...
24 يوليو 99
... ولماذا يجب أن تشعر بالخذلان؟ إذا كانت أغنية الرحيل تقترب من سمعك فليس هناك ما يبرر الهرب إلى الأمام... يمكنك أن ترشف الكلمات الأخيرة وتسكر بها هذا المساء، خاصة وأن الخمور الأخرى رديئة كلها.. وعندما تنساب يدك إلى ما تحت الخاصرة سوف تلمح ابتسامة بلون الدموع التي تغرورق بها عينان على رصيف الميناء... لذا يجب أن تحول بصرك عن الابتسامات التي لا معنى لها والتي تتساقط على الوجوه تساقط الهاموش في الكأس الأولى.
...
24 يوليو 99
لا يبدو أنها تحتمل حضور امرأة أخرى على المائدة، حتى ولو كانت التمثيل الصرف للغياب... سوف أضحك إذ يخطر ببالي أن بالإمكان حشرها في كيس من البلاستيك ورميها على رءوس المارة أسفل الشارع العامر بالمراهقين... أتخيلها وهي تنكسر نثاراتٍ نثارات من الزجاج الملون، دون قطرة دم واحدة، بينما أسراب من الألسن المحرومة تلعقها فتذوب في التو والحال مثل غيمة وحيدة في رائعة النهار...
...
24 يوليو 99
الراقصة التي تتمايل على سور الشرفة لا تفعل شيئاً سوى إرباك العينين الزرقاوين المحبتين... لدى كل نظرة تخرج منهما طيور ميتة حتى يمكنك أن ترى أوزارك جيداً وتعرف أنك لا تصلح إلاَّ لأن تكون حفار قبور.
يوماً ما... قالت لك العينان الزرقاوان: أحبك! ما الذي حدث؟ يبدو أنك لا تذكر تماماً أو لا تريد أن تتذكر... إلى هذا الحد كانت المباغتة إيلاماً! هل هي مشكلة التقاء أزمنة الروح... لا أعرف إلاَّ أنك كنتَ مسكوناً بآلاف الأزمنة في آن واحد... كانت تتدفق في أعماقك بسرعةِ انهيارِ جرفٍ من الصخور المتباينة الألوان... وكان صوتها صاخباً صخب الاحتضار، فلم تشأ أن تتبين ملامح كلمة المحبة.
...
27 يوليو 99
لم يسمح لكَ موقعُ النظر بأن ترى جيداً الزهور المنثورة على غلالة الجسد الطالع من رحم الليل، ثم إن أشباح البنات الصغيرات كانت تمسك بشموع وسط الجبانة وهي تبحث عن اسم ميتةٍ على شاهدة قبر... لم تكن الإضاءة كافية إذاً لكي ترى الزهور ذات اللون البنفسجي... ولكن ماذا يمكن أن يحدث لو سمعتَ فجأة تنهدات الزهور التي كانت تتأرَّج وهي تنصت للحكاية...؟ ...
سوف تقولين أن المرء لا يجد نفسه إلاَّ مع نفسه، فهل يجد المرء فرصة ليكون مع نفسه فعلاً؟... عندما تلمحين التساؤل سوف تتحدثين عن أزمة الأيام الأخيرة، لكنك سوف تردفين بحزم أن الندم لا يخترق روحك، وعندئذ أرى عينين نجلاوين كحد السيف... وأنسى الزهور التي تسقط على التراب...
...
29 يوليو 99
ليس الواقع الإنساني موضوعاً لتدخل إرادة واحدة وحيدة هي إرادة المثقف. ويخطئ المثقفون إذا ما تصوروا أنهم ملح الأرض أو ضمير طبقة أو أمة. فمثل هذه التصورات ليست سوى مجرد أوهام يصوغها نفر من النرجسيين الذين يتكفل التاريخ دائماً بالثأر من أوهامهم وبتأديبهم على وقاحتهم في الوقت المناسب، وهو تأديب غالباً ما يكون غير مهذب بحال من الأحوال...
حيال الهزائم تتباين ردود فعل المثقفين تبايناً واضحاً: إن الجياد المرهقة جداً قد تركع أمام الجلادين من جراء اليأس التام، وقد تحاول ستر عريها بخرقة ما تسميه "الواقعية"، أي التصالح مع الأمر الواقع وادعاء إمكانية استئناسه بمداعبته بدلاً من التمرد السافر عليه. ومن جهة أخرى، ربما يتمثل خيار جياد مرهقة أخرى في الانتحار أو في النزوح إلى سهوب نائية تسمح لها باسترداد أنفاسها...
منذ هزيمة العرابيين في عام 1882، تكرر هذا المشهد مراراً، بحيث يصعب الادعاء أننا بإزاء ظاهرة جديدة تماماً...
لا يملك المثقف القدرة على تحرير البشرية من اغترابها، فهذا التحرير يجب أن يكون من فعل هذه البشرية نفسها، وليس نيابة عنها، وإلاَّ كان بلا معنى... وفي جميع الأحوال، لا تجرد الهزيمةُ الانسان من شرفه، فما يجرده من هذا الشرف هو أن يتماهى مع جلاديه...
...
29 يوليو 99
أعرف أنك تملكين بصيرة نافذة، وأعرف أنك تمسكين مرآة سحرية تبوح لك بأسرار الروح العميقة ويمكنني أن أفهم اللذة التي يتيحها ذلك لك، لأنك، بالرغم من كل شيء، لم تغادري طفولتك بعد، والأطفال يقتلون أحيانا،ً ويطلقون الرصاص بشكل عشوائي على أترابهم، وبوسعهم بعد ذلك، أن ينتحروا...
بالطبع، لستِ ملومةً بارتكاب جريمة الإيلام، فالجرح مرئي تماماً ولا حيلة لي فيه...
تتحدثين عن المسافة التي أتشبثُ بمراعاتها في الحياة... وتخافين من تسللها إلى الورق... لكنكِ لست مهتمة بالبحث عن الجذور... أنا نفسي غادرت ساحتها الأولى منذ زمن بعيد، لكنها لا تزال هناك، كامنة في مكان ما يمكنني استحضاره...
كنت متورطاً إلى حد بعيد، وكان بالإمكان قراءة هذا التورط في اللمسة والنبرة والنظرة، دون مجهود يُذكر... ثم في مساءٍ ما، جاء التحذير المصحوب بالإشفاق: يمكن للأشياء أن تحافظ على جمالها، بأخذ مسافة منها وبعدم الانصهار فيها...
كان التحذير صادقاً، إلا أنه كان مخيباً للآمل، لأن التورط كان عميقاً تماماً...
بوسعك أن تهنئي نفسك على أنك بيثيا عصرية،... ولكن... من الذي يحتاج في زماننا إلى نبيةٍ عَرَّافة؟
...
31 يوليو 99
من علامات التصالح مع الأخلاق السائدة أن نبحث عن الشرعية. ولا يختلف المثقف الذي يبحث عن آباء في الثقافة القومية عن الأطفال غير الشرعيين الذين لا يعرفون آباءهم فيضطرون إلى اختلاق حكايات عن ملابسات زواج امهاتهم في بلاد بعيدة من رجال ماتوا في حروب عادلة قبل أن تتسنى لهم رؤية أطفالهم. والحال أن البحث عن أب من أجل الفوز بالشرعية في أعين الآخرين إنما يعني أننا لا نملك من الشجاعة ما يكفي لكي نعلن أن جدارتنا الإنسانية لا تخسر شيئاً من كوننا بلا آباء...