام الجماهيري ورأسمالية أيامنا؟
إن كتاب هيوز مبني على غرار برنامجه التليفزيوني الذي قدمه في أوائل الثمانينيات. فكل فصل مكتوب بوصفه بحثاً قصيراً (وإن كان يشير إلى أنها أطول خمس مرات من نصوص البرنامج التليفزيوني) يتناول موضوعاً من الموضوعات المشار إليها. وعلى الرغم من شكوكه الشخصية، فإن الكتاب لا يزال قادراً على نقل حس الدينامية والمثالية والثقة الكاملة الذي استشعره الفنانون في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن. وهو أحد أكثر التقارير المتاحة عن تلك الفترة تميزاً بالسلاسة والوضوح.
فما الذي حدث في أواخر القرن التاسع عشر وقاد إلى هذا الانفجار الثقافي؟ ماهي مكونات العصر الحديث؟ إنها هذه العناصر الرئيسية الأربع: الآلة والمدينة والحرب والثورة.
وفي أيامنا هذه، فإن أي إنسان يهذي بالحديث عن مآثر التكنولوجيا سوف تكون مكانته الاجتماعية هي مكانة محولجي مخبول! فمن الصعب الكتابة عن الآلة بشكل إيجابي الآن، خاصة بعد الجلوس أمام الآلة لبضع ساعات، لكن هيوز ينجح في نقل الأثر الذي أحدثته في العقود الأخيرة للقرن الماضي.
آنذاك لم تكن هناك إحصاءاتٌ عن التلوث، ولا احتمالات لانصهارات المفاعلات أو لانفجار قلوبها.. وبالنسبة للطبقة الحاكمة كان وعد التكنولوجيا قريباً لحلم فاوست: وعد سلطة غير محدودة على العالم وثرواته. لقد كانت أشبه بعبدٍ طيب، غبي، طيع، يهيمن عليه العقل في عالم من الموارد اللانهائية. فانحطاط أحوال الجماهير وعذاباتها التي كان ويليام بليك قد أدانها وكان إنجلز قد وصفها قد دُفعت إلى الظل.
وبالنسبة للفنانين المعاصرين أيضاً، كانت للتكنولوجيا إيحاءاتها الرومانسية. فقد كانت هناك حالات كثيرة صور فيها الفن الآلات على أنها الشيطان متجسداً، وقد تسلح بأفران تنفث البخار والدخان. وعلى أية حال، فإن معظم ذلك الفن قد تبنى موقف معاداة رومانسية للرأسمالية، موقف حنين إلى ماضٍ انسجمت فيه البشرية انسجاماً تاماً مع الطبيعة.
لكن أوائل الحداثيين في الفن قد نبذوا عن حق هذا الموقف باعتباره طوباوياً. وكانوا متحرقين لإبراز الإمكانية الإيجابية التحريرية التي كانت تلك التكنولوجيا تعد بها، وإلى العثور على مجازات جديدة وتقنيات جديدة لتصوير أثرها.
وقد نشأ إحساسهم بإلحاح المهمة عن الشعور بالإحباط تجاه عدم قدرة التقنيات والأساليب القديمة على تناول مجمل مدى الخبرات الجديدة لجمهور الأوروبيين، والتي كانت تتشكل في بيئة خلقتها الآلة: المدينة.
ففي عام 1850 كان معظم الأوروبيين لا يزالون يعيشون في الريف. وفي أقل من 40 سنة سوف يميل ذلك الميزان لحساب المدن. وسوف يكتب الشاعر الفرنسي بودلير عن جمهور من النفوس المغتربة:
"مدينة تعج بالنمل،
"مدينة مليئة بالأحلام،
"حيث تزاحمك الأشباح في رائعة النهار".
وسوف يسعى آخرون إلى استحضار قصف الحواس الذي أنتجته المدينة، والعلاقات الجديدة، والرؤى والأصوات والمذاقات الجديدة. وسوف يحاول الفن الأوروبي الأكثر تقدماً نقل هذا الإحساس بالتغيير وبالتدفق وبالدينامية. وكان بابلو بيكاسو، الفنان الحداثي بامتياز، مبتكراً رئيسياً في هذا الصدد.
ويجب النظر إلى السرعة التي تطور بها بيكاسو كفنان من حيث الموتيفات والتقنيات والموضوعات الجديدة على ضوء تسارع عام في التطور الحضاري. فقد شهدت السنوات الخمس والعشرون الأولى من حياته (ولد في عام 1881) إيجاد تكنولوجيا القرن العشرين للسلام والحرب على حد سواء: الرشاش الأوتوماتيكي (1882)، الألياف الاصطناعية (1883)، الورق الفوتوغرافي (1885)، محرك تسيلا الكهربائي، وكاميرا كوداك، وإطارات دنلوب (1888)، والمتفجرات التي لا تخلف دخاناً (1889)، واكتشاف أشعة إكس وتيليجرافيا راديو ماركوني، وأول رحلة جوية تستخدم المحركات (1903). وقد طور أينشتاين نظرية النسبية وعرض الروسي كونستانتين تسيولكوفسكي مبدأ المحركات الصاروخية ونشر فرويد دراساته عن الهستريا. وقد أدت كل هذه التطورات معاً إلى أكبر تغير في النظر إلى العالم منذ نيوتن.
ولا يمكن رسم توازيات مباشرة بين التغيرات في العلوم والفنون. لكن التغيرات كان لها أثر عام عميق بدرجة هائلة – الإحساس بأن نوعاً من التاريخ ينتهي وبأن نوعاً جديداً يبدأ.
وكان بيكاسو وفنانون آخرون مثل جورج براك في طليعة هذه التغيرات. فقد عملوا على مشكلة العلاقة بين المشاهد والموضوع، والتي كانت ملحة بالفعل في مجال العلوم. وكان آخرون مثل بول سيزان قد بدأوا بالفعل في تصوير تلك العلاقة المتبدلة والمتغيرة، ومن الواضح أن بيكاسو كان متأثراً بالتقنيات الجديدة.
وكان يريد العثور على سبل لتكثيف علاقة المشاهد والموضوع – السبيل الذي يمكن به مثلاً لموضوع أن يُرى من زوايا مختلفة، حيث تتحرك العين حركة سريعة بين الأشكال وتقارن بينها – في نظرة مركبة واحدة تحافظ على الإحساس بتفاعل دينامي.
ومن الواضح أن تكنولوجيا المشاهدات الجديدة المتاحة للمشاهد – كالسفر السريع – قد لعبت دوراً مهماً في التقنيات الجديدة. وكانت تصويرات الواقع قد قد اعتمدت حتى ذلك الحين على فكرة المنظور، وهي فكرة رغم رسوخها وشيوع قبولها لم يكن بوسعها تلبية المطالب الجديدة التي كان فنانون مثل بيكاسو وبراك يلحون عليها. وكانت هناك حاجة إلى أجرومية جديدة للرسم، وهي أجرومية أدت إلى المزيد والمزيد من التجريد.
وبالنسبة لفنانين كثيرين، كان عصر الآلة أكثر بكثير من مجرد سياق للعمل. لقد كان يتعين أن يكون موضوعاً محورياً للفن، أسلوب حياة، فلسفة. وكان الفنان الرئيسي بين هؤلاء الفنانين هو فيليبو توماسو مارينيتي، مؤسس حركة المستقبليين. وكان، بتعبيره هو، أحدث إنسان في بلاده. وقد ترك أثراً واسعاً بشكل هائل.
كان الماضي هو عدو مارينيتي. وكانت فكرته المحورية هي أن التكنولوجيا قد خلقت إنساناً من نوع جديد، طبقة من الملهمين بالآلة، تتألف من مارينيتي وأي إنسان آخر يريد الانضمام إليها.
وبالنسبة لمارينيتي، كان على الآلة أن تعيد رسم الخريطة الثقافية لأوروبا (وهو ما فعلته بالفعل، وإن لم يكن بالطريقة التي تمناها المستقبليون). لقد كانت الآلة قوة. كانت تحرراً من الكوابح التاريخية. ومن بين جميع الآلات، كانت السيارة هي المحملة أكثر من سواها بالشحنة الشعرية. وقد شكلت الصورة المحورية للبيان المستقبلي الأول، المنشور في عام 1909:
"إننا نعتزم الاحتفاء بحب الخطر، بعادة القوة وعدم الخوف,
"وسوف تكون الشجاعة والجسارة والتمرد هي المكونات الأساسية لشعرنا.
"إننا نؤكد أن روعة العالم قد أثريت بجمال جديد، جمال السرعة. إن سيارة سباق يتزين غطاء محركها بصفارات عظيمة – كحيات متفجرة الأنفاس – سيارة هادرة يبدو وكأنها تجري على قذيفة متفجرة هي أجمل من انتصار ساموثريس.
"إننا سوف نمجد الحرب – العلاج الوحيد للعالم ...
" وسوف نحتفي بالحشود الضخمة التي يثير حماسها العمل والاستمتاع والتمرد، وسوف نحتفي بموجات الثورة متعددة الألوان، ومتعددة الأصوات في العوالم الحديثة.. "
وقد استحدث المستقبليون سلسلة كاملة من التقنيات الجديدة للتصدي للمهام التي كانوا قد طرحوها في البيان: استخدام الفوتوغرافيا، قصائد الأصوات المتزامنة، شعر الهراء، المواجهة بل وإمطار المصانع بالمنشورات. وقد أثروا على أولئك الذين كانوا مهتمين بإبراز صور عنيفة أو ساخرة أو سينمائية للمدينة.
لكن "علاج العالم الوحيد"، الحرب العالمية الأولى، شهد انقساماً إيديولوجياً عميقاً في حركة الحداثة. وبعد الحرب سوف يكون هناك انقسام حاد جداً إلى يسار ويمين بين الفنانين، حتى أولئك الذين تقاسموا الخلفية التقنية والأساليب الواحدة وواصلوا تطوير هذه التقنيات. والفترة التالية للحرب مباشرة هي فترة اتحاد الحداثة مع اليسار. ففي روسيا وألمانيا بوجه خاص، استخدمت التقنيات الجديدة لتقديم جانب من أكثر الصور المتاحة لمعاداة الرأسمالية قوة.
وكان الفنانون منخرطين بشكل مباشر في النشاط السياسي وقد عانوا من القمع الفعلي من جراء ذلك. وفي زيوريخ تكونت الحركة التي سمت نفسها دادا في قهوة صغيرة وسرعان ما استرعت العروض انتباه الدولة التي اعتبرتها مركزاً رئيسياً للتمرد. ولم تكن شقة لينين تبعد عن القهوة إلا عدة أمتار.
والقول بأن الحداثة لم تترسخ في روسيا إلا بعد الثورة قول خاطيء بشكل واضح. ومن المرجح أن حائزي المقتنيات الفنية البورجوازيين الأثرياء كانت لديهم أفضل المجموعات في العالم من أعمال فنانين مثل ماتيس وجوجان، ولا شك في أن الفنانين ذوي الصلات المناسبة قد تفرجوا عليها.
كما كان من الممكن للفنانين الروس قبل الثورة أن يسافروا إلى الخارج. وبوسع نظرة إلى جماعة الفنانين في باريس في عام 1910 أن ترى كل الأسماء الكبيرة لزمن ما بعد الثورة: ناتان آلتمان، فلاديمير تاتلين، إليزير ليسيتسكي، ألكسندر شيفتشينكو وليديا بوبوفا.
والشيء الذي أعاد هؤلاء الفنانين إلى موقف ثقافي نشيط بشكل خيالي هو واقع قيام ثورة عمالية حقيقية، كانت قد أنهت المجزرة الميكانيكية. وكان بوسع الفنانين الروس، المجتمعين تحت اسم "البنائية"، أن يتمسكوا بإيمانهم بالتكنولوجيا كحل للمساوئ الاجتماعية وأن يتمتعوا بإحساس حقيقي بأن الفن يساهم في إحداث تغييرات أعمق في المجتمع. وقد ساندوا الثورة عن طيب خاطر بما لديهم من مهارات وتقنيات، سواء كان ذلك في مجال الاتصال الجماهيري (الملصق أو الفيلم) أم في مجال العمارة.
وكانت القصة في مهد المستقبلية مختلفة للغاية. ففي إيطاليا، مع هزيمة الحركة العمالية في نهاية الأمر، أصبح مستقبليون كثيرون، بمن فيهم مارينيتي، ديماجوجيين فاشيين، يرون في نظام موسوليني الجديد فرصتهم الوحيدة لتحقيق يوتوبيا حديثة.
كما انعكس أفول الثورة الألمانية في تطور الحداثة في ألمانيا. فالباوهاوس، وهي جماعة كانت قد تكونت في الأصل حول بيان جماعي عن الفنون والحرف اليدوية، قد شهدت اتجاه أعضائها الأوائل مثل يوهان ايتين وفالتر جروبيوس إلى مزج الفن والسياسة على نحو مباشر في البرامج الدراسية التي وضعوها للطلاب.
وكان تصميم جماعة الباوهاوس يهدف إلى خلق يوتوبيا حديثة، تصميماً جيداً للإنتاج والاستهلاك الواسعين. إلا أنه بمرور الوقت تمت تنحية القيادة الأولى لحساب توجه اشتراكي ديموقراطي يميني. وقد تزعم ميس فان دير روهه المطاردة، فقام بمنع المناقشات السياسية وأدخل معايير سلوك للطلاب وأعاد توجيه فلسفة الجماعة في اتجاه تلبية حاجات الصناعة.
والآن نجد أن فخاريات الباوهاوس، التي كانت قد صممت للملايين، تباع لجامعي المقتنيات، وأن كراسي برشلونة الشهيرة التي صممها ميس فان دير روهه، والتي كان يقصد بها أن تحتل الغرف الأمامية للعمال الألمان، تباع لقاء آلاف الجنيهات الإسترلينية.
فمع هزيمة الموجة الثورية في المجتمع، كان ممكناً للمؤسسة أن تستوعب الكثير من السمات الرئيسية للحداثة، خاصة في مجال فن العمارة، حيث بررت جعجعةٌ حداثيةٌ ما لا نهاية له من الفظائع.
واليوم ترعى شركة فورد للسيارات معارض دييجو ريبيرا، وتساند شركة آلكان حالياً معرضاً حداثياً في ليفربول، وتمول شركة ميركوري للاتصالات معرضاً للفن الشعبي في الأكاديمية الملكية البريطانية.
ومن المستحيل على الماركسيين أن يقدموا وصفات للأشكال والتقنيات الجديدة الضرورية لإحداث نوع الأثر الذي أحدثه الفنانون في بداية القرن. كما أن روبرت هيوز لا يحاول ذلك هو الآخر. وهو من حيث الجوهر متشائم فيما يتعلق بآفاق الفن. وسطوره الأخيرة تستحضر ظاهرة غريبة رصدها في مسارات الزمن: أن التطورات الثقافية الكبرى قد حدثت عادة بين السنوات التي تنتهي برقم 90 وتلك التي تنتهي برقم 30. وأرجو أن يكون على حق.
0 التعليقات:
إرسال تعليق