في الألمانية، كما في كثير من كتابات جرامشي, تعني "الثقافة" التمدن، الذي احتاج رواد النهضة العربية إلى عشرات السنين لكي يصلوا إليه كمصطلح عربي يعبر عن ال "civilization".
وإذا استخدمنا "الثقافة" بالمعنى الألماني لكي نرى إلى أي حد هي موجودة في بلادنا, فسوف نكتشف أنها جزر محاصرة بمحيط من البربرية التي يعلو مَوجُها مهدداً حياتنا الروحية بتقهقرنلمس آثاره على أكثر من مستوى:
لقد اتخذت التجهيلية الدينية شكل حداثة رجعية تتوهم أن اللحاق بالحداثة يتمثل في العودة إلى أزمنة ذهبية وهمية، ما يعني أن الماضي لم يمض بعد، مادامت هذه الحداثة الرجعية تدير ظهرها للمنجز الإنساني التنويري المتواصل تكريساً للإغتراب الروحي الأزلي وهو ما يعني أن العلمنة لم تقطع في بلادنا شوطاً يستحق الذكر. والنتائج المترتبة على ذلك مرئية لكل من يريد أن يرى: التعصب الديني، تفتيش الضمائر وخنق الفكر الحر وحرية الفكر، انحطاط التعليم والمعرفة، اضطرار مئات الآلاف من المثقفين إلى النزوح إلى الغرب، هيمنة العنف على الخطاب السائد، إلخ، باختصار، تحويل ساحة الحياة الروحية إلى ساحة للترويع والخوف والعسف والعنف، أي إلى كل ما يتعارض كل التعارض مع التمدن، مع الثقافة.
يعني هذا أن مطلب العلمنة بات على رأس جدول الأعمال، ويتضمن هذا المطلب، بالدرجة الأولى، فصل الدين عن الدولة وفصل التعليم العام عن الدين.
ويترافق مع خطاب الحداثة الرجعية خطاب هوية حصرية، هو خطاب عنصري في جوهره، يتضمن قدرأ لا بأس به من رهاب الآخرين، خاصةً إذا كانوا غربيين، فيجري النظر إلى الغرب على أنه كلٌ مصمت، ما يشير إلى العجز عن قراءة الغرب، و،عموماً، إلى العجز عن التمييز، مايشكل، بحد ذاته، دليلاً على خلل معرفي وخيم الآثار من الناحية العملية كذلك. فتحويل الخصوصية القومية إلى خصوصية حصرية هو انكفاء مرضيٌّ على الذات ونرجسية تؤدي إلى الهلاك في عالم على هذه الدرجة الكبيرة من التداخل.
يعني هذا أن مطلب أولوية المصلحة الإنسانية العامة على المصلحة القومية بات هو الآخر على رأس جدول أعمال الثقافة، التمدن، الآن بأكثر مما كان في زمن مونتسكيو أو أي زمن آخر.
وتترافق مع خطاب الحداثة الرجعية، دينيًّا كان أم قوميٍّا، نزعة سلطوية عميقة الجذور في الاستبداد الشرقي. فلا وجود هناك للفرد سوى الفرد المستبد، حاكماً كان أم إماماً أم زعيماً قوميًّا، أمَّا الجماعة فهي ليست إلا حاصل جمع أحلاس ورعايا، إذ لا تتألف من مواطنين لهم حقوقهم الفردية والجماعية، أللهم إلا على الورق فقط، وهو ما يعني أنها حتى لا تساوي قيمة الورق الذي تُكتب عليه والحبر الذي تكتب به.
يعني هذا أن مطلب الديموقراطية بات هو الآخر على رأس جدول الأعمال، ذلك أن الثقافة، التمدن، لا يمكن أن تنمو في الأرض اليباب، فماؤها هو الحرية والحرية أُكسجينها.
وبقدر ما أن الفقر، الحرمان، العوز،البؤس، هو التربة التي تترعرع عليها كل الأوبئة المذكورة أعلاه، فإن حل المسألة الاجتماعية إنما يطرح نفسه بقوة بوصفه شرطاً أساسيًّا لتحقيق العلمنة والأنسنة والدمقرطة.
وفي هذه الظروف، تتحدد مسئوليات فاعلي الثقافة، التمدن، الأساسيين؛ أي الجماعة الثقافية: ليست مهمتها أن تتحول إلى حزب، بل أن تخوض حرب مقاومة ثقافية، مقاومة لا قائد لها ولا مرشد سوى ما يمليه الحاضر والتاريخ عليها من واجبات أخلاقية، إن كانت تريد تبرير وجودها على الأقل!.
الكتابة الأخرى، يناير 2010
0 التعليقات:
إرسال تعليق