بشير السباعي
كان نشوب الحرب العالمية الثانية (3 سبتمبر 1939 - 2 سبتمبر 1945) صدمة كبرى بالنسبة للشاعر السوريالي المصري الكبير جورج حنين. ذلك أن انخراط دول أوروبية متعارضة في الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939) كان قد جعله يتصور أن زمن الحروب العالمية قد ولَّى وأن "الصيغة الحالية وصيغة المستقبل المباشر هي الحرب الأهلية المتشابكة مع تدخلات متعددة الأطراف".
لقد كان جورج حنين يتحدث - في أواخر عام 1936 – تحت تأثير الدراما التي كانت تدور على الأرض الإسبانية، حيث كان إغراء القفز إلى التعميم يتميز بحضور قوي وآسر، خاصة وأن الثورة الإسبانية لم تكن قد سُحقت بعد ولم تكن الإمكانية الواقعية لمنع نشوب حرب عالمية ثانية قد تبددت بعد.
وعندما نشبت هذه الحرب، تحسس الشاعر "سرعة الموت المكتسبة وقد أحدقت من كل حدب وصوب" وحاول أن يجد عزاء في واقع أن "الكلمات الحقيقية العظيمة لا تزال في الداخل، في حصون الذاكرة المنيعة".
وإزاء انفلات "سرعة الموت" راح يتساءل متى وكيف سوف تنتهي تلك المجزرة، ثم وجد أن "جميع الإجابات تهرب بشكل مأساوي من إرادة الإفراد كما تهرب من إرادة الجماهير الغفيرة".
ثم تذكر "ذلك الصحفي الأمريكي الذي كان يشاهد احتراق مدريد من سطح محطة للاتصالات التليفونية وأبرق إلى مواطينه: فلتسقط أوروبا!".
إلاَّ أن الشاعر الكبير لم يكن قد رأى بعد قعر الهاوية!
ففي ربيع عام 1945، ألقت طائرات الولايات المتحدة الأمريكية مائة ألف طن من المتفجرات على ست وستين مدينة يابانية، مستهدفة الأحياء السكنية للمدنيين الفقراء الأبرياء. وكان حصاد الكارثة البشرية 260 ألف قتيل و412 ألف جريح.
وقد حدث هذا في الوقت الذي لم تسقط فيه طائرات الولايات المتحدة قنبلة واحدة على الأهداف العسكرية اليابانية في منشوريا!
وفي 16 يوليو 1945، فجرت الولايات المتحدة القنبلة الذرية التجريبية الأولى في الآموجوردو. وعندما اجترأت الولايات المتحدة على إلقاء القتبلة الذرية على هيروشيما في السادس من أغسطس 1945، دون مبرر عسكري، وضد مئات الآلاف من المدنيين الأبرياء، تدشيناً للحرب الباردة، استولى الغضب على الشاعر الكبير، وسارع إلى شجب الجريمة في كراس "هيبة الرعب" الذي كتبه في شهر الفجيعة والعار.
كان هدف جورج حنين هو "استفزاز الناس الغارقين في الأكذوبة"، ذلك أن "القيم التي تحكم مفهومنا للحياة والتي تحفظ لنا، هنا وهناك، جزراً من الأمل وفسحات من الكرامة، يجري تخريبها بشكل منهجي عن طريق أحداث يدعوننا، علاوة على ذلك، إلى أن نرى فيها انتصارنا، وإلى أن نرحب فيها بالتدمير الأبدي الذي يمارسه تنين لا يكف البتة عن النهوض من موته".
وهو نفسه قد استفزته المفارقة وهو يتابع التحولات التي تطرأ على لاعبي الأدوار: "إن مارجرجس، عند كل جولة صراع جديدة، يتحول أكثر فأكثر إلى اكتساب خصائص التنين. وسرعان ما يكف مارجرجس عن أن يكون شيئاً آخر غير نسخة بشعة من التنين، وسرعان أيضاً ما يحاول التنين المقنع إقناعنا، بضربة حربة، بأن إمبراطورية الشر قد سويت بالتراب!".
ولم يكن جورج حنين مستعداً للاقتناع بأن جريمة إلقاء القنبلة الذرية قد سوت إمبراطورية الشر بالتراب، فهذه الجريمة قد أكدت سطوة وجبروت إمبراطورية الشر.
لقد تحولت هيروشيما إلى خرائب.
وإذا كان جورج حنين قد تنبأ في قصيدته "عدم التدخل" بأن خرائب إسبانيا "لن تكون الأخيرة"، إلاَّ أن ما حدث لهيروشيما قد تجاوز كل توقعات الشاعر.
لقد – مات على الفور – أكثر من 78 ألف إنسان وأصيب نحو 70 ألف إنسان بجراح – في غمضة عين – وافترس الإشعاع الذري أجسام جميع الأحياء – الأموات، الناجين – الهالكين!
وبعد ثلاثة أيام، كان الدور على نجازاكي التي أصبحت أثراً بعد عين، وتحولت إلى مقبرة جماعية لأربعين ألف قتيل وغرفة غاز سام لخمسة وعشرين ألف جريح.
وكان لابد للشاعر النبيل الجميل أن يشعر بالتقزز إزاء حديث كتاب أعمدة الصحف اليومية المتلذذ عن آثار القنبلة الذرية "الساحرة".
وسوف يتذكر، ولا شك، في عام 1958، ذلك الزمن، وسوف يقول: "منذ وقت طويل وأنا أطمح إلى القطيعة طموحي إلى نفحة من الهواء النقي. أطمح إلى صحبة مومسات في حانة ولكن ليس إلى تجارة الروح الدنيئة"!
لم يكن الشاعر مستعداً لممارسة تلك التجارة. وقد راح يتذكر الأيام الخوالي عندما كان الرأي العام العالمي يندد بلجوء جنود موسوليني إلى استخدام غاز الخردل ضد الإثيوبيين، وعندما ثارت "ملايين الضمائر الحية" ضد جريمة تحويل جرنيكا الإسبانية إلى أشلاء: ما الذي جرى لهذه الضمائر الآن؟
إن الأميرال الأمريكي، ويليام هالساي (1882 -1959)، أمير بحار ومحيطات الجنوب، يعلن بنبرة عنصرية بربرية:
"إننا بسبيلنا إلى إغراق وحرق هذه القردة اليابانية البهيمية ... وإننا لنشعر لدى حرقهم بلذة تفوق لذة إغراقهم".
إن السيد الأبيض الذي تلذذ بحرق الهنود الحمر على أشجار الغابات الاستوائية في أميركا الجنوبية، سوف يستعيد اللذة المفقودة بحرق اليابانيين الصفر في أتون النار الذرية المقدسة!
وإزاء إهدار الكرامة الإنسانية، لا يملك جورج حنين سوى أن يعلن: "إن مارجرجس .. يبدأ في الظهور أمامنا بمظهر أدعى إلى التقزز من مظهر التنين"!.
لقد كان جورج حنين عدواً لدوداً للفاشية والعسكرية. إلاَّ أن الفاشية لم تكن بالنسبة له مجرد آلة حربية عدوانية يمكن أن تتلاشى من الوجود بمجرد إنزال الهزيمة العسكرية بها. لقد كان ينظر إلى الفاشية بوصفها "سلوكاً سياسياً" معيناً يمكن أن يستمر، متخذاً صوراً عديدة، حتى خلال وبعد القضاء على الآلة الحربية الفاشية العدوانية.
وقد رأى الشاعر الكبير أن "السلوك السياسي الهتلري" لم يهزم، بل إنه "تغلغل في صفوف الديموقراطية" المزعومة، وإلاَّ فماذا يعني الحط من الكرامة الإنسانية لليابانيين ووصفهم بـ "القردة البهيمية" ومعاملتهم على هذا الأساس؟
والحال أن جورج حنين لم يكن الوحيد الذي رصد هذه المفارقة، فقبل شهرين من إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما، كان الصحفي الأميركي لويس كلير قد رصد الآليات التي أطلقها هتلر (1889-1945) والتي أخذت "تكتسب أبعاداً مخيفة" على يد "الديموقراطية" المنتصرة.
وكان لابد لهذه المفارقة من أن تدفع الشاعر الكبير إلى إثارة مشكلة الوسائل والغايات في السياسة والحرب. خاصة وقد رأى كيف يمكن استخدام وسائل إجرامية مثل إلقاء قنبلة ذرية على مئات الآلاف من المدنيين الأبرياء وتبرير هذه الجريمة بالحديث عن "نبل المقصد".
وهو لم يكن مستعداً للمساومة.
لقد رأى أنه، حرصاً على القضايا العادلة، "يجب .. تحديد قائمة بالوسائل التي ليس من شأنها طمس الغاية المنشودة. فاللجوء إلى النميمة، في مواجهة ضرورة عابرة، إنما يترجم نفسه، في وقت قصير، إلى إدارة للنميمة. وسرعان ما يتكون لدى فريق من المواطنين، طبع نميمي - ولدى الفريق الآخر، وسواس نميمي".
والحال أن الوسائل التي من شأنها طمس الغاية المنشودة سرعان " ما يتكشف – عند الانتصار – أنها قد رفعت إلى مستوى تشوهات قومية وعاهات ثقافية تجري حمايتها بعناية ضد تمردات العقل المحتملة".
ويستنكر جورج حنين خضوع الرأي العام لهذا المصير المحزن، ويتساءل عن الأسباب التي "تحرم الملايين من الإمساك بناصية القضايا السامية التي تكرس نفسها لها"، بحيث باتت نهباً للانحطاط المعنوي المتمثل في "تغلغل السلوك الهتلري في صفوف الديموقراطية" المزعومة.
ويمسك جورج حنين بالسبب الرئيسي: "إن اتساع وتركز الحياة الاقتصادية الحديثة قد جعل من كل حزب، ومن كل نقابة، ومن كل إدارة، أجهزة شبه شمولية تمشي في طريقها متخلية عن ثقلها النوعي ولا ترجع إلى الخلايا الفردية التي تتشكل منها. وهذه الأحزاب وهذه النقابات، وهذه الإدارات الدولانية الحديثة يحميها من مناهج العقل النقدي (وكذلك من الخفقات الشعورية والتمردات القلبية) خمولها الوحيد وذو السيادة".
لقد تدهورت أسلحة التمرد وتحولت عبر آلية الاحتواء الجهنمية إلى تروس في عجلة "الديموقراطية" الزائفة.
إلا أن جورج حنين يرى أن هناك ما هو أسوأ من انحطاط هذه الأسلحة: الاستسلام المخزي لهذا الانحطاط، ذلك الاستسلام الذي يتكشف ما أن يتمتم المهزومون: وما العمل؟ إننا لا نملك بديلاً أحسن!
إن هذا التبرير العاجز يذكر جورج حنين بـ "سينما يغرق فيها المرء، مطأطئ الرأس، لخصم ساعة من الوجود على ظهر الأرض"!.
وسرعان ما يتحول هذا التبرير إلى قوة مدمرة واسعة الانتشار: إنه يتحول إلى "استثمار، فلسفة، حالة أهلية، سيد، نزوة، دليل براءة مسبق زائف من اقتراف جريمة، دعاء، سلاح، مومس، شهقة أو زفرة، قاعة انتظار، فريرة، فن تصدق على النفس، بوصلة للمراوحة في المكان، شاهد قبر"، أو إلقاء قنبلة ذرية على هيروشيما وأخرى على نجازاكي!
ويدين جوج حنين هرب الإنسان المعاصر من الحرية ومن تحمل المسئولية ويسخر من ذلك "المواطن الصالح" الذي يعتقد أن بوسعه أن ينام نوماً عميقاً في ظل الملاك الحارس: القنبلة الذرية!
وإذ يرصد الشاعر الكبير واقع أن "جهاز الرعب لا يزال بعيداً عن أن يكون خالياً من الترددات ومن التمزقات"، يستشعر الأمل ويتساءل: "من الذي سوف يكسر القيد؟".
وسرعان ما ترتسم في مخيلة الشاعر صورة "جيل جديد من الموسوعيين ينطلق من الجرأة الهازئة نفسها التي انطلق منها الجيل السابق".
كان هذا الجيل السابق يتألف من رجل مثل جان جاك روسو (1712-1778)، ابن الساعاتي والصعلوك المولود في جنيف والذي قال: "لقد ولد الإنسان حراًّ، إلاَّ أنه مكبل بالأغلال في كل مكان" ومثل فولتير (1694-1778)، الأديب الساخر الذي كان "يضرب ويحرق مثل صاعقة".
إن إشارة الشاعر واضحة بما يكفي، إلاَّ أنه لا يتردد في توضيحها أكثر فأكثر: "إن الروح الرافضة لإهدار الكرامة الإنسانية يجب أن تمتد ناراً عبر مجمل السهب البشري" وعندئذ لن يكون الإنسان بحاجة لخصم ولو لحظة واحدة من الوجود على ظهر الأرض!.
0 التعليقات:
إرسال تعليق