بقلـم : إيڤ لاكوسـت
ترجمة : بشير السباعي
ها قد أصبحنا على أبواب الذكرى الخمسين لاستقلال الهند، كما لاستقلال باكستان، بينما انقضى ما يزيد عن خمسين سنة على معركة ديان بيان فو [في الهند الصينية]. وها قد انقضى ما يزيد عن أربعين سنة، بعد ما يزيد عن سبع سنوات من الحرب، على نيل الجزائر استقلالها، بعد ست سنوات من استقلال المغرب الأقصى وتونس. أَمَّا استقلال المستعمرات البرتغالية، الذي جاء متأخرًا جدًّا عن استقلال المستعمرات الأخرى في أفريقيا الاستوائية، فقد مرت عليه الآن ثلاثون سنة. ولئن كان قد تسنى للبعض أن يتصوروا، على مدار سنين، أن صفحة من صفحات التاريخ قد طويت، فإنه يبدو، منذ مستهل الألفية الجديدة، أن مناقشة كبرى حول الاستعمار قد انطلقت من جديد للتوِّ ؛ ويبدو أن ذلك كان أقل بكثير بين الشعوب التي كانت ما تزال في القرن العشرين خاضعة للسيطرة الأوروبية، مما في المتروبولات الاستعمارية السابقة وبالأخص في فرنسا.
وفي البلدان التي كانت مستعمَرة، خاصة البلدان التي يعد استقلالها القومي حديثًا نسبيًّا، وحيث تعد تجليات الشعور القومي أحد العناصر الرئيسية المكوِّنة للحياة السياسية، تكاد تكون استعادة ذكرى النضال المشترك ضد الاستعمار طقسًا من الطقوس، لكنه طقس يتمتع بالقبول. وبالمقابل، في بلدان أوروبا الغربية، حيث قلَّما تعبر فكرة الأمة عن نفسها بشكل غالب، نجد أن الصحافة تقوم، بشكل متزايد باطراد، بترجيع صدى متجاوب عمومًا مع العديد من الخطابات والمؤلفات التي تشجب – ودعونا نستعيد صيغة مكرَّسة- الجرائم التي اقترفها الاستعمار على مدار قرون، بما في ذلك في أعوامه الأخيرة. فالاستعمار غالبًا ما يجري تشبيهه بالعبودية، بل، وبشكل متزايد باطراد غالبًا، بمشاريع إبادة متعمَّدة إلى هذا الحد أو ذاك.
والحال أن هذا الاتهام للاستعمار، بعيدًا عن أن يكون توسلاً إلى موقف عام قوامه التعبير عن الندم وطلب المغفرة من الشعوب التي كانت ضحية له، فإنه إنما يندرج بالأخص في الحقل السياسي الداخلي، خاصة في فرنسا. وهكذا جرى توجيه الإدانة بعد انقضاء زمن على وقوع الجرم إلى اليمين واليمين المتطرف، المتهمين باقتراف حروب استعمارية، بل وإلى اليسار الكلاسيكي الذي جرى تحميله المسئولية عن السياسة الاستعمارية للجمهورية الثالثة بل وجرى اتهامه بالتورط الحاسم في حرب الجزائر.
وفي ذلك الزمن، ناشد المعادون للاستعمار (كان عددهم قليلاً) مواطنيهم القيام بمطالبة حكوماتنا بإنهاء حرب كانت، في الموجة العامة لتصفية الاستعمار، لا مخرج لها وتجر العار على فرنسا. وبالرغم من شعار «الجزائر هي فرنسا» الذي تمادى كثيرون في استخدامه، فقد تعين في نهاية المطاف الاعتراف باستقلال أمة جديدة. وقد أدين الاستخدام المنهجي للتعذيب، لكن أحدًا لم يطرح آنذاك فكرة وقوع إبادة أخرى.
وفي أيامنا، نجد أن حركة جديدة معادية للاستعمار (معاداة جديدة للاستعمار؟) تؤيد، على المستوى الدولي بالتأكيد، حركات استقلال كحركة الشيشانيين أو الفلسطينيين (مدينةً أحيانًا الخطر الوشيك أو حتى الاقتراف الفعلي لإبادة)، لكن رهاناتها الرئيسية تتصل، في رأيي، بالسياسة الداخلية. ولكي نقدِّر الأهمية الحقيقية لذلك، يجب أن نلحظ بالفعل أن العلاقات بين بلدان أوروبا الغربية وبلدان آسيا أو أفريقيا قد طرأت عليها تغيرات جد عظيمة، ليس على المستوى السياسي وحده، وإنما أيضًا على المستوى الديموغرافي. ولم يعد الأمر يتعلق بالاستعمار، بل بما بعد الاستعمار.
والذي حدث ليس مجرد نيل الاستقلال (ولا يجب لمختلف أشكال الاستعمار الجديد أن تقلل من أهميته) وأن سكان كل مستعمرة من المستعمرات السابقة قد زاد عددهم ثلاث مرات – بحكم التغيرات الصحية في مجمل العالم- بل إن المهم بشكل خاصة هو أن علاقات الهجرة بين أوروبا الغربية وأفريقيا أو العالم الهندي قد انقلبت رأسًا على عقب. وفي العصر الاستعماري، فيما عدا حالات خاصة كالجزائر وجنوبي أفريقيا، كان تأمين السيطرة على البلدان الأفريقية والآسيوية يعتمد على أعداد جد ضئيلة من الأوروبيين ؛ وبما أنهم كانوا يجيئون في غالبيتهم من أوروبا، فقد كانوا يعودون إليها بمجرد انتهاء مدة خدمتهم (وهكذا، فإن الهند الإنجليزية، التي كانت تضم 300 مليون رجل وامرأة، كانت تدار من جانب نحـو 000 30 بريطاني، يدعمهم والحق يقال عدد من الوجهاء المحليين والمساعدين والموظفين «من أهل البلد»). ومنذ الاستقلال، وخاصة منذ بضعة عقود، نجد أن تحركًا في الاتجاه المقابل وذا أهمية مختلفة من الناحية العددية إنما ينشأ انطلاقًا من عدد كبير من بلدان آسيا وأفريقيا والمغرب العربي في اتجاه أوروبا الغربية، وبالأخص في اتجاه «متروپولات»ـها الاستعمارية السابقة.
ويتمثل اختلاف آخر في أن هذه الهجرات التي يمكن تسميتها بالهجرات بعد الكولونيالية إنما تنزع إلى الاستقرار في بلدان أوروبا الغربية.
والحال أن هذا الانغراس لعدد كبير من الهنود والباكستانيين والقادمين من جزر الهند الغربية والأفارقة القادمين من بلدان الكومونويلث، قد استتبع في المملكة المتحدة، منذ ستينيات القرن العشرين، ردود فعل عنصرية واستثارت هذه الأخيرةُ حركات معادية للعنصرية (انظر فيما بعد مقال دولفين پاپان). وقد حدث الشيء نفسه، إلى هذا الحد أو ذاك، في فرنسا، وإن كان اعتبارًا من ثمانينيات القرن العشرين بالأخص (يرجع أول تقدم انتخابي للجبهة القومية إلى عام 1983)، في حين أن صعود الهجرة الجزائرية ثم المغربية قبل عشرين سنة من ذلك، منذ أعقاب حرب الجزائر، قلَّما طرح في البداية مشكلة، وذلك بقدر ما أن البطالة (قبل عام 1975) لم تكن جد خطيرة.
وبما أن اليمين المتطرف يخوض الحملة خصوصًا ضد الجزائريين، وبشكل أعم ضد المغاربة، الذين يعيشون في فرنسا، فقد أمكن للحركة الجديدة المعادية للاستعمار أن تستعيد على نحو أفضل أيضًا، ضد هذه الحملة وضد اليمين، نبرة الشعارات المضادة للاستعمار ولحرب الجزائر (في ذلك الزمن طرح لو پَن نفسه بوصفه مؤيدًا لأطروحة الجزائر الفرنسية). وبما أن أكثر من نصف من يصل عددهم إلى نحو خمس ملايين من الأشخاص ذوي الثقافة الإسلامية الذين يعيشون في فرنسا قد ولدوا في فرنسا ومن ثم فهم فرنسيون، فإن بوسع الحركة الجديدة المعادية للاستعمار أن تخوض الحملة على المستوى الداخلي، مستخلصة الحجة على أن أشكال التفرقة التي يعاني منها أبناء المهاجرين هؤلاء هي البرهان على أن المجتمع الفرنسي مختَرَقٌ بـ«الصدع الكولونيالي) [Blanchar et al.,2005]، شأن كل مجتمع بعد كولونيالي آخر. وذلك بحيث إن «نداءً إلى محلفي المعاداة بعد الكولونيالية للاستعمار» قد أُطْلِقَ في 19 يناير/ كانون الثاني 2005 على موقع الإنترنت/ http://toutesegaux.free.fr%20(ونُقل/ خصوصًا على موقع http://www.oumma.com/، العزيز على أفئدة بعض الإسلاميين، وبمباركة أعضاء ناشطين في الحركة المعادية للاستعمار) بمبادرة من باحثين ومناضلين منبثقين من صفوف المهاجرين، الذين أعلنوا أنفسهم «مستعمَري الجمهورية» - فيما عدا أن المهاجرين المغاربة والأفارقة وأبناءهم يمثلون في فرنسا اليوم نسبة تتراوح بين 10% و12% من السكان، بينما كان «المستعمَرون» الحقيقيون [السكان الأصليون]، في المستعمرات، الأغلبيةَ الساحقة.
أنماط مختلفة للأوضاع الكولونيالية وبعد الكولونيالية
من المهم بالتأكيد التفكير في مسألة ما بعد الاستعمار، ليس، كما يزعم البعض، لـ«الضرب صفحًا عن الماضي»، وإنما للإمعان على نحو أكثر كفاءة في فهمه. ومنذ نحو عشرين سنة تتطور دراسات ما بعد الكولونيالية [post colonial studies] في الجامعات الأنجلو- أميركية، خاصة على أيدي باحثين وباحثات قادمين وقادمات من الاتحاد الهندي. وتتجه هذه البحوث بالأخص إلى دراسة مسألة الآداب المكتوبة بالإنجليزية وبلغاتٍ امبراطورية أخرى (انظر فيما بعد مقال إيميليين بانيث- نويليتاس). والحال أن مسألة ما بعد الاستعمار إنما تعد بالدرجة نفسها مقاربةً چيوسياسية.
ومن المؤكد أنني أعني بـ«مسألة»، سيرًا على نهج معجم روپير، ليس الرد على استجواب، بل أعني مشكلة تنطوي على صعوبات تستوجب حلاًّ على المستوى النظري أو على المستوى العملي، أي أعني، باختصار، جملة من المعارف الناقصة وغير الأكيدة من شأنها إثارة نقاشات. ففي أواخر القرن التاسع عشر، تناول الديبلوماسيون «المسألة الشرقية» بخصوص الدولة العثمانية. وعندما كتب ستالين في عام 1913 حول المسألة القومية (كراس الماركسية والمسألة القومية)، كان حريصًا على ألاَّ يعرض غير جوانبها النظرية، التي لا تعد في تناقض كبير مع نضالات الطبقات التي اعتبرها لينين، على العكس من ذلك، صاحبة الصدارة. وبدلاً من أن أطرح هنا بدرجة عالية من التجريد والعمومية نوعًا من نظرية عامة عن الاستعمار – والأمر يتعلق أساسًا بظواهر چيوسياسية بشكل واضح (تنافس سلطات على أراضٍ وعلى من عليها من البشر) -، بدا لي أن من الأكثر فائدة أن أعرض بشكل موجزٍ التنوعَ جد العظيم لما كانت عليه الأوضاع الكولونيالية والتنوع الأعظم بكثير للأوضاع بعد الكولونيالية، فالأمر يتعلق أيضًا بأوضاع المتروپولات الاستعمارية السابقة. وأحيانًا تسمح بعض الخطابات الحالية حول الاستعمار بالاعتقاد بأنه كان من نوع واحد في جميع الأنحاء، في حين أن أشكال الاستعمار كانت جد مختلفة بعضها عن البعض الآخر، وذلك بحسب العصور والأقطار.
إن ما يسمى بالاستعمار لهو ظاهرة چيوسياسية غير عادية، فقد امتد على شبه إجمالي القارات (فيما عدا قارة أنتاركتيكا الجليدية): كل أفريقيا وأميركا وجزء كبير جدًا من آسيا. أمَّا فيما يتعلق بالدول التي لم تكن مستعمَرة فهي تتصل بمسألة ما بعد الاستعمار، لأن غالبيتها قامت بفتوحات استعمارية، أكان الأمر يتعلق بدول أوروبا الغربية أم بروسيا التي ما تزال تسيطر اليوم على شعوب القوقاز وسيبيريا. أَمَّا شعوب البلقان فقد كانت إلى القرن التاسع عشر تحت سيطرة الدولة العثمانية. إلاَّ أن بوسعنا التساؤل، في هذه الحالة، عما إذا كان الاستعمار، على الأقل الاستعمار الذي يبدأ باكتشاف أميركا في القرن السادس عشر، لم يعن، بشكل حصري، سيطرة أوروبيين على غير أوروبيين.
فالحال أن توسع الإنجليز الاستعماري قد بدأ تقريبًا بأيرلنده – حيث أدت استحواذاتهم هناك إلى التسبب في مجاعة رهيبة من عام 1845 إلى عام 1847 وقد تشبثوا بهذه الجزيرة جد القريبة إلى أوائل القرن العشرين. أّمَّا اليابان فهي لم تُستَعمَر، لكنها – بالمعنى الأوروبي تمامًا للمصطلح- استعمرت فورموزا وكوريا ومنشوريا. ولم تفلت الصين من وضعية المستعمَرة أو المحمية إلاَّ بفضل التنافسات فيما بين نصف دزينة من الإمبرياليات النَّهابة، لكنها ما تزال تسيطر إلى اليوم على التبت وسين كيانج وجزء كبير من مُنغوليا، حيث ينتهج الصينيون چيوسياسة استيطان حقيقية على حساب السكان الأصليين.
مستعمرات الاستيطان (الأوروپي) ومستعمرات استغلال (السكان الأصليين)
من المعروف أنه قد جرى من الناحية الكلاسيكية تمييز المستعمرات المسماة بمستعمرات الاستيطان (الأوروبي) عن مستعمرات «تأطير» أو «استغلال» (السكان الأصليين). والأولى هي القارات الأميركية والأسترالية حيث أمكن إضعاف توطن السكان الأصليين المحدود من الناحية العددية نسبيًّا إضعافًا قويًّا عن طريق «الصدمة الحموية»، أي عن طريق الانتشار غير المقصود لأمراض العالم القديم بين صفوف الجماعات السكانية التي لا تملك المناعة لتحمل هذه الأمراض والتغلب عليها. وعلاوة على ذلك، فإن «مستوطنات الاستيطان» هذه، والتي تتمتع عمومًا بـ«سمعة طيبة»، هي أيضًا المستعمرات التي كانت قد مورست فيها أشكال مختلفة من الإبادة: في پيرو، عبر الاستخدام، القاتل عمدًا، لنظام السخرات الزراعية التقليدية في استغلال مناجم الذهب والفضة (المفتقرة إلى أي نظام للتهوية) ؛ وفي الولايات المتحدة وكندا، إلى أواخر القرن التاسع عشر، عبر المذابح التي استهدفت القبائل الهندية والقضاء المنهجي على الثيران البرية الأميركية التي كانت هذه القبائل تتغذى على لحومها، ونشر الجدري عن طريق توزيع أغطية موبوءة في الوقت الذي كان الأوروبيون قد حصلوا فيه على تطعيم ضد المرض. أَمَّا القضاء على السكان الأصليين فقد كان منهجيًّا في پاتاجونيا وفي مناطق شاسعة من أستراليا. وفي جزء كبير من العالم، فمما لا شك فيه أن إبادات متعمَّدة حقيقية كانت أدوات لتوسيع مستعمرات الاستيطان التي استوعبت فوائض النمو الديموغرافي القوي الذي عرفته أوروبا الغربية في القرن التاسع عشر.
وبفعل هجرة قوية، سرعان ما أصبح الأوروبيون أغلبية سكان هذه المستعمرات. وقد مارس هؤلاء السكان زراعة المحاصيل الغذائية ليقتاتوا عليها والحال أن القدرة على توزيع مساحات شاسعة من الأراضي التي أصبحت «بكرًا» من جراء اختفاء السكان الأَصليين قد أسهمت إلى حد بعيد في تكوين مجتمعات مساواتية وديموقراطية إلى هذا الحد أو ذاك. إلاَّ أنه يجب أن نلاحظ على أي حال أن استيراد عبيد أفارقة إلى جزر الهند الغربية والبرازيل والولايات المتحدة هو شكل «خاص» وأقل ديموقراطية بكثير بين أشكال المستعمرات الاستيطانية.
أَمَّا مستعمرات الاستغلال، والتي كانت الأوفر عددًا إلى حدٍّ بعيد، فهي المستعمرات التي تمكن فيها الأوروبيون، عبر وسطاء مختلفين، من تشغيل السكان الأصليين، أو، كما في أميركا، العبيد الذين جئ بهم من أفريقيا لكي يقوموا بإنتاج الحاصلات الزراعية غير الغذائية والمكلِّفة نسبيًّا وذلك بهدف بيعها في أوروبا، حيث لم يكن بالإمكان إنتاجها فيها. وهكذا فقد كانت غالبية مستعمرات الاستغلال موجودة في العالم الاستوائي. على أن التمييز الكلاسيكي بين مستعمرة الاستيطان ومستعمرة الاستغلال إنما يُعَدُّ تبسيطيًّا إلى حد بعيد، ذلك لأن المستعمرتين قد قامتا في الولايات المتحدة كما في أميركا اللاتينية – فمستعمرات الاستغلال الأميركية اللاتينية في بداية الاستعمار قد تحولت شيئًا فشيئًا إلى مستعمرات استيطان بحكم الهجرة الأوروبية والامتزاج الثقافي من جانب الأميركيين الهنود أو من جانب أحفاد الأفارقة الذين يتحدثون الآن بالإسبانية أو بالبرتغالية في غالبيتهم العظمى.
تحالف مجموعات صغيرة من الأوروبيين مع الوجهاء المحليين
إن الخصائص الاقتصادية والثقافية المعاصرة لغالبية البلدان التي كانت مستعمَرة هي إلى حد بعيد نتيجة لأشكال السيطرة التي مارستها الدول الاستعمارية المختلفة ولخيارات المستعمِرين الچيوسياسية. ويجب أولاً أن نفهم كيف كان استعمار جماعات سكانية وفيرة الأعدَاد ودولٍ قوية ممكنًا، في حين أن الفتح في غالبية الحالات قد تم القيام به من جانب مجموعات جد صغيرة من الأوروبيين (و، في حالة الاستعمار البريطاني، من جانب وكلاء شركات تجارية خاصة). فمع أنهم لم يكونوا يحوزون قبل القرن التاسع عشر أسلحة ذات كفاءة خاصة، سرعان ما سيطروا على إمبراطوريات قوية (إمبراطوريات الأزتيك والإنكا في أميركا وإمبراطورية المغولي الأكبر في الهند)، أكان بالاعتماد على أقليات مستعبَدة انتفضت ضد السادة المحليين، أم بالتحالف (كما في الهند) مع الوجهاء المحليين، الذين وجدوا في النظام الحقوقي الذي أدخله الأوروبيون فرصة للاستيلاء على الأراضي التي كان التقليد الموروث والحاكم يعهدان بإدارتها (بشرط دفع ضريبة) إلى المشتركات القروية. وفي أفريقيا الاستوائية، اعتمد المستعمِرون الأوروبيون في القرن التاسع عشر على الأقوام التي كانت ضحية لتجار العبيد الأفارقة. وما كان للاستعمار أن يكون ممكنًا من دون موافقة مجموعات محلية وأعيان محليين. على أن أحفادهم، إلى حد بعيد، هم الذين قادوا في القرن العشرين الحركات المنادية بالاستقلال، سعيًا إلى التخلص من الوصاية التي تفرضها السلطات الاستعمارية.
والحال أن دور الأعيان المحليين، المتواطئين مع الاستعمار والمستفيدين منه، قبل أن يصبحوا منافسين له إلى هذا الحد أو ذاك، إنما يعد رئيسيًّا بالنسبة لفهم سير عمل الاستعمار الجديد في الأوضاع بعد الكولونيالية.
تنوع الأوضاع بعد الكولونيالية
مجتمعات بعد كولونيالية قديمة وجد خاصة
في أميركا، مع ذلك، لم يكن السكان الأصليون هم الذين أحرزوا الفوز للنضال في سبيل الاستقلال، بل الأوروبيون الذين ولدوا في المستعمَرة (من يسمون في أميركا اللاتينية بالكريول)، والذين كانوا يريدون تعزيز سلطتهم ضد الموظفين القادمين من أوروبا والتخلص من الاحتكار التجاري الذي يمارسه المتروپول. وقد بنت مستعمرات أميركا الجانب الرئيسي من ثروتها على استغلال اليد العاملة المحلية و، بالنسبة لبعضها، على استغلال اليد العاملة للعبيد الذين جئ بهم من أفريقيا. إلاَّ أنه عندما اتخذ الاستثمار مقاييس ملحوظة وبعد حظر تجارة العبيد من حيث المبدأ بعد عام 1815، تعين الاعتماد تدريجيًّا على عمال أحرار قادمين من أوروبا مُنحَت لهم أراض إلى هذا الحد أو ذاك. ومن ثم أصبحت المستعمرات مستعمرات استيطان أوروبي. وقد قام الأوروبيون بإنشاء غالبية المدن الكبرى في أميركا اللاتينية قرب السواحل وهم الذين جلبوا المحاصيــل القادمـة مـن آسيا - القطن، قصب السكر، البن- لكي يقوموا بتصدير منتجاتها إلى أوروبا. والولايات المتحدة هي الحالة الوحيدة لتحول جد ملحوظ لمستعمَرة قديمة إلى بلد صناعي جد عظيم.
وفي تحليل العلاقات بعد الكولونيالية، تجب من ثم مراعاة العصر الذي تحقق فيه الاستقلال، أي فصل السلطات السياسية بين المتروپول والمستعمَرة، وإن كان يجب أيضًا مراعاة الخصائص الاجتماعية والثقافية للمتروپول من جهة وللمستعمَرة من الجهة الأخرى، ليس فقط الخصائص الاجتماعية والثقافية لجمهرة السكان وإنما أيضًا الخصائص الاجتماعية والثقافية للجماعات الحاكمة للسكان. ويتوجب في هذا الصدد أن نأخذ بالحسبان إلى أبعد حد ما بين اللغات من أوجه خلاف وأوجه تشابه.
ولتقييم مجمل التطورات الممكنة للعلاقات بعد الكولونيالية، ليس مما لا طائل من ورائه التحدث عن الحرب الأولى بين حروب الاستقلال، أي حرب الولايات المتحدة الأميركية (1775-1783). فسكان الولايات المتحدة، بالرغم من أنهم جاءوا من بريطانيا العظمى ومن ثم كانوا يتكلمون الإنجليزية، قد ثاروا على السيطرة الاستعمارية التي تفرضها المملكة المتحدة (التي فرضت احتكارها التجاري خاصةً). وقد انتزع «الأميركيون» استقلالهم عبر نضال مستميت وأسسوا أولى الجمهوريات الحديثة لكي يعارضوا التاج البريطاني. وكانت العلاقات مع المتروپول السابق في بادئ الأمر من أكثر العلاقات توترًا. وهو ما أدى بالمقابل إلى عواقب تركت أثرها على جزء شاسع من العالم، ذلك أن الإنجليز قد فرضوا بُعَيْدَ استقلال الولايات المتحدة (منذ عام 1807 وفي مؤتمر ڤيينا في عام 1815) الحظر العالمي لتجارة العبيد وذلك سعيًا إلى الحيلولة دون تجديد اليد العاملة المسترقَّة التي يعتمد عليها المزارعون الأميركيون. على أن قنص وتجارة العبيد استمرت ممارستهما في أفريقيا من جانب أجهزة استعبادية أفريقية([1]) – وبفضل ذلك فإن التجارة الفرنسية في العبيد، بالرغم من الحظر، سوف تتواصل بإيقاع ثابت إلى عام 1830 (يجب أن نتذكر أن فرنسا لم تقم بإلغاء الرقِّ إلاَّ في عام 1848).
ثم إن هذه العلاقات بعد الكولونيالية بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة قد طرأ عليها تحول تبعًا لنمو الهجرة البريطانية وتصدير الرساميل من جانب البنوك الإنجليزية إلى السوق الضخمة المتمثلة في أميركا الشمالية. ويجب أن نلاحظ أن تدخل الجيش الأميركي في عام 1898 في الحرب التي خاضها الجيش الإسباني في كوبا للحيلولة دون استقلال الجزيرة قد جعل من الولايات المتحدة وريثة لملكية كولونيالية، هي جزر الفيليبين وشبه مستعمرتين، هما پورتو ريكو وكوبا. أمَّا الحرب العالمية الأولى فقد جعلت من الولايات المتحدة الدائن الرئيسي لبريطانيا العظمى في حين أنها كانت في عام 1914 المدين الرئيسي لها. ومن الواضح أن الحديث عن علاقات بعد كولونيالية مقلوبة هو مفارقة تاريخية. أمَّا فيما يتعلق بالعلاقات الثقافية للولايات المتحدة، فإنه إنما يتوجب النظر إليها في اتصالها بأوروبا برمتها، خاصة بسبب هجرة يهود أشكينازيين من أوروبا الوسطى والشرقية، يحتل أحفادهم اليوم موقعًا مهمًا في الأوساط الثقافية الأميركية.
والزمن بعد الكولونيالي للمستعمرات الإسبانية في أميركا الجنوبية جد مختلف، بالرغم من أنه، كما في الولايات المتحدة، لم يكن السكان الأصليون، «الهنود»، هم الذين ثاروا، في مطلع القرن التاسع عشر، ضد الحكم الاستعماري الإسباني، وإنما «الكريول»، أي أحفاد الفاتحين القادمين من أوروبا، المهجنين إلى هذا الحد أو ذاك، من كبار الملاك والتجار. فقد اغتنمت الأوليجاركيات الكريولية فرصة احتلال إسبانيا من جانب القوات الناپوليونية لكي تخلع عنها نير الاحتكار التجاري الذي فرضته الإدارة الإسبانية ولكي تقتسم فيما بينها أراضي التاج، على حساب الهنود. ومن الواضح أن هذه الأقلية المميَّزَة الأوروبية كانت تتكلم القشتالية و، بمجرد نيل الاستقلال (بدعم مغرضٍ من جانب إنجلترا)، كان من الممكن للعلاقات الثقافية بين هذه الجمهوريات الجديدة في أميركا الجنوبية ومتروپولها السابق أن تظل وثيقة جدًّا، كما هي الحال بين الولايات المتحدة وبريطانيا. لكن إسبانيا، غداة الغزو الناپوليوني، إنما تكابد على مدار ما يزيد عن أربعين سنة من عودةٍ ملكيَّةٍ رجعيةٍ متطرفة فرضت نظام حكم ظلامي مُنَفِّرٍ بشكل خاص في نظر المثقفين القادمين من المستعمرات السابقة، والتي أصبحت علاوة على ذلك جمهوريات جديدة. ومن ثم فقد حوَّلت هذه الجمهوريات أنظارها إلى بلدان أوروبية أخرى، في حين أن عديدين من الإسبان قد واصلوا الهجرة إلى البلدان الناطقة بالإسبانية في أميركا الجنوبية. وبالمقابل، نجد أن علاقات كوبا، التي جاء استقلالها بعد وقت طويل من ذلك (1898)، مع إسبانيا قد استمرت وتطورت، بالرغم من ذكريات حرب استقلال قاسية، لأنه، مع «جيل 98»، عرفت الأوساط الثقافية الإسبانية نهضة جديدة، بعد صدمة الحرب مع الولايات المتحدة وضياع آخر مستعمرات الإمبراطورية الإسبانية.
ومع الثورة المكسيكية الكبرى التي تبدأ في عام 1910، ثورة إيميليانو ثاپاتا وپانشو بيَّا، حاول هنود المكسيك عبثًا الاستيلاء على السلطة. بيد أن المثل الذي ضربوه ما يزال يلهم إلى اليوم الحركات الهندية في أميركا الوسطى وجبال الأنديز (في ديسمبر/ كانون الأول 2005، جرى من ثم انتخاب الهندي إيڤو موراليس رئيسًا لبوليڤيا). وبالمقابل، نجد أن مشروع إعادة توحيد الإمبراطورية الإسبانية السابقة الذي طرحه سيمون بوليڤار (1783-1830) – هذه البوليڤارية التي يستلهمها اليوم الرئيسي الڤينيزويلي هوجو شابيث– إنما يرجع بالأحرى إلى مصدر إلهامٍ كريولي، شأنه شأن مشروع ثوار كوبيين كخوسيه مارتي (1853-1895). أَمَّا فيما يتعلق بفيدل كاسترو، فمن المعروف أنه ابن غاليسي جاء إلى كوبا – شأن كثيرين من الإسبان الآخرين- غداة الاستقلال للتخفيف من وطأة نقص جسيمٍ في اليد العاملة، جراء رحيل عبيد سود سابقين إلى المدن. والحال أن فيدل كاسترو إنما يعد بشكل ما نتاج وضعٍ بعد كولونيالي جد خاص.
أوضاع بعد كولونيالية أكثر كلاسيكية
تنطرح مشكلات العلاقات بعد الكولونيالية بشكل جد مختلف بالنسبة للأمم التي يجهل الجانب الأكبر من سكانها (أو قلَّما يتكلم) لغة المستعمِرين السابقين، حتى وإن كانت هذه اللغة قد ظلت رسميةً إلى هذا الحد أو ذاك. وتلك حالة عدة مستعمرات سابقة في آسيا (الهند خاصةً)، لكنها بالأخص حالة المستعمرات السابقة في أفريقيا الاستوائية حيث نجد، بحكم التنوع الهائل للغات السكان الأصليين، أن لغة الدولة المستعمِرة السابقة – الفرنسيةَ أو الإنجليزيةَ أو البرتغاليةَ- قد ظلت لغة الدولةِ الجديدةِ. وبالرغم من أنه يجري تدريسها في المدارس، فلا أحد يتكلمها في الواقع غير أقلية من السكان تتألف من الموظفين والمنتمين إلى الأوساط المتصلة بالسياح. وهم يتكلمون في الأغلب، خارج وظائفهم وأماكن عملهم، واحدة من اللغات الأمهات المتنوعة.
والعلاقات بين هذه المستعمرات السابقة ومتروپولها السابق يبدو، للوهلة الأولى، أنها تقتصر على المثقفين وعلى القادة والمناضلين السياسيين، إلاَّ أننا يجب أن نراعي أيضًا أهمية الهجرة إلى أوروبا، بالرغم من الجاذبية الملحوظة التي تمارسها الولايات المتحدة. ففيما عدا المستعمرات السابقة في أميركا اللاتينية، تتميز المستعمرات السابقة كلها تقريبًا (بما في ذلك جزر الهند الغربية) بتدفقات هجرة مهمة إلى هذا الحد أو ذاك إلى متروپولها السابق. ولا يقتصر الأمر على أن هؤلاء المهاجرين يعرفون بالفعل لغة المتروپول، بل إن عددًا من بينهم لهم به بعض العلاقات القديمة إلى هذا الحد أو ذاك، والتي ترجع أحيانًا إلى «الزمن القديم»، زمن المستعمَرَة. ومن المؤكد أن هؤلاء المهاجرين القادمين من الإمبراطوريات الكولونيالية السابقة ليسوا عديمي المكابدة في أوروبا أو في الولايات المتحدة من مظاهر رُهاب الأجانب أو من مظاهر العنصرية، بيد أنه ليس نادرًا – على الأقل بالنسبة للمهاجرين من الجيل الأول- ما يجري اعتبار هذه المضايقات أقل وطأة من التصرفات المعتادة من جانب الشرطة أو من جانب أرباب العمل في البلد الذي غادروه.
وخلافًا لوهم كثيرًا ما ترعاه المنظمات الإنسانية، فإنه ليس الفقراء وحدهم هم الذين يغادورن اليوم بلدان العالم الثالث، ذلك أنهم لا يحوزون إمكانات دفع تكاليف السفر أو إمكانات مواجهة نفقات الاستقرار الأولية في أوروبا. فالمهاجرون غالبًا ما يكونون أيضًا أناسًا منحدرين من صفوف الطبقات المتوسطة أو الميسورة، ليس فقط لأسباب مالية أو للعثور على زبائن أو للتمكن من ممارسة المهنة التي تعلموا لأجلها (وهكذا نجد في إنجلترا أطباءَ هنودَّا جد عديدين): فهناك أيضًا كل أولئك المثقفين والصحافيين والأساتذة الجامعيين، الخ، الذين يرحلون هربًا من نظام أو من وجهاء محليين يمنعونهم من التعبير عن أنفسهم أو يضطهدونهم بسبب أفكارهم السياسية.
وما تزال نادرةً بالفعل تلك النظم الديموقراطية حقًا في البلدان التي كانت مستعمَرَة (بل وفي بلدان، كروسيا، كانت مع ذلك مستقلة دومًا)، في حين أن الحريات العامة الأساسية ومبادئ العدالة، في الدول الاستعمارية السابقة، كما في البلدان الأخرى في أوروبا الغربية، ما تزال مرعية إلى حدٍّ ما، حتى عندما يتعلق الأمر بالمهاجرين. وبالنسبة لأمة من الأمم، فليس مجرد واقع أنها لم تكن مستعمَرَة هو الذي يفسر الظروف الديموقراطية إلى هذا الحد أو ذاك والتي يحيا فيها اليوم سكانها. وهكذا فإن روسيا ثم الاتحاد السوڤييتي قد سيطرا على إمبراطورية، لكن الروس انتقلوا – للأسف- من السلطوية القيصرية إلى ما هو أسوأ، استبداد النظام السوڤييتي، الذي تلاه، وضمن البؤس، حكم عصابات المافيا والبيروقراطيين الذين تمكنوا من مصادرة «الليبرالية» لحسابهم.
بالنسبة للمستعمرات السابقة، تراثات معقدة ومتداخلة
إن رسم جغرافية للحريات و، بالمقابل، جغرافية للاعتداء على حقوق الرجل والمرأة إنما يتطلب الرجوع إلى البنى السياسية التي تعاقبت في مختلف أزمنة التاريخ. وبالنسبة لبلدان العالم الثالث، من المألوف بالنسبة لكل بلد التمييز على نحو تبسيطي بين ثلاث فترات مختلفة تتداخل تراثاتها اليوم: الفترة قبل الكولونيالية، التي عرفت، بحسب الحالات، أشكال تنظيم حد متباينة (قَبَلية أو أشكال تنظيم إمبراطوريات عظمى) عَمَّرَتْ إلى هذا الحد أو ذاك وحَوَّلَها الاستعمار إلى هذا الحد أو ذاك ؛ العصر الكولونيالي، الذي كان طويلاً إلى هذا الحد أو ذاك والذي قامت فيه أشكال سلطة جد متباينة، بحسب البلد، لصالح الأوروبيين، وإن كان أيضًا لصالح الوجهاء المحليين ؛ وأخيرًا الفترة بعد الكولونيالية، حيث قامت نظم سياسية كانت هي أيضًا جد متباينة، بحسب الدور الذي تلعبه فيها الأقليات المميَّزة المنبثقة من الاستعمار، أو ممثلو الطبقات المتوسطة أو العسكريون أو كوادر الجماعات الثورية التي دشنت، لوقت من الأوقات، الاشتراكية وديكتاتورية «پروليتاريا» مزعومة – هي في واقع الأمر ديكتاتورية قادة جيش أو حزب ذي طابع عسكري.
وبحسب بلدان العالم الثالث، يعد الاستقلال السياسي قديمًا إلى هذا الحد أو ذاك: فقد مر عليه قرنان في أميركا الإسبانية وما يتراوح بين أربعين وخمسين سنة بالنسبة لكثير من بلدان أفريقيا وآسيا وخمسة وعشرون عامًا بالنسبة للمستعمرات البرتغالية في أفريقيا، وأقل من عشر سنوات بالنسبة لأفريقيا الجنوبية أو بالنسبة لجمهوريات الاتحاد السوڤييتي السابق، وذلك على فرض أن انتهاء الأبارتهيد [الفصل العنصري] أو انتهاء الاشتراكية يجوز تشبيههما بسيرورة استقلال. ومنذ هذا الحدث المؤسِّس لأمم حديثة، انقضى، بحسب الحالات، وقت طويل إلى هذا الحد أو ذاك وحدثت تحولات مهمة، إلى هذا الحد أو ذاك، في العلاقات مع المتروپولات السابقة.
ولكي نطرح مسألة ما بعد الاستعمار طرحًا مفيدًا، فإنه لا يكفي أن نأخذ بعين النظر الوقت الذي انقضى منذ الاستقلال. وبالرغم من أن هذا الحدث لم يغير المشكلات بشكل جذري وحتى مع دوام أشكال من أشكال التبعية الاقتصادية، فإن الاستقلال السياسي يعد تحوّلاً مهمًّا إلى أقصى حد بالنسبة لفريق جد عظيم من السكان، ولو لمجرد الأفكار والتطلعات الجديدة التي ذاعت آنذاك. وأنا أرى أن الحديث عن مسألة ما بعد الاستعمار بالنسبة لأمة ما أو بالنسبة لدولة ما لا يعني أن استقلالها السياسي ما يزال محدودًا إلى هذا الحد أو ذاك، خاصة في العلاقة مع المتروپول الاستعماري السابق. على العكس، إذ يكاد يكون بوسعنا القول إنه، في أيامنا، وحتى في جمهوريات أميركا اللاتينية التي مر على استقلالها نحو قرنين، يتجلى الشعور القومي والقيمة المعطاة لفكرة الاستقلال تجليًا أقوى في البلدان التي كانت مستعمَرَة مما في عدد من بلدان أوروبا الغربية.
إن طرح مسألة ما بعد الاستعمار إنما يتألف من فحص التفاعلات الثقافية أساسًا والموجودة اليوم بين أمتين كانتا في الماضي في وضع علاقة چيوسياسية من النوع الكولونيالي – أي في وضع سلطة سياسية أجنبية تجري ممارستها بشكل مقيم على شعب، بحكم حق الفتح (وبتواطؤ من جانب الوجهاء المحليين)، حيث يخضع السكان الأصليون لأشكال تنظيمٍ رَسَمَتها وأوصت بها كوادر حاملة لثقافة قومية أخرى وقادمة من بلد بعيد إلى هذا الحد أو ذاك. وقد أصبحت هذه العلاقة الچيوسياسية الكولونيالية جد استثنائية وعبر النضال في سبيل الاستقلال تشكل عدد من أمم أفريقيا وآسيا وأميركا (بما في ذلك الولايات المتحدة). ولم يترتب على ذلك أن الصلات قد اختفت مع متروپولها السابق. ففي عدد معين من الحالات، كما رأينا، تطورت هذه الصلات تطورًا ملحوظًا.
وفي حين أن هذه العلاقة الچيوسياسية من النوع الكولونيالي كانت، بشكل ما، في اتجاه واحد، من الناحية الثقافية، فإن العلاقة بعد الكولونيالية إنما تعد إلى حدٍّ ما أكثر تبادليةً بكثير. والواقع أنه إذا كان فريق، مهم إلى هذا الحد أو ذاك، من السكان المستعمَرين قد فهم وتعلم لغة المستعمِر، بل وقام أحيانًا بمحاكاة بعض سلوكياته، فإننا نجد بالمقابل، في المتروپول الاستعماري، (فيما عدا الأوساط «الاستعمارية») أنه كان هناك فيما مضى جهل بجميع ثقافات «ما وراء البحار» من الناحية العملية. أَمَّا اليوم، في فرنسا مثلاً، وبحكم تزايد عدد السكان المنحدرين من بلدان ذات ثقافة إسلامية، وإن كان أيضًا بفضل تطور الأفكار، فإن عدد الناس الذين يستمعون إلى الراي ويأكلون الكوسكوس والذين لهم صحاب «عرب» إنما يعد أعظم بما لا يقاس مما في زمن «الجزائر الفرنسية». وهذا هو البرهان على أهمية العلاقات بعد الكولونيالية.
وبالمقابل، نجد أن هذه العلاقات أقل أهمية بكثير بالنسبة لبلدان أميركا الإسبانية، والتي يصل اليوم عدد سكانها الإجمالي إلى تسعة أضعاف سكان إسبانيا. وبالنسبة لكل بلد من هذه البلدان، تقتصر هذه العلاقات بعد الكولونيالية على استحضار الأصول العائلية القديمة وعلى شراكة لغوية وأدبية، أي على ما سماه فرانكو (بعد پريمو دي ريبيرا) بالـ hispanidad. ويتحدث الملك خوان كارلوس اليوم عن «شراكة أمم إيبيرية- أميركية»، هي، بشكل ما، حقل مكانةٍ ديپلوماسية رفيعة. لكن هجرات اللاتينيين [Latinos] لا تتجه، في معظمها، إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، وإنما إلى الولايات المتحدة، والحال كذلك فيما يتعلق بالتبادلات الاقتصادية.
والأمر مختلف تمامًا بالنسبة لمجمل «الفرانكوفونية». ومن المؤكد أن المسألة هنا هي بشكل خاص مسألة بلد أو مجرد فريق من السكان يستخدم الفرنسية، في تساوق إلى هذا الحد أو ذاك مع اللغات الأمهات الأصلية. بيد أن علاقات هؤلاء الفرانكوفون من وراء البحار مع المجتمع الفرنسي، ولو لمجرد تدفقات الهجرة إلى فرنسا، إنما تعد أهم من علاقات إسبانوفون أميركا مع إسبانيا.
تطور العلاقات بعد الكولونيالية على امتداد منطقة غربي المتوسط
تنطرح المسألة بعد الكولونيالية على المستوى العالمي بالنسبة لعدد جد كبير من البلدان، إلاَّ أن مما لا جدال فيه أن العلاقات بعد الكولونيالية فيما بين بلدان الشمال الأفريقي وبلدان الجنوب الأوروبي هي الأوثق (إذ أن لها أهمية ملموسة بالنسبة لعدد كبير من الأُسر)، والأكثر تناقضًا أيضًا، لأنه في هذا الجزء من العالم يعد الاستقلال حديثًا نسبيًّا، وهو ما يعني أن عددًا من الرجال والنساء ما تزال تخطر بباله المآسي ووجوه الظلم التي تميزت بها فترة النضال في سبيل الاستقلال.
وزن العلاقات فيما بين فرنسا والمغرب
في منطقة غربي المتوسط، تتميز العلاقات بعد الكولونيالية خاصةً بأنها من فعل فرنسا وبلدان الشمال الأفريقي الثلاثة. أولاً لأن السيطرة الاستعمارية الفرنسية قد مورست هناك اعتبارًا من عام 1830، متخذةً أشكالاً تعد من جهة أخرى متباينةً بشكل محسوس بحسب الأزمنة، على الأراضي الأكثر ازدحامًا بالسكان والأكثر اتساعًا (مع التمدد في منطقة الصحراء الجزائرية). وفي مستهل القرن العشرين، نجد أن إسبانيا، انطلاقًا من الـ présides [الحصون] السابقة التي ما تزال تحتفظ بها إلى اليوم – حصن سبته، المطلة على جبل طارق، وحصن مليليـه-، لم تمارس حمايتها على شمالي المغرب الأقصى إلاَّ في منطقة الريف الجبلية، والتي كانت صغيرة نسبيًّا، ولم تمارس حمايتها في منطقة الصحراء المغربية إلاَّ على الأراضي الساحلية والمهجورة، والتي تطل على أرخبيل جزر الكناري الإسپاني. أَمَّا إيطاليا، فقد قامت، في عام 1911، بعد حرب ضد الأتراك، بضم مناطق واسعة في ليبيا، إلى جنوب صقلية، بيد أن هذه المناطق لم تكن مأهولة إلاَّ بشكل ضعيف جدًّا.
وإذا كانت فرنسا لها مثل هذه الأهمية في العلاقات بعد الكولونيالية مع بلدان الشمال الأفريقي، فإن ذلك إنما يرجع أيضًا إلى تطورها الديموغرافي الخاص جدًّا. فالواقع أن الانخفاض المبكر جدًّا في القرن التاسع عشر لمعدلات المواليد في فرنسا قد ترتب عليه نقص مزمن إلى هذا الحد أو ذاك في اليد العاملة، وهو ما قاد إلى الاعتماد بشكل منهجي على المهاجرين: أولاً القادمين من مختلف البلدان الأوروبية، ثم القادمين من الجزائر، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية. وعلى العكس من ذلك، نجد أن التواصل، إلى فترة ما بين الحربين العالميتين، فـي حدوث نمو ديموغرافي قوي مجتمعٍ مع نمو اقتصادي غير كافٍ، في إيطاليا وإسبانيا والبرتغال، قد أدى في هذه البلدان إلى بطالة مزمنة وإلى موجات نزوح قوية إلى وقت قريب نسبيًّا. ومن الواضح أن هذا قد حال دون أي هجرة أجنبية. وهجرة الأفارقة الشماليين لم تبدأ إلى إسبانيا وإيطاليا إلاَّ منذ بضع سنوات فقط، والأغلب أنها هجرة مهاجرين سريين يصلون بعد ذلك إلى بلدان أخرى من بلدان الاتحاد الأوروبي، كما أن ذكرى الأندلس العربية تجتذب إلى جنوبي إسبانيا وإلى غرناطة عددًا من الطلاب القادمين من المغرب الأقصى، وإن كانت تجتذب أيضًا عددًا من الطلاب القادمين من الشرق الأوسط.
وفي أوروبا، تُعتبرُ فرنسا الدولة المعنية أكثر من سواها بمشكلات الشمال الأفريقي وبتطور العلاقات بعد الكولونيالية. ومنذ استقلال الجزائر في عام 1962، نجد أن عدد الأشخاص المنحدرين من أصل جزائري والذين يعيشون في فرنسا (أكانوا قد هاجروا إليها أم ولدوا فيها) قد تضاعف نحو ست مرات، حيث يتمتع نصفهم اليوم بالجنسية الفرنسية. والحق أن مثل هذا النمو إنما يطرح تساؤلاً كبيرًا، لأن العلاقات فيما بين الجزائريين والفرنسيين، بعد سبع سنوات من حرب وحشية، كان لابد لها من أن تكون سيئة لوقت طويل. ولتفسير هذه الهجرة المفارِقة، يجب أن نفهم بواعث الطرفين.
فعلى الجانب الفرنسي، كانت الغالبية العظمى من الرأي العام، غادة استقلال الجزائر، سعيدة بالخروج، بفضل الچنرال ديجول، من أزمة سياسية جد جسيمة دامت، في فرنسا نفسها، نحو أربع سنوات. وقد رأى عدد من الفرنسيين أن هذه الحرب قد نشأت بلا مراء عن خطأ جسيم، هو خطأ عدم القيام خلال ما يزيد عن قرن من الزمان (حتى دون أن نتحدث عن مرحلة الفتح) بتطبيق المبادئ العظمى للجمهورية الفرنسية – مبادئ الحرية والمساواة والإخاء- في المحافظات الفرنسية في الجزائر (والتي أنشئت في عام 1848 ولم يكن للمسلمين فيها حق الاقتراع). ثم إن «المستوطنين» الذين لجأوا إلى فرنسا لم يتمكنوا من أن يشكلوا فيها «حزب لاجئين» كان من شأنه أن يشجب هجرة الجزائريين الواسعة. وأخيرًا، فإن رجال الأعمال كانوا جد مرتاحين إلى مجيئهم، إذ كان ما يزال هناك نقص في اليد العاملة في ستينيات القرن العشرين.
وعلى الجانب الجزائري، نجد أن النزوح إلى فرنسا يعد مفارقًا بدرجة أكبر بكثير. فالواقع أن من رحلوا إلى فرنسا ليسوا مجرد بضع عشرات من آلاف الحركيين (الذين كانوا يشكلون قوة مساعدة للقوات الفرنسية) الذين نجحوا في الهرب (كان الفرنسيون قد تركوا غالبيتهم لمصيرٍ قاسٍ)، بل أيضًا وخاصةً جزائريون كانوا قد حاربوا للتوِّ في سبيل استقلال الجزائر.
وهذه المفارقة إنما ترجع إلى الأزمة الچيوسياسية التي عرفتها الحركة القومية الجزائرية، بحكم أنها لم تتطور فقط في أحراش المقاومة الجزائرية (في المناطق الجبلية أساسًا، خاصة منطقة القبائل)، وإنما تطورت أيضًا في تونس وفي المغرب الأقصى، أي على الجانب الآخر من الحواجز المكهرَبَة التي أقامها الجيش الفرنسي على خط الحدود. وبما أن هذا الجيش قد أزال هذه الحواجز عشية الاستقلال، فإن قوات جيش التحرير الوطني، بقيادة العقيد بومدين، والتي كانت قد تكونت في المغرب الأقصى وفي تونس، قد أمكنها أخيرًا دخول الجزائر. والحاصل أن نزاعًا جسيمًا قد وضعها، في يونيو/ حزيران – يوليو/ تموز 1962، على مشارف الجزائر العاصمة، في صدام مع المقاومة، خاصة مقاومة منطقة القبائل، التي كانت قد سيطرت على المدينة. والحال أن من استولى على السلطة هو «جيش الحدود»، الأفضل تسلُّحًا بالأسلحة الثقيلة.
وفي العام التالي، عام 1963، نجد أن انتفاضة جبال البرير في منطقة القبائل قد استكملت القطيعة بين قادة جيش الخارج وقادة المقاومة، الذين اضطر بعضهم إلى الهرب من الجزائر وإلى العثور على ملاذ... في فرنسا، حيث استفادوا من قانون العفو العام الذين كان الچنرال ديجول قد أعلنه، لأنهم، من الناحية القانونية، كانوا ما يزالون مواطنين فرنسيين. وهذا يفسر جزئيًّا النزاع القديم بين الجيش من جهة والديموقراطيين الجزائريين وحزب جبهة القوى الاشتراكية الذي تتألف غالبية أعضائه من المنحدرين من منطقة القبائل، وكذلك، منذ قليل، الحزب المنافس لهذا الأخير، والذي أنشئ في عام 1989، وهو التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية، من الجهة الأخرى.
ولتفسير أهمية هذه الهجرة الجزائرية إلى فرنسا، يجب أن نأخذ في الحسبان أيضًا آثار البطالة المتزايدة في الجزائر، وكذلك الاحتكار السياسي الذي مارسه على مدار خمس وعشرين سنة الحزب الواحد، حزب جبهة التحرير الوطني. وقد دفعت المنافسات في صفوفه عددًا من أعضائه إلى الرحيل هم أيضًا إلى فرنسا للانضمام إلى أفراد عائلاتهم الموجودين فيها بالفعل، وهو ما كان، بالنسبة للسلطة القائمة، نوعًا من التفريغ المريح لسخط المثقفين.
وإلى هذا البواعث السياسية للهجرة إلى فرنسا، والتي تعد أسبابًا تخص الجزائر، تُضَافُ الأسبابُ الأعمُّ التي تفسر نزوح عدد متزايد من المغاربة والتونسيين: البطالة، الرغبة في الصعود الاجتماعي وآمال النجاح المهني، وإن كان أيضًا حاجة المثقفين إلى الهرب من أنظمة حكم قليلة الديموقراطية. واعتبارًا من عام 1975، أدت البطالة المفاجئة في فرنسا إلى دفع الحكومة إلى حظر الهجرة، بيد أن ڤاليري چيسكار ديستان قرر السماح للأجانب المستقرين منذ عدة سنوات باستقدام أفراد عائلاتهم أيضًا. ويوضح تطبيق مبدأ «لمِّ الشمل العائلي» هذا أن الهجرة الشرعية القادمة من الشمال الأفريقي لم تتوقف – بل أضيفت إليها الهجرة السرية أيضًا. ومن المعروف أنه، في سياق بطالة واسعة ومزمنة، يغذي وجودُ بضع ملايين من الأشخاص المنحدرين من بلدان ذات ثقافة إسلامية لدى السكان الفرنسيين مشاعر رُهابٍ للأجانب. وتلك بالأخص الحالة في الأوساط الشعبية حيث يجري، ظُلمًا أو عن حق، اتهام بعض المغاربة (وخاصة المغاربة القادمين من منطقة الريف، حيث يجري إنتاج الحشيش) بلعب دور مهم في تهريب وتجارة المخدرات والإسهام في تزايد انعدام الأمن.
وهذا كله جزء من العلاقات بعد الكولونيالية وتتخذ هذه العلاقات اتساعًا قلما يمكن وقف آثاره السلبية في الأمد القصير، حيث نجد أن من الواضح أن البطالة تعد بالفعل العقبة الأخطر التي تحول دون اندماج إيجابيٍ لهؤلاء المهاجرين المغاربة الفرانكوفون ولأبنائهم (الذين يحملون غالبًا الجنسية الفرنسية). لكن العلاقات بعد الكولونيالية ليست ذات آثار سلبية فقط بالنسبة لفرنسا كما بالنسبة للشمال الأفريقي، وخاصة بالنسبة للجزائر. وهكذا يمكننا أن نشير إلى مثال تلك الإنتلچانسيا الحقيقية الفرانكوفونية والأمازيغية، المنحدرة من منطقة القبائل بتحديد أكثر، والتي تتطور وتنمو في فرنسا، حيث تتصدى خاصة لدسائس شبكات الإسلام السياسي (انظر فيما بعد مقال كاميل لاكوست – ديچاردان).
الحرب الأهلية الجزائرية بعد كولونيالية أيضًا
بوسعنا أن ننظر أخيرًا من زاوية مسألة ما بعد الاستعمار في المأساة التي تمر بها الجزائر منذ عام 1992. وللتبسيط، يمكننا أن نقول أولاً، وهذا واضح، إن هذه الحرب الأهلية إنما تنبع من اعتراضات جماعات الإسلام السياسي على سلطة عسكرية تزعم الدفاع عن الجمهورية. إلاَّ أننا يجب أن نأخذ في الحسبان واقع أن حجاج دعاة الإسلام السياسي لا يقتصر على المجال الديني. فالواقع أنهم قد أعلنوا أنهم إنما يخوضون في الجزائر «حرب استقلال جديدة»، لأنهم قد اتهموا كوادر الجيش الجزائري الحاكمة بأنها مدعومة من جانب فرنسا، بل وبأنها «عميلة» لها.
ويبدو هذا الاتهام للوهلة الأولى مفارقًا، وذلك بقدر ما أن القادة الحاليين للجيش الجزائري يقدمون أنفسهم رسميًّا على أنهم امتداد لأولئك الذين حاربوا من عام 1954 إلى عام 1962 ضد الجيش الفرنسي. وإذا ما كان بعض الجزائريين - للأسف- قد صدقوا إلى هذا الحد أو ذاك حجاج الإسلام السياسي هذا المطروح بشكل تبسيطي، فما ذلك إلاَّ لأنه يتضمن، بلا جدال، قدرًا من الحقيقة، هو ذلك المتعلق بالفساد الذي يفتك بالبلد، والذي تغذيه إلى حد بعيد شبكات التواطؤات التي نشأت، خاصة منذ ثمانينيات القرن العشرين، بين الچنرالات في قلب السلطة الفعلية في الجزائر وبعض الأوساط السياسية والاقتصادية الفرنسية [Aggoun et Rivoire, 2004]. بيد أن هناك أيضًا، إلى جانب كثير من العوامل الأخرى، سببًا ثقافيًّا لاشك في أنه أعمق: فكوادر الجيش الرئيسية تعرف الفرنسية وتستخدم هذه اللغة بشكل اعتيادي، شأنها في ذلك تمامًا شأن فريق ما يزال مهمًّا من المهندسين والصحافيين والمثقفين والأطباء وكوادر الإدارة، حيث نجد أن هؤلاء وأولئك لهم علاوة على ذلك علاقات وثيقة مع أفراد عائلاتهم الذين يعيشون في فرنسا. وهكذا نجد، إلى يومنا هذا أيضًا، أن عدد النسخ الصادرة من الصحف الجزائرية الصادرة بالفرنسية ما يزال ضخمًا، حتى وإن كانت الصحف الصادرة بالعربية تزاحمها بشكل متزايد باطراد.
وبالمقابل، يتحدث الناس، في الأوساط الشعبية، بالعربية خاصة، كما أننا نجد، منذ تسعينيات القرن العشرين، أن فريقًا متزايدًا وأصبحت له الأغلبية من الأجيال الجديدة للكوادر الوسيطة ومن المثقفين إنما يعد ناطقًا بالعربية أساسًا. وهؤلاء وأولئك يحسون بأنهم مستبعدون ويرون أن «الفرانكوفون» هم المميَّزون الذين يحكمون الجزائر ويستغلونها. والشيء المؤكَّد هو أن الجماعة الفرانكوفونية ليست متجانسة، فهي تضم أيضًا عددًا من المثقفين والديموقراطيين الذين يعترضون على سلطة الجيش وسلطة متنفذي جبهة التحرير الوطني، الحزب الواحد الوحيد سابقًا ؛ بيد أن الجميع يعارضون دعاة الإسلام السياسي الأكثر جذرية (حيث إن المعتدلين قد انضووا تحت لواء السلطة واندمجوا في الحكم منذ أواخر تسعينيات القرن العشرين)، الذين يتهمونهم بأنهم مسلمون زائفون وخونة لأنهم يحتفظون بعلاقات وثيقة مع فرنسا والفرنسيين والثقافة الفرنسية.
والواقع أننا يجب أن نأخذ في الحسبان واقع أنه، بين الجزائريين الذين حاربوا من أجل استقلال بلدهم، كان كثيرون – خاصة من المنتمين إلى منطقة القبائل – قد ذهبوا قبل ذلك إلى فرنسا للعمل فيها، وقد ميزوا بين «فرنسيي فرنسا» والمستوطنين الفرنسيين في الجزائر. كما لا يجب أن ننسى أن المجهود التعليمي الملحوظ الذي بذلته الحكومة الجزائرية في الأعوام التي أعقبت الاستقلال كان يتم بالفرنسية إلى حد بعيد. وقد جرى إرسال عديدين من «المعاونين» الفرنسيين إلى الجزائر، إلى جانب أن آلافًا من الجزائريين قد جاءوا إلى فرنسا للقيام بدراساتهم العليا، وذلك ضمن مسعى لتأهيل كوادر الأمة. وكوادر هذا الجيل يتكلمون هم أيضًا الفرنسية، وليس في نشاطاتهم المهنية وحدها.
بيد أن انتشار الفرنسية، في بلد أعلن فيه حكامه المتعاقبون عروبته، لم يتخلف عن إثارة مشكلة و، في مستهل سبعينيات القرن العشرين، قرر الرئيس بومدين التعريب التدريجي لجميع مستويات التعليم. وقد جرى تعريب الدورات الأولى للجامعات في عام 1980. على أن الصغار، في العائلات الميسورة حيث يتكلم الناس الفرنسية عادةً، قد تعلموا هذه اللغة بشكل تلقائي إلى هذا الحد أو ذاك. وفي الأوساط الشعبية، يشعر الشبان الذين لم يتعلموا سوى العربية بأنهم غير محظوظين لاسيما أنهم عاطلون، بينما تتهم دعاية أنصار الإسلام السياسي «الفرانكوفون» بأنهم مميَّزون ومسلمون زائفون يحتكرون «المواقع الجيدة» على حساب الجزائريين الحقيقيين.
ومن الواضح أن الحرب الأهلية التي مزقت الجزائر في تسعينيات القرن العشرين ليست نتيجة لهذا التفاوت الثقافي وحده. إذ يبقى أنه، في المغرب الأقصى وفي تونس، يدور الحديث أيضًا بالفرنسية في الأوساط الميسورة وفي صفوف جزء كبير من الطبقات المتوسطة، دون أن تنشر حركات الإسلام السياسي (القوية قوة خاصة في المغرب الأقصى)، على الأقل إلى الآن، الحجاج اللافرنسي ضد المميَّزين والذي أسهم في تكوين جمهورها في الجزائر. ولا مراء أن ذلك إنما يرجع إلى أن دعاة الإسلام السياسي، في هذين البلدين اللذين تم التوصل فيهما إلى إنهاء الحماية [الفرنسية] دون مآسٍ كثيرة، لا يتسنى لهم بالقدر نفسه استغلال التيمة القومية الخاصة بحرب الاستقلال والتي لم يكن هناك مفر من استعادتها ضد فرنسا.
وهنا أيضًا، نرى أن العلاقات بعد الكولونيالية يمكن أن تكون لها عواقب جد وخيمة. ففي الجزائر، بما أن الإسلاميين الجذريين، الذين أرهقتهم الحرب دون أن يتوصلوا إلى انتزاع السلطة ودون أن يتوصل الجيش إلى التغلب عليهم، يبدو أننا قد وصلنا إلى نوع من حل وسط، سوف يتوقف تطوره، اعتبارًا من عام 2005، على تغيرات الوضع في الشرق الأوسط أيضًا، بعد أن يكون الجيش الأميركي قد غادر العراق، وهو ما قد يحدث في مستقبل قريب نسبيًّا.
موجة المعاداة الجديدة للاستعمار في فرنسا والعلاقات مع الجزائر
ما الرهانات بالنسبة للمناقشات الحالية حول «الاستعمار» ؟
منذ استقلال الجزائر، لم يحدث قط أن نوقشت في الميديا [وسائل الإعلام] الفرنسية مسائل الاستعمار والعواقب المترتبة على الاستعمار بهذه الدرجة الكبيرة التي تجري مناقشتها بها الآن. ويرى البعض أن المجتمع الفرنسي قد يكون مختَرَقًا اليوم أيضًا بـ«الصدع الكولونيالي» [Blanchard et al., 2002]. وفي يناير/ كانون الثاني 2005، كما قلنا، كان قد جرى إطلاق نداء «مستعمَري الجمهورية»، وهو تعبير مفارِق أثار في التوِّ والحال ردود فعل مختلفة تتميز بالقلق، خاصة لدى اليسار. ودون أن تكون هناك علاقة سبب ونتيجة بشكل مباشر، فإن الموجة الكبرى لأعمال الشغب في الضواحي، والتي تشكلت ليلة 28-29 أكتوبر/ تشرين الأول لكي تتكرر على مدار الليالي الإثنتي عشرة التالية، من الواضح أنها قد استثارت تعليقات لا حصر لها كان موضوعها إلى هذا الحد أو ذاك هو الاستعمار، حيث إن أعمال الشغب هذه كانت بالأخص من فعل شبان «منبثقين من صفوف المهاجرين» المغاربة والأفارقة (انظر فيما بعد مقال بياتريس چيبلان).
ويمكننا أن نلاحظ أن هذه التعليقات كانت عمومًا قليلة التناقض فيما بينها إلى حد بعيد، وذلك بقدر ما أنها قد اتفقت على جسامة البطالة، التي اعتبرتها هذه التعليقاتُ السببَ الاقتصادي والاجتماعي الرئيسي لـ«تململ الضواحي». وبينما كان من الوارد الخوف من أن تظهر في أعمال الشغب هذه شبكات إسلامية سرِّية، فإن الحالة لم تكن كذلك. وبالمقابل، نجد أن المنظمات المسلمة الرسمية إلى هذا الحد أو ذاك قد مالت إلى التهدئة. ولم يجر حديث عن دور للاستفزازيين في هذه الاضطرابات التي صَدَمَتْ الرأي العام، وهو ما يأمل بعض السياسيين في أن يستخلصوا منه قريبًا مغنمًا انتخابيًّا عظيمًا. والحال أن الميديا الأجنبية، من نيويورك إلى بكين، خاصة، هي التي علَّقت بشكل واسع على «فشل نظام الدمج الفرنسي»، أي دمج أناس قادمين من بلدان كانت جزءًا من الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية السابقة.
وغالبًا جدًّا ما نُسيت النقاشات العامة الكبرى الأولى حول ما إذا كان الاستعمار ملائِمًا أم لا والتي ترجع في فرنسا إلى يوليو/ تموز 1885، عندما حدثت مواجهة عنيفة في الجمعية الوطنية بين چول فيري وچورج كليمنصو، حيث دعا الأول – والذي فاز في المواجهة- إلى «رسالة» فرنسا «التمدينية، بينما قام الثاني، وهو جمهوري مثله تمامًا، بإدانة ما ينطوي عليه هذا المشروع من «كل الجرائم المنفلتة والاضطهاد والدماء المراقة كالسيل واضطهاد الضعفاء والاستبداد بهم من جانب الظافرين». كما أن النقاشات حول تصفية الاستعمار خلال حرب الهند الصينية (1947-1954)، وخاصة خلال حرب الجزائر (1954-1962)، كانت ذات أهداف سياسية محدَّدة – فالفرنسيون المعادون للاستعمار آنذاك، والذين كانوا جد قليلين، قد نادوا بإنهاء الحروب التي لا محصلة من وراء خوضها والتي جرت العار على فرنسا، في ذلك الشطر الثاني من القرن العشرين.
وقياسًا إلى هذه السوابق، نجد أن النقاشات الراهنة حول «الاستعمار»، والتي حققت نجاحًا إلى هذا الحد أو ذاك في الميديا، يبدو أنها تنطوي في فرنسا على رهانات سياسية أكثر ضبابية بكثير. فالواقع أن شبه إجمالي المستعمرات الفرنسية قد أصبحت مستقلة منذ أربعين سنة، بل وأكثر. ومن المؤكد أن الاستعمار الجديد مستمر، بيد أنه يعمل خاصة من خلال حكام هذه الدول المستقلة الجديدة. ومن المؤكد أن النقاشات الراهنة حول تركة الاستعمار تهدف إلى الاعتراف في فرنسا بمزيد من الإنصاف الاجتماعي لأولئك الذين انحدر آباؤهم أو أجدادهم من المستعمرات السابقة. إلاّ أن الرهان، بالنسبة لبعض المثقفين الذين يخوضون هذه النقاشات، إنما يتصل أيضًا، على نحو استرجاعي، بالتمثيلات التاريخية وخاصة التمثيلات الإيديولوجية لما كان عليه الاستعمار.
ولا مراء في أن هذا الاهتمام ليس عديم الصلة بالتغيرات الثقافية العميقة التي عرفها المجتمع الفرنسي في العقود الأخيرة وآثار هذه التغيرات في صفوف الإنتلچانسيا: اختزال الطبقة العاملة والصدى الذي تستثيره في صفوفها خطاباتُ الجبهة القومية وشبه اختفاء الرجوع إلى الماركسية في تفسير تطور العالم. كما يجب أن نراعي، في الأوساط الثقافية والإعلامية، الوزن الذي اتخذه مصطلح الإبادة، عبر الإحالة المشروعة إلى هذا الحد أو ذاك إلى الشُوا [المحرقة النازية لليهود]. والحال أن تجارة العبيد الأفارقة، بحكم امتدادها لقرون، إنما تبدو لي بوصفها أطول الجرائم ضد الإنسانية، بيد أن هذه الجريمة لا يبدو لي أنها ترتبط بمنطق إبادة منهجية، كما تصور البعض، وذلك ببساطة تامة للسبب جد الكلبي والمتمثل في أن العبد الذي كان يُباع ويُشترى كانت له قيمة سلعية ملحوظة.
على أن استئناف النقاش حول الاستعمار وآثاره إنما يرتبط أحيانًا بإدانة الرق بوصفه شكلاً أَوَّلَ ورئيسيًّا للإبادة. وهكذا نجد أن الكتاب الأسود للاستعمار، وهو كتاب جماعي أشرف عليه مارك فيرّو [2003] وحظي بنجاح ضخم في توزيعه، قد صدر تحت عنوان فرعي هو: القرن السادس عشر- القرن الحادي والعشرون، من الإبادة إلى التوبة: والحال أن الإبادة، التي تتعلق البداية بها، هي إبادة هنود أميركا، الأمر الذي يؤدي، سعيًا إلى الحصول على اليد العاملة، إلى نمو تجارة العبيد الإفارقة. وتيمة الإبادة المرتبطة بشجب «الاستعمار»، حتى دون أن يكون هناك حديث عن العبودية، إنما تقدم عنوان كتاب أوليڤييه لو كور جرانميزون، الاستعمار، الإبادة [2005] والعنوان الفرعي لهذا الكتاب هو حول الحرب والدولة الاستعمارية. وتحت هذا العنوان شديد العمومية، لا يدور الحديث في الواقع إلاَّ عن المرحلة الأولى لفتح الجزائر، مرحلة الحرب ضد عبد القادر الجزائري في ولاية وهران حيث أبيد، بالفعل، فريق عظيم من السكان، بحكم هذا النوع من الحرب. وسيسمح ذلك فيما بعد، بعد ثلاثين سنة، باستقدام عدد كبير من الفلاحين الفرنسيين المعدمين إلى الجزائر الغربية وتوزيع الأراضي عليهم، مثلما حدث ذلك في الولايات المتحدة على نطاق مختلف تمامًا.
ويمكننا إرجاع بدايات النقاش الجديد حول الاستعمار وآثاره المختلفة إلى عام 1998، وهو عام الذكرى المائة والخمسين لإلغاء العبودية في ما كانت مستعمرات فرنسية، أي في جوايانا وجواديلوپ والمارتينيك وريونيون. والحال أن هذه الذكرى التي جرى الاحتفال بها احتفالاً مشروعًا في هذه المستعمرات السابقة والتي أصبحت فيما بعد محافظات فرنسية وراء البحار، كانت هناك فرصةً لشجب الآثار المقيمة لفترة العبودية، لكنها كانت أيضًا فرصةً للحديث عن استمرار وضع كولونيالي إلى هذا الحد أو ذاك في العلاقة مع متروپول بعيد. ومن المؤكد أن هذا المتروپول، خاصة منذ عام 1950، قد وجَّه إلى محافظات ما وراء البحار «تحويلات اجتماعية» جد مهمة، ترتب عليها أن الناتج الداخلي الإجمالي للفرد يصل فيها إلى ما لا يقل عن ثلاثة أضعاف الناتج الداخلي الإجمالي للفرد في الجزر المجاورة، وهي جزر صارت مستقلة. والحال أن فكرة الاستقلال لها قوة تعبوية جد قوية لكننا، إذا ما تصورنا الآثار الخطيرة التي يمكن أن تترتب على خفض الإعانات المقدَّمة من المتروپول، سنجد أن «واجب الذاكرة» إنما ينصب على شجب العبودية. وإلى هذه الأعوام الأخيرة، كانت غالبية السود (إذا ما استخدمنا المصطلح الذي استخدمه إيميه سيزير) التي عاشت في فرنسا إنما تتألف من منحدرين من جزر الهند الغربية ومن ريونيون جاءوا ضمن إطار هجرات منظَّمة في ستينيات القرن العشرين أشرف عليها مكتب الهجرات من محافظات ما وراء البحار، وهي هجرات يشجبها اليوم البعضُ بشكل مجاوز للحدِّ نوعًا ما بأنها ترحيل جديد. ومن بضع سنوات، نجد أن الناس الذين جاءوا بشكل غير شرعي إلى هذا الحد أو ذاك من أفريقيا السوداء الفرانكوفونية إنما يعدون في فرنسا غفيري العدد بشكل متزايد باطراد. وفي النقاشات حول الاستعمار والتي تنصب أساسًا على حرب الجزائر، نجد أن القادمين من جزر الهند الغربية ومـن أفريقيا – بالرغم من خلافاتهم- يريدون معًا إسماع أصواتهم. وقد قام بعضهم في 26 نوڤمبر/ تشرين الثاني 2005 بتكوين مجلس تمثيلي لجمعيات السود، يضم ستين جمعية.
وبالمقابل، قلما يدور حديث عن أولئك الذين جاء آباؤهم أو أجدادهم من الهند الصينية، حيث مما لا مراء فيه أن السيطرة الاستعمارية كانت أكثر وحشية وأكثر إذلالاً مما في المستعمرات الأخرى: فالحرب التي خاضتها هناك قوة الحملة الفرنسية كانت طويلة ووحشية كالحرب التي اضطر إجمالي مليونين من الجنود الفرنسيين إلى خوضها في الجزائر من عام 1954 إلى عام 1962. والحال أن غالبية الڤيتناميين وصينيي ڤيتنام الذين وصلوا إلى باريس في عام 1975 (بعد سقوط سايجون والهزيمة الأميركية) قد استقروا في أحياء أصبحت خاصة بهم، وقد نجح عدد من بينهم نجاحًا قويًّا جدًّا في مجال الأعمال، وذلك بفضل شبكات مالية عالمية. ولما كانوا متكتمين فيما يتعلق بعدد العمال الصينيين الذين يقومون بتشغيلهم سرًّا لحسابهم، فإنهم يفضلون عدم الحديث عنهم وقد «اندمج» بعضهم فيما يتعلق بالأعمال الاستثمارية فقط.
مشروع معاهدة صداقة بين الجزائر وفرنسا ؟
في النقاش الحالي حول الاستعمار، تكشفت المكانة المحورية المكرَّسة لحرب الجزائر من جانب اليسار كما من جانب اليمين في الصحف عبر صرخة الاستنكار التي أثارتها في صفوف جماعة المؤرخين – ثم تجدد إطلاقها من جانب أهل جزر المارتينيك- المادة 4 من القانون الصادر في 23 فبراير/ شباط 2005، والذي صوت بالموافقة عليه في تكتُّمٍ عدد جد صغير من النواب حضروا اجتماع الجمعية الوطنية. فبموجب هذه المادة، يتعين على البرامج المدرسية أن تشير إلى «الدور الإيجابي» للوجود الفرنسي فيما وراء البحار، خاصة في الشمال الأفريقي([2]). والحال أن هذه المسألة قد دفعت – فيما بعد- الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة إلى التهديد بالتخلي عن معاهدة الصداقة بين الجزائر وفرنسا والتي كان من المقرر التوقيع عليها قريبًا.
وفي 29 نوڤمبر/ تشرين الثاني 2005، طالب النواب الاشتراكيون بإلغاء المادة 4 من القانون. بيد أن الأغلبية المتمثلة في اتحاد الأغلبية من أجل التقدم، في الجمعية الوطنية، سعيًا منها إلى عدم تقديم تنازلات للمعارضة، قد رفضت أي تعديل، وذلك بالرغم من أن الحكومة قد انزعجت انزعاجًا شديدًا من تهديد معاهدة الصداقة بين الجزائر وفرنسا.
ولا يجب الاستخفاف بمشروع المعاهدة هذا – والذي يشجبه بعض الإسلاميين في الجزائر. فهو يتميز في الواقع بأهمية چيوسياسية مهمة ومدهشة، وهذه الأهمية تتجاوز بكثير أهمية البيانات الديبلوماسية المعتادة عن الصداقة بين الدول. وبالرغم من أن الجزائريين قد تعين عليهم اجتياز ما يزيد عن سبع سنوات من حرب وحشية سعيًا إلى انتزاع استقلالهم، وبالرغم من تمسكهم الحار بهذا الاستقلال، فإنهم سرعان ما أقاموا مع فرنسا علاقات أوفر عددًا بكثير وبالفعل أكثر إيجابية بكثير مما في زمن الاستعمار. ومن المؤكد أن الحرب لم تُنْسَ، بيد أن عددًا كبيرًا منهم يتكلمون الفرنسية في حياتهم اليومية ويحيا فريق من ذويهم في فرنسا ويصدر جانب مهم من الصحف التي يقرأونها في الجزائر بالفرنسية. وفي فرنسا، من المؤكد أن أي تيار سياسي لم يطرح البتة الافتراض الهزلي الوحشي والجبان الداعي إلى إعادة فتح الجزائر، ناهيك، من جهة أخرى، عن إعادة فتح أيٍ من المستعمرات أو المحميات السابقة.
وكما قلنا، فمنذ عام 1963، جاء جزائريون من الجزائر العاصمة للعمل في فرنسا([3])، دون أن يستثير مجيئهم علامات عداوة من جانب فريق من الفرنسيين ولا حتى من المستوطنين الذين كانوا قد اضطروا للتوِّ إلى الرحيل عن الجزائر. ومنذ عام 1962، قامت الحكومات الفرنسية، أكانت يمينية أم يسارية، بدعم الحكومة الجزائرية عندما كانت تمر بمصاعب، خاصة اعتبارًا من عام 1992 وخلال نحو عشر سنوات، عندما تصدى الجيش الجزائري بجميع الوسائل لهجوم الحركات الإسلامية. وتُواصل الشبكات الإسلامية إزعاج الرأي العام الفرنسي، ليس فقط بسبب الاعتداءات التي ارتكبتها في نيويورك ومدريد ولندن، وإنما أيضًا بسبب خطر انتشارها في فرنسا حيث يقيم اليوم، كما يعرف الجميع، نحو خمس ملايين من الأشخاص المنحدرين من أصول إسلامية، نصفهم من أصل جزائري (وهم الآن أكثر بعشرة أضعاف مما كانوا عليه غداة انتهاء حرب الجزائر).
ومن المؤكد أنه لابد من مراعاة خطر انتشار الإسلاميين الجذريين. إلاَّ أنه يجب بالمثل مراعاة واقع أنه تدور، منذ أكثر من عشرين سنة، في العالم الإسلامي وعلى تخومه، حرب غير معلَنة لكنها واسعة النطاق بين حكومات بعد كولونيالية وجماعات إسلام سياسي تريد فرض «الشريعة» على جميع المسلمين ومنعهم من أي ممارسة للحياة الحديثة (ذات الأصل الغربي) لا تنص عليها الشريعة، كالسينما والمنوعات الموسيقية وتعليم البنات وحرية التعبير، الخ. ومن المؤكد أن هذه الحكومات ليست ديموقراطية إلاَّ على الورق، بيد أن الإسلاميين الذين يشجبون الاضطهاد الذي يطالهم ليسوا أكثر ديموقراطية من هذه الحكومات.
ففي إيران، نجد أن الإسلاميين الشيعة قد استولوا على السلطة في عام 1979 بشكل مباغت تقريبًا، مستفيدين من الشائعات المتعلقة بوفاة الشاه الوشيكة ومتحالفين لهذه الفرصة مع أحزاب علمانية يسارية، قاموا بإزاحتها فيما بعد. أَمَّا في البلدان العربية، فقد توصلت أجهزة الدولة إلى احتواء نشاط الإسلاميين التخريبي، لكنهم كانوا في الجزائر في 1990-1991 على وشك الانتصار، بمناسبة الانتخابات جد التعددية بعد خمس وعشرين سنة من حكم الحزب الواحد، وذلك بمحاولتهم الاستيلاء على السلطة من خلال تظاهرات كبرى «على الطريقة الإيرانية» وباستفادتهم من السخط الذي استثارته حرب الخليج، بعد غزو الكويت.
وفي العالم الإسلامي، دارت في الجزائر، من عام 1992 إلى عام 2002، حرب حقيقية ضد الإسلاميين، كانت حربًا أهلية رهيبة. إلاَّ أنه، بالرغم من تجاوزات سياسة القمع، (وقد يقول البعض أنه بسبب هذه التجاوزات نفسها)، تمتعت حكومة العسكريين في الواقع بالدعم السلبي من جانب السكان. أمَّا مسلمو فرنسا، الذين لم يكونوا معرضين مع ذلك لهذا النوع من القمع، فإنهم لم يكونوا أكثر دعمًا للإسلاميين، الذين كان قد تم الإجهاز على شبكاتهم إلى الآن بفضل كفاءة الشرطة الفرنسية وبفضل المساعدة المتكتمة التي قدمها لها عدد من المغاربة. ولكن ما الذي ستكون عليه ردود فعل التغيرات الچيوسياسية في الشرق الأوسط بعد انسحاب الأميركيين من العراق ؟
ان المشكلة الچيوسياسية الكبرى التي تواجه الجزائر منذ عام 1990 هي الهجوم الإسلامي الذي قد يعاد شنه، حيث تجمع هذه المشكلة بين تناقضات مجمل العالم الإسلامي والآثار العديدة للاستعمار وآثار حرب الاستقلال وآثار خمس وعشرين سنة من «الاشتراكية» وآثار عشر سنوات من الحرب الأهلية. والمشكلة الچيوسياسية الكبرى التي تواجه فرنسا هي أيضًا خطر النشاط التخريبي من جانب الإسلام السياسي، وهو رد فعل بعيد على الاستعمار مع فاصل مدته أربعون سنة كما أنه رد فعل لتناقضات العالم الإسلامي في عصر العولمة. وفي حالة فرنسا والجزائر، تتميز العلاقات بعد الكولونيالية بتعقيد استثنائي وتتماشى مع مصلحة چيوسياسية مشتركة. ولا تقتصر هذه العلاقات على المصالح المرتبطة بالنفط وبالغاز الطبيعي، طالما أن بوسع روسيا أن تحل تدريجيًّا محل الجزائر في هذا المجال.
ومن الواضح أن المسألة بعد الكولونيالية في فرنسا لا تُختزل في هذا التلاقي الچيوسياسي مع الجزائر. ففريق متزايد من الشبان «المنبثقين من الهجرة»، ومن ثم فهم مواطنون فرنسيون لأنهم ولدوا في فرنسا، يرفضون فكرة الاندماج التي يشجبونها بوصفها خديعة، وذلك بسبب البطالة وأشكال التفرقة التي تطالهم. ويميل فريق منهم إلى اعتبار نفسه أقلية دينية أو «لونية» أو قومية (عربية ؟)، ويطالب عدد منهم بحقوق خاصة وبحصصٍ. وهكذا تنمو منذ بعض الوقت، بدعم من مثقفين ينتمون إلى أقصى اليسار، حركات كحركة «مستعمَري الجمهورية» أو كحركة «أَبناء العبيد» أو كحركة «اتحاد السود في فرنسا»، والتي يشجب بعضها المجتمع الفرنسي بوصفه مجتمعًا استعماريًّا. والواقع أن المسألة بعد الكولونيالية إنما تطرح، في فرنسا، مسألة تطور الأمة والفكرة التي تتكون عنها بحسب الاتجاهات السياسية.
إيڤ لاكوست
الهوامش
(1) انظـــــر [ Pétré-Grenouilleau, 2004 ]، الـذي قَدَّمـتُ له عرضًا مسـهبًا فــي مجلــــة Hérodote، العدد117 (Élisée Reclus»).
(2) هذا القانون الذي «يبدي عرفان الأمة وما تدين به للفرنسيين العائدين إلى الوطن» ينص في مادته 4 على أن «تعترف البرامج المدرسية اعترافـًا خاصًّا بالدور الإيجابي للوجود الفرنسي فيما وراء البحار، خاصة في الشمال الأفريقي وتوفر لتاريخ ولتضحيات مقاتلي الجيش الفرنسي المنبثقين من هذه الأراضي المكانة البارزة التي تستحقها». وتشير خاتمة هذه الجملة إلى المقاتلين الأفارقة الشماليين في الحرب العالمية الثانية وإلى الحركيين، الجنود المساعدين للجيش الفرنسي قبل عام 1962، على الأقل أولئك الذين تمكنوا من اللجوء إلى فرنسا. وكان قد جرى احتجازهم في معسكرات، ولا مراء في أن السبب في ذلك كان الرغبة في تفادي قيامهم بتشكيل مجموعات من المأجورين العاملين في خدمة حزب ممكن من العائدين المعادين لسياسة الچنرال ديجول.
(3) لقد انضموا إلى من كانوا مستقرين فيها ؛ ولا يجب أن ننسى أنه يوم 17 أكتوبر/ تشرين الأول 1961، كان الجزائريون الذين تظاهروا في باريس ضد «حظر التجول» الذي فُرض عليهم ضحايا «حملة تأديبية» رهيبة من جانب الشرطة الباريسية أدت إلى مصرع ما يزيد عن مائتي شخص.
بيبليوجرافيا :
AGGOUN L. et RIVOIRE J.-B., Françalgérie, Crimes et mensonges d'États. Histoire secrete de la guere d'indépendance à la «troisième guerre d'Algérie», La Découverte, Paris, 2005.
BLANCHARD P., BANCEL N. et LEMAIRE S. (dir.), La Fracture coloniale. La société Française au prisme de l'héritage colonial, La Découverte, Paris. 2005.
FERRO M. (dir.), Le Livre noir du colonialisme, Robert Laffont, Paris, 2003.
LE COUR GRANDMAISON O., Coloniser, exterminer, Fayard, Paris, 2005.
PÉTRÉ-GRENOUILLEAU O., Les Traites négrières, essai d'histoire globale, Gallimard, Paris, 2004.
0 التعليقات:
إرسال تعليق