بشير السباعي
تتواصل في مصر الآن حملة شرسة على حرية التعبير الأدبي، ليست جديدة على أية حال، وإن كانت قد أصبحت تمثل، بشكلٍ متزايد، ملمحاً لا ينكر من ملامح النزاع الإيديولوجي المحتدم في أوساط الانتلجنتسيا (بالمفهوم الواسع لهذا المصطلح الأخير) حول آفاق تطور المجتمع. ولعل مما له دلالته في هذا السياق أن محركي الحملة هم إيديولوجيون ليس لهم صلة مباشرة بالإنتاج الأدبي، فهم ليسوا أدباء ولا نقاد للأدب، بل صحافيون ومهيجون ديماجوجيون محترفون.
وتعرف جميع أطراف النزاع أن الهدف النهائي لهذه الحملة هو إخراس كل خروج أدبي تجديدي على الاتباعية، وذلك كجزء من استراتيجية عامة لا تخفي عداءها للمبادئ التكوينية لخطاب الحداثة، وبهذا المعنى، لا تمثل الحملة الدائرة الآن غير حلقة جديدة في صراع يهدأ تارة ويحتدم تارة أخرى في مسيرة الثقافة الروحية المصرية على مدار التاريخ الحديث والمعاصر، إلا أن ما يزيد من احتدامه الآن بشكل خاص هو المعارك التي تخاض الآن على مستوى عالمي بين مختلف خطابات الهوية، الإثنية والقومية وعبر القومية، والإجتماعية كذلك.
ومن الواضح أن الهدف المباشر لهذه الحملة هو محاولة عزل الأدباء الحداثيين أمام الرأي العام، السديمي بحكم شروط تاريخية معروفة، وإشاعة جو من الابتزاز المعنوي يجري فيه حديث ممل عن خروجهم على تراث الأمة، في زمن لعل أهم ما يميزه هو التحول المتواصل، بما في ذلك تحول الأمم نفسها واحتدام أزمة هياكلها الموروثة، وهو واقع لا ينكره الأعمى نفسه. ويجري ذلك الحديث من باب التمهيد لتجريم عبثي لهؤلاء الأدباء لإنزال العقاب بهم، سواء كان ذلك على يد أجهزة الدولة الحالية أم على يد أجهزة خارجة عن الدولة تخطط، كما هو معروف للجميع، لأن تخلف الأخيرة عندما تسنح الظروف لذلك، وهو خيار يدل على مدى التخبط الذي تحدثه تحولات عالمنا المعاصر السريعة في صفوف عدد من الأوساط العاجزة عن الارتفاع إلى مستوى التحدي الذي تمثله هذه التحولات.
والحال أن التيمات الأساسية لهذه الحملة إنما تظل من حيث الجوهر تيمات فاشية، بما يتماشى مع عدد من الديناميات التي تترتب على البربرية التي تنتجها أزمة أسلوب الحياة المعاصر على المستوى العالمي: فحرية التعبير ليست مطلقة، بل هي مشروطة بعدم الخروج على مجموعة من الموروثات التي يجب أن تكون حاكمة للفعل الأدبي، وذلك على الرغم من أن هذه الموروثات تشهد بشكل متواصل إعادة تعريف لها على أسس براجماتية غالباً وتبعاً لمسار الأزمة المذكورة ومستويات تأثيرها على الهياكل – الملاذات الموروثة، وعلى الرغم من أن هذه الموروثات خارجة بالضرورة عن طبيعة الفعل الأدبي الذي لا يعرف غير قانون واحد هو قانون الصدق الأدبي والذي من البديهي أنه لا يملك إلاَّ أن يكون مصدر قلق في ظروف أزمة محتدمة تعجز أوساط اجتماعية عن التعامل معها فتؤثر الرياء والكذب والاحتيال بدلاً من الاعتراف بأن لحظة الحقيقة قد حانت؛ والدولة، الحالية أوالمنشودة، يجب أن تتدخل عبر مستوياتها المؤسسية المختلفة لإحكام الضبط والربط داخل الحياة الثقافية والروحية، مع ما يستوجبه ذلك من تشديد هيمنة أجهزة رقابية بيروقراطية على الإنتاج الأدبي وتحريك أجهزة إعمال القانون ضد الإدباء الخارجين على الرياء والكذب والاحتيال، وبهذا يتم الحفاظ على روح الأمة التي لم يعد بوسع شيء أن يحافظ عليها سوى جسد الدولة! فيالها من فيتيشية تليق بوثنيين حقيقيين على أبواب عصر جديد!
والنتيجة أن محركي الحملة بدلاً من أن تكون لديهم فكرة سامية عن أنفسهم، فيحتكمون في التعامل مع الإنتاج الأدبي إلى قانون الصدق الأدبي، إنما يحتكمون إلى ... الشرطة، الحالية أو المنشودة، والتي يتنازلون لها عن طيب خاطر، عن دور التعامل مع ... الأدب!، غافلين عن حكم الإعدام على الذات الذي يصدرونه بذلك على أنفسهم. وإن كان من الواضح أن ذلك الحكم يليق بهم تماماً وتجيزه مبادئ الحرية، إلا أن من الواضح كذلك أن هذا الموقف هو إساءة تربية للجمهور الذي يتوجهون إليه من حيث أنه يصور رذيلتهم الشخصية في صورة فضيلة عامة يجب أن يسعى إليها هذا الجمهور!
فما هي النتائج التي يمكن أن تترتب على خيارات هؤلاء الديماجوجيين؟.
من الواضح أنها لا يمكن أن تخرج عن مجموعة النتائج والتداعيات التي تترتب عادة على إطلاق مثل هذه الدينامية الشريرة: فعندما يسود مناخ ابتزاز منتجي الأعمال الأدبية الحداثية، يتراجع تطور الأدب وتطور الحياة الروحية للمجتمع بشكل عام، بحيث يصبح من السهل إفقار هذه الحياة من دينامية الازدهار والتجدد، وهي الدينامية الوحيدة الكفيلة بتأمين بقاء الأمة التي يجري التباكي على الخروج على تراثها. ولابد أن يجيء وقت يجري فيه تحريم كل الفنون الجديدة على الثقافة الروحية لهذه الأمة من موسيقى كلاسيكية وأوبرا وباليه ومسرح وسينما وأدب روائي، إلخ، مادامت كل هذه الفنون ليست نتاج الأصالة بل نتاج الحداثة.
ومن جهة أخرى، يؤدي استخدام الكبت والملاحقات المؤسسية وغير المؤسسية للأدباء إلى توسيع نفوذ المكونات السلطوية في الثقافة السياسية للمجتمع والتهديد بتهميش ومحو المكونات الديموقراطية، الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه أمام شمولية استثنائية يحلم بها محركو الحملة الذين يفتحون صندوق باندورا ويطلقون شروره على الأمة الجريحة التي يزعمون كاذبين الخوف على مستقبلها بعد أن كسروا وجه يانوس الذي ينظر إلى المستقبل وأبقوا على وجهه الذي ينظر إلى الماضي!
لكن أعداء هذه الأمة لا يحلمون بشيء أكثر من اختزالها إلى هذا المصير، والذي لا يرمز إلا إلى انحطاط تاريخي ينذر بإخراجها من مسرح التاريخ لحساب هؤلاء الأعداء المسلحين حتى الأسنان. وهكذا تتكشف الحملة الدائرة الآن عن مسخرة تراجيدية: فهي إذ تبدأ من دعاوي تأمين هوية الأمة، ويندرج في سياقها ديماجوجيون لهم تاريخ استفزازي معروف، إنما تنتهي إلى خلق شروط أنسب لتأكيد الهيمنة الإمبريالية والصهيونية على الأمة الجريحة التي قدمت تضحيات عظيمة من أجل مصير أفضل.
ولا يقل عن هذه المسخرة عاراً تجنب مثيري الحملة مناقشة الأعمال الأدبية وفقاً لمعايير نقد الأدب ونزوعهم المتكرر إلى استدعاء الشرطة لحمايتهم مما يسميه أستاذ بالجامعة الأميركية بالقاهرة بالإيذاء المعنوي الذي تسببه لهم هذه الأعمال التي لا يفهمونها، وهو استدعاء يدل على خوائهم الروحي، ناهيك عن أنه فعل مشين حين يصدر من جانب حملة أقلام يوجهون الرأي العام فيبدون في صورة حملة أغلال ومفاتيح زنازين. فالشرطة لا يمكن أن تفصل في مسائل الأدب بأساليب الأدب، بل بأساليب الشرطة، وهذا من البديهيات التي يعرفها حتى الحرافيش في جميع الأمم، فما بالك بالأساتذة الجامعيين.
وعندما يحاول عدد من مثيري الحملة تجميل أنفسهم، كما يخيل لهم، فإنهم يكتفون، مرحلياً، بالدعوة إلى تدخل أجهزة رقابية، لكن الرقابة، وهذا معروف منذ زمن بعيد، ليست نقداً أدبياً، بل هي نقد رسمي والنقد الرسمي هو تعسف بيروقراطي على حساب العقل الإبداعي. فهل يرجو أعداء هذه الأمة لها دركاً أسفل من هذا الدرك؟
إن الكابوس الأورويلي الذي يلوح في الأفق ونلمس الآن ارتسام معالمه هو كابوس يجب أن ينزاح، إلا أنه لن ينزاح من تلقاء نفسه، بل يجب تبديده من خلال كشف الرياء الإجرامي الذي يذرف دموع التماسيح على تراث الأمة، بينما يحفر لهذه الأمة نفسها قبرها في تواطؤ مشين مع أعدائها!
أوائل عام 1997
0 التعليقات:
إرسال تعليق