بشير السباعي
خلال الأيام الأولى لشهر مارس 1938، مثل نيكولاي بوخارين (1887-1938) أمام "القضاء" (!) الستاليني في محاكمة ال 21 الصورية الشهيرة التي انتهت بإعدامه رمياً بالرصاص بعد أن تأكد لهيئة المحكمة – دون دليل واحد! – أنه "عدوٌّ للشعب" منذ عام 1918 على الأقل!
ولا شك أن محاكمة بوخارين قد سببت صدمة عميقة لجورج حنين، تفوق كثيراً الصدمة التي سببتها له محاكمة موسكو الصورية في عام 1936 ومحاكمة عام 1937.
فمنذ ربيع عام 1936 على الأقل كان بوخارين قد أصبح واحداً من ملهمي جورج حنين. ففي أبريل 1936، قرأ الشاب المصري الذي لم يكن قد أكمل بعد عامه الثاني والعشرين كراس بوخارين، "المشكلات الأساسية للثقافة المعاصرة"، في ترجمته الفرنسية التي صدرت في أوائل ذلك العام في باريس ضمن سلسلة "وثائق روسيا الجديدة".
وقد توقف جورج حنين طويلاً أمام الفقرتين التاليتين من الكراس المذكور:
"إن تحليلاً لمجريات الأمور يدفعنا إلى أن نستشف، ليس موت المجتمع، بل موت شكله التاريخي الملموس وانتقالاً حتمياً إلى المجتمع الاشتراكي، انتقالاً بدأ بالفعل، انتقالاً نحو هيكل اجتماعي أرقى، والمسألة ليست مسألة مجرد انتقال إلى أسلوبٍ أرقى للحياة، وإنما أرقى على وجه التحديد من الأسلوب الذي هو اليوم أسلوبها. فهل يمكن الحديث عن ذلك الشكل الاجتماعي الأرقى بوجه عام؟ ألن يجرنا ذلك إلى الذاتية؟ وهل يمكن الحديث عن معايير موضوعية من أي نوع في هذا الصدد؟ إننا نعتقد ذلك. ففي المجال المادي، يتمثل معيار كهذا في قوة مردود العمل الاجتماعي وفي تطور هذا المردود، لأن ذلك يحدد مقدار العمل الفائض الذي يعتمد عليه مجمل الثقافة الروحية. وفي مجال العلاقات الإنسانية المباشرة، يتمثل معيار كهذا في اتساع مجال اختيار المواهب الابداعية. وعلى وجه التحديد، عندما يكون مردود العمل مرتفعاً جداً وعندما يكون مجال الاختيار واسعاً جداً، سوف يتحقق الحد الأقصى من إثراء الحياة الداخلي لدى عدد أكثر من الناس، ليس بوصفهم مجموعاً حسابياً وإنما بوصفهم جماعة اجتماعية".
"إن تحليلاً لمجريات الأمور يدفعنا إلى أن نستشف، ليس موت المجتمع، بل موت شكله التاريخي الملموس وانتقالاً حتمياً إلى المجتمع الاشتراكي، انتقالاً بدأ بالفعل، انتقالاً نحو هيكل اجتماعي أرقى، والمسألة ليست مسألة مجرد انتقال إلى أسلوبٍ أرقى للحياة، وإنما أرقى على وجه التحديد من الأسلوب الذي هو اليوم أسلوبها. فهل يمكن الحديث عن ذلك الشكل الاجتماعي الأرقى بوجه عام؟ ألن يجرنا ذلك إلى الذاتية؟ وهل يمكن الحديث عن معايير موضوعية من أي نوع في هذا الصدد؟ إننا نعتقد ذلك. ففي المجال المادي، يتمثل معيار كهذا في قوة مردود العمل الاجتماعي وفي تطور هذا المردود، لأن ذلك يحدد مقدار العمل الفائض الذي يعتمد عليه مجمل الثقافة الروحية. وفي مجال العلاقات الإنسانية المباشرة، يتمثل معيار كهذا في اتساع مجال اختيار المواهب الابداعية. وعلى وجه التحديد، عندما يكون مردود العمل مرتفعاً جداً وعندما يكون مجال الاختيار واسعاً جداً، سوف يتحقق الحد الأقصى من إثراء الحياة الداخلي لدى عدد أكثر من الناس، ليس بوصفهم مجموعاً حسابياً وإنما بوصفهم جماعة اجتماعية".
لقد ذكر جورج حنين في عام 1945 أن هذه الكلمات قد ألهمته الأمل. ويبدو أن المنظور البوخاريني عن "مجتمع المستقبل" هو الذي حدد نشاطات جورج حنين إلى حد بعيد، خاصة خلال الفترة الممتدة من عام 1936 إلى أوائل الأربعينيات، حين أخذت المنظورات اليوتوبية تستأثر بجانب ملحوظ من شواغل شاعرنا، وإن كان ذلك لا يعني أن جورج حنين قد هجر المنظور البوخاريني تماماً، كما تشهد على ذلك إشادته في عام 1945 بـ "رؤى لافارج السخية" والتي لا تختلف من حيث الجوهر عن منظور بوخارين.
والحال أن واقع الثلاثينيات المرير قد حفز جورج حنين إلى التمسك بمنظور بوخارين عن "مجتمع المستقبل"، هذا المنظور الذي يؤكد على إثراء "الحياة الداخلي عند أكثر عدد من الناس"، وهو إثراء لا يمكن أن يتحقق دون تجاوز مختلف أشكال الاتباعية.
كان جورج حنين، الفنان، يعلم أن بوخارين لم يكن ثوريا وحسب، بل كان عاشقاً للرسم، وعاشقاً للمرأة، وكاتباً ساخراً تذكر سخريته بسخرية السورياليين السوداء.
كان بوسع فتاة صغيرة اسمها آنا لارينا أن تحب بوخارين، صديق أبيها، وأن تكتب له، في عام 1925، قصيدة حب:
"يجتاحني السرور حين ألقاك، ويقتلني الأسى في غيابك!".
وكان بوسع هذه الفتاة أن تدس رسالة حبها الأولى إلى بوخارين في يد ستالين (!) لكي يوصلها إلى المحبوب!
وكان بوسع بوخارين أن يسخر من استبداد ستالين، السكرتير العام للحزب، ويكتب مازحاً أن البشرية لم تنتقل من الوحشية إلى البربرية ثم إلى المدنية، بل انتقلت من المطريركية إلى البطريركية إلى السكرتارية!
وكان جورج حنين يحترم احتقار بوخارين للاستبداد ولانعدام المسؤولية تجاه الشعب. ولم يكن جورج حنين بحاجة إلى أن يقرأ رسالة بوخارين الأخيرة، والتي لم تنشر لأول مرة إلاَّ في عام 1971، لكي يدرك أن الافتراء على بوخارين وإعدامه يدلان على انعدام مسؤولية الستالينية تجاة الشعب، فأدلة هذا الانعدام للمسؤولية كانت تتراكم امام عينيه كل يوم.
والواقع أن جورج حنين قد اعتبر إعدام بوخارين دليلاً، بين آلاف الأدلة، على ابتعاد مسيرة البشرية ، ولو مؤقتاً، عن المنظور البوخاريني عن "مجتمع المستقبل". وهو ابتعادٌ تدل عليه حقبة الثلاثينيات الرجعية التي شهدت صعود الفاشية والستالينية.
وقد رأى جورج حنين أن اقتراب مسيرة البشرية من المنظور البوخاريني عن "مجتمع المستقبل" يتوقف، بين أمور أخرى، على سيادة أخلاق البروليتاريا الثورية ونسف أخلاق مضطهديها.
وقد كتب في عام 1945: "إن البروليتاريا لا يمكنها أن تحلم بالصعود عن طريق التماس الوسائل التي ينحط مضطهدوها بالتماسها". إن الغاية تقرر الوسيلة!
وعلى هذا الأساس، كان بوسع جورج حنين أن يعلن دون تردد: " إن السوس سوف ينخر في أساس الستالينية بسبب وسائل انتصارها ذاتها!". وذلك في الوقت الذي كان فيه الستالينيون المصريون يسبحون بحمد "الرفيق الأعلى" الذي بسط استبداده على شعوب بأكملها ويشاركون بنشاط في حملات الافتراء على زملاء لينين!
ولم يهتم جورج حنين، ولا أنور كامل فيما بعد، بافتراءات الستالينيين المصريين ضدهما بسبب دفاعهما عن بوخارين ضد جلاديه.
وفي 4 فبراير 1988، حانت لحظة الحقيقة، حين أصدرت المحكمة العليا السوفيتية حكمها ببراءة بوخارين من جميع التهم التي وجهها إليه قاتلوه.
مجلة "الكتابة الأخرى" ، القاهرة ، ديسمبر 1992
0 التعليقات:
إرسال تعليق