مجلة "أدب ونقد"، مارس 1990
جوجول
لا تستند فكرة "الشخصية القومية" أو "الخصوصية السيكولوجية" أو "التكوين النفسي المشترك" لشعب من الشعوب إلى أي أساس علمي، حتى الآن على الأقل!
والأرجح أن هذه الفكرة تجد جذوراً لها في الفولوكلور وقد تسربت من الفولوكلور إلى فلسفات التاريخ المثالية، خاصة فلسفات التاريخ الكلاسيكية الألمانية وإلى جانب من الكتابات الاستشراقية ثم لقيت انتشاراً واسعاً في كتابات الأيديولوجيين القوميين، خاصةً خلال فترات الحروب "الساخنة" و"الباردة" على حد سواء.
وقد وقف الجمهور القارئ العربي على جانب من الصياغات الأوروبية لهذه الفكرة من خلال كتابات السوسيولوجي المثالي الفرنسي جوستاف لوبون (1841-1931)، الذي ترجمت أعماله الرئيسية إلى العربية في أوائل هذا القرن.
وقد تسربت هذه الفكرة إلى صفوف الإنتلجنتسيا اليسارية العربية من خلال كراس جوزيف ستالين (1879-1953) "الماركسية والمسألة القومية" (1913) الذي أدرج "التكوين النفسي المشترك" في تعريف الأمة، مواصلاً بذلك جانباً من آراء أوتو باور (1881-1938) التي كان الأخير قد أعرب عنها في كتابه "المسألة القومية والاشتراكية الديموقراطية"، الصادر في فيينا في عام 1907. وغني عن البيان أن لينين (1870-1924) قد سخر من آراء أوتو باور السيكولوجية في معرض نقاشه لمسألة حق الأمم في تقرير مصيرها بنفسها.
وفي كتابه الأخير، "الزلزال السوفيتي" (دار الشروق، القاهرة، 1990)، عاد محمد حسنين هيكل إلى تفجير مسألة "التكوين" هذه بحديثه عن "تكوين الشعب الروسي"، دون أن يمهد لهذا الحديث بأي تبرير علمي لفكرة "التكوين" هذه، وكأنها من المسلَّمات التي لا تقبل نقاشاً!
وأياً كان الأمر، يرى الكاتب أن هذا "التكوين" متأثر بتراث "العبودية" (يقصد نظام حلسية الأرض الذي أباح للملاك التعامل مع الفلاحين كما لو كانوا مواشي يمكن بيعها مع الأرض أو منحها كهدية، وهو "حق" ألغي في فبراير 1861 بسبب تزايد الاضطرابات الفلاحية وتجاوباً مع جانب من متطلبات التطور الرأسمالي).
ويرى الكاتب أن تأثر "تكوين الشعب الروسي" بهذا التراث كان حاسماً، بحيث أن الروسي العادي [الذي ناضل من أجل إلغاء حلسية الأرض، كما تشهد على ذلك حرب الفلاحين الكبرى بين عامي 1773 و1775 واضطرابات أوائل الستينيات الفلاحية في القرن التاسع عشر ب. س. ] "يريد من حاكمه أن يكون نصف متوحش ونصف إله، وهذا بين ضمانات استمرار شرعيته" (ص 95)!
وهذا الادعاء، كما يمكن أن نرى، ليس جديداً تماماً، فقد سبق للأديب الروسي جوجول (1809-1852) أن ردد زعماً قريباً منه في كتابه "فقرات مختارة من مراسلات مع أصدقاء" (1847). لكن هذا الزعم قوبل في حينه بالتفنيد من جانب الناقد الروسي بيلينسكي (1811-1848) في رسالته الشهيرة إلى جوجول والمؤرخة في 3 يوليو 1847. وقد ذكر بيلينسكي في هذه الرسالة – البيان أن هذا الزعم "لم يلق تعاطفاً لدى أحد وأدى إلى الانتقاص من شأنك حتى في أعين الأشخاص الذين تعتبر نظرتهم قريبة للغاية من نظرتك؛ في مسائل أخرى".
بيلينسكي
ويجب أن نتذكر أن كثيرين قد وقفوا إلى جانب بيلينسكي في دفاعه عن الشعب الروسي ضد مزاعم جوجول وأن التهمة التي قادت دستويفسكي (1821-1881) إلى الأشغال الشاقة كانت هي تلاوته رسالة بيلينسكي إلى جوجول في أحد الاجتماعات السرية(1).
وفي سياق ادعاء محمد حسنين هيكل، فإن تاريخ روسيا السياسي الحديث في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين يبدو بوصفه تاريخ "صراع بين المثقفين والقياصرة" (ص ص 68-69)!
وإذا كان صحيحاً أن الصراع بين المثقفين والقياصرة هو ملمح لا ينكر من ملامح التاريخ السياسي الروسي الحديث، خاصة خلال الفترة الممتدة من أواخر عشرينيات إلى أواخر خمسينيات القرن التاسع عشر، والتي تميزت بركود الحركة الفلاحية، فإن الصحيح أيضاً، هو أن "الروسي العادي" (خاصة العامل) كان القوة الرئيسية في الصراع ضد القيصرية خلال الفترة ذاتها التي يزعم الكاتب أنها لم تعرف غير الصراع بين المثقفين والقياصرة!
ولو كان صحيحاً أن "الروسي العادي" - كما يزعم الكاتب – "يريد من حاكمه أن يكون نصف متوحش ونصف إله، وهذا بين ضمانات استمرار شرعيته"، فكيف يفسر لنا الكاتب ثورة "الروسي العادي" هذا نفسه على أنصاف المتوحشين وأنصاف الآلهة في الثورة الروسية الأولى بين عامي 1905 و1907 والثورة الروسية الثانية في فبراير 1917 والثورة الروسية الثالثة في أكتوبر 1917 وخلال الحرب الأهلية الروسية بين عامي 1918 و 1921 (ثلاث ثورات وحرب أهلية مجموع سنواتها الدرامية ثماني سنوات خلال ست عشرة سنة فقط، وهو رصيد كفاح في سبيل الحرية يتجاوز رصيد كفاح أي شعب أوروبي آخر في التاريخ الحديث علاوة على مغزاه التاريخي – البشري العام)؟!
وإذا كان من المؤسف أن يردد كاتب – على مشارف القرن الحادي والعشرين – خرافات يفندها التاريخ الروسي منذ القرن الثامن عشر، إن لم يكن منذ ما قبل ذلك أيضاً(2)، إلا أن هذا هو حال الكتاب الذين لم يتمكنوا حتى الآن من تجاوز الأساطير التي كانت رائجة خلال فترات ذروة الحرب الباردة!
الهوامش:
1- لابد من التشديد على أن "هفوة" جوجول تتعارض مع جوهر أعماله الإبداعية الخالدة وهو ما أشار إليه كبار النقاد الروس. وخلال الذكرى الخمسين لرحيل الأديب الكبير، دعا ليون تروتسكي (1879-1940) إلى اغتفار الهفوة "الصحافية" لقاء ما قدمه جوجول من خدمة عظمى للأدب. وواضح أن المسألة مع محمد حسنين هيكل ليست مسألة هفوة "صحافية" بل مسألة موقف مقصود يتخلل كتاباته عن الاتحاد السوفيتي.
2- بين عامي 1606 و1607، شهدت روسيا أول حروبها الفلاحية. وبالمناسبة، فقد كان إيفان بولوتنيكوف، قائد الفلاحين في هذه الحرب، "عبداً" حقيقياً سابقاً، وكان في وقت من الأوقات سجيناً في تركيا. ولم ينجح القيصر فاسيلي شويسكي في سحق المتمردين، المتمركزين في مدينة تولا باستخدام قوة السلاح فلجأ إلى بناء سد على نهر أوبا وأغرق جزءاً ملحوظاً من المدينة لإجبار المتمردين على الاستسلام وهو ما حدث في أكتوبر 1607. وقد استكمل القيصر وحشيته بعد استسلام المتمردين بإنزال القمع الوحشي بهم وبتنكره لتعهده بعدم إعدام بولوتنيكوف، حيث أمر بسمل عينيه وإغراقه حياً في حفرة من الجليد!.
0 التعليقات:
إرسال تعليق