العرب والمحرقة النازية

عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة ودار الساقي ببيروت، صدرت في مستهل هذا الشهر ترجمة بشير السباعي لكتاب "العرب والمحرقة النازية. حرب المرويات العربية – الإسرائيلية" من تأليف الباحث المعروف جلبيرالأشقر، الأستاذ بمعهد الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن. وكان الأصل الفرنسي للكتاب قد صدر في سبتمبر 2009 عن دار سندباد الفرنسية. وقد نشرت "لوريان لوجور" في ملحقها الأدبي الشهري الصادر في 3 ديسمبر 2009 مراجعة للكتاب بقلم المؤرخ الفرنسي المعروف هنري لورنس ننشر أدناه ترجمة لها بقلم بشير السباعي:


معاداة الصهيونية ليست معاداة للسامية. ومواقف العرب من دولة إسرائيل، بحسب ما إذا كانت هذه المواقف قومية أو معادية للاستعمار أو إسلامية، هي مواقف متنوعة وليست كلها موسومة بالافتتان بالنازية. وفي عمله الأخير، يفك جلبير الأشقر برهافةٍ الخطوط الأيديولوجية التي تنسج علاقة العرب المركبة بالمحرقة النازية.


ويُذَكِّرُ جلبير الأشقر في البداية بمدى فداحة الآلام التي تنشحن بها الكلمات عندما نستحضر هذه الحقبة الكارثية من تاريخ القرن العشرين. والكتاب مخصص في جانب كبير منه للفترة الممتدة من عام 1933 إلى عام 1945 وهو يدرس ردود الفعل العربية على النازية انطلاقاً من حقيقة أن الصهيونية كانت حميمة الارتباط بالإمبريالية الأوروبية و بالاستعمار ومن ثم فقد حوربت بصفتها هذه. ويميز الكاتب بين التيارات الفكرية الأربعة الكبرى للنزعة الاستقلالية المعادية للاستعمار، وهي تفرقة مصطنعة إلى حدٍّ ما وذلك بالنظر إلى تواصلات الفاعلين وانتقالاتهم بين هذه التيارات وإن كان بالإمكان الاعتراف بها كنواة لقيم مشتركة.


والتغريبيون الليبراليون هم أولئك الذين يرجعون إلى الثقافة الديموقراطية والإنسانية النابعة من أوروبا. وقد انحازوا انحيازاً حازماً إلى صف معاداة النازية. وهم معادون للصهيونية من منطلق معاداة الاستعمار ويطرحون دوماً السؤال "الوجيه والذي لا يجوز الاعتراض عليه": لماذا ينبغي على الفلسطينيين أن يدفعوا ثمن جرائم النازيين؟ وهذا هو موقف الفريق الأعظم من المثقفين العرب آنذاك، خاصة في مصر، وهو موقف أحزاب سياسية كبيرة كالوفد المصري والكتلة الوطنية السورية. وهو رأي أغلبية الصحف الفلسطينية. وهو التيار السياسي الأوسع انتشاراً بكثير آنذاك.


والماركسيون العرب أكثر عداوة للنازية بقدر ما أن هذه العداوة كانت التوجيه الذي قررته الأممية الشيوعية فيما عدا الفترة الممتدة من أغسطس / آب 1939 إلى يونيو / حزيران 1941 [ فترة ميثاق هتلر – ستالين ] . وهم الذين طرحوا المعادلة الغرارة التي تساوي الصهيونية بالنازية، أي أن عداوتهم للحركتين كانت على مستوى واحد، ونحن هنا بإزاء الصيغة المحلية لصيغة "الاشتراكية – الفاشية" التي استخدمها الشيوعيون في البلدان الأخرى [ غير العربية ].


وأمَّا القوميون فإنهم ينظرون إلى ألمانيا النازية بالدرجة الأولى من حيث كونها عدوة بريطانيا العظمى، ومن ثم من حيث كونها حليفة ممكنة. وغالباً ما يقودهم هذا التعاطف إلى استعارة أشكال من الفاشيات الأوروبية من نوع حركات الشبيبة ذات الطابع العسكري. والوحيدون الذين اجتذبهم إلى حد ما بالفعل أقصى اليمين الأوروبي كانوا في حركة مصر الفتاة وبين القوميين العراقيين المتطرفين. وهم أولئك الذين حاولوا الدخول في اتصال مع الجيش الألماني خلال الحرب العالمية الثانية. وقد فعلوا ذلك أساساً من منطلق كراهيتهم للمستعمر البريطاني. وتلك كانت حالة السادات في شبابه أو القوميين المتطرفين العراقيين. ونحن نجد في هذه الجماعات اتجاهاً إلى الخلط بين اليهود والصهيونيين.


وفي الحركات الدينية "السلفية"، تلك التي تقرأ نصوص الإسلام الأساسية قراءة حرفية، نجد معاداة حقيقية للسامية، لأن هذه الحركات تفهم العالم من منظور ديني، أي من زاوية صراع الديانات. وهكذا تجري إعادة استنفار الموروث المعادي لليهودية. ونحن نجد هذا المسلك في كتابات رشيد رضا الأخيرة أو لدى الإخوان المسلمين. ومن الغريب أن هؤلاء الإسلاميين، بينما يعادون علمانية الماركسيين أو الكماليين الدهرية معاداة ضارية، إنما يُبدون قدراً من التساهل حيال النازية التي لا يحسنون من جهة أخرى فهم جوهرها الوثني الجديد.


ويُدرج الكاتب أمين الحسيني ضمن هذه الفئة. واقتناعي بذلك أقل من اقتناعه به. فلقد كان في تعاونه مع النازية القدر الكبير من الانتهازية السياسية، حتى وإن كان من المؤكد أنه كان شديد التأثر بأشكال المراعاة الكثيرة التي أبداها له المسئولون النازيون. ومما لا جدال فيه أنه قد استجاب عن طيب خاطر للمطالبات التي وجِّهت إليه لإصدار تصريحات معادية لليهود. إلاَّ أنه يبقى مع ذلك، وهذا هو الشيء الجوهري، أن أفعال المنفيين العرب الموجودين في أوروبا الواقعة تحت السيطرة النازية لم تلق غير القليل من الأصداء ولم تترتب عليها نتائج تذكر في العالم العربي. وهذا هو ما يعترف به أيضاً المؤرخون الإسرائيليون الجادون كيهودا باور. والواقع أن عدد المقاتلين العرب في صفوف جيوش الحلفاء كان أعلى بكثير من بضع المئات من المتطوعين الذين انحازوا إلى صف النازية. وتكفي الإشارة إلى أن عدد العرب الذين تم الإلقاء بهم في معسكرات الاعتقال النازية كان أكبر من عدد هؤلاء المتطوعين.


والجزء الأخير من الكتاب، وهو الجزء الأكثر اقتضاباً، مخصص لحقبة ما بعد 1945. وتتعقد المسألة تعقداً مريعاً جرَّاء رغبة دولة إسرائيل في تبرير وجودها بواقع القضاء على يهود أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية وبتشبيه العرب بالنازيين على نحو مستديم في الخطاب الإسرائيلي. وبشكلٍ مُناظرٍ، قام كثيرون من الكُتَّاب العرب بالرد على ذلك برد التهمة على الإسرائيليين وباستعادة الفكرة الرئيسية التي جاءت من الشيوعية بشأن التساوي بين الصهيونية والنازية. وهكذا فإننا، في ثقافة الحرب بين الطرفين، نجد أنفسنا حيال تبادل رهيب للاتهامات. ومما يزيد من تفاقم التشوش واقع أن أنصار دولة إسرائيل يتهمون العرب والمسلمين بأنهم لا يميزون بين اليهود والصهيونيين في حين أنهم هم أنفسهم يرفضون هذا التمييز، بل يصل الأمر بهم إلى حد شجب المثقفين اليهود الذين يقومون بهذا التمييز جرَّاء "كره النفس" .

وقد عومل مكسيم رودنسون العظيم في فرنسا بهذه الطريقة. وفي هذا المناخ الوبيل، فمن المؤكد أن إنكار المحرقة ذي المنشأ الغربي قد وجد ترحيباً. كما أن الهيمنة التي اكتسبتها في هذه العقود الأخيرة الحركاتُ الإسلاميةُ في المجال الفكري والسياسي تجد ترجمة لها في نزعة جوهرانية، مصدرُ إلهامها ديني، تستهدف أيضاً المسيحيين (الحديث عن اليهود والصليبيين).


ويبقى مع ذلك أن الموقف الرسمي لجميع الدول العربية اليوم هو موقف تطبيع كامل للعلاقات مع دولة إسرائيل، في مقابل الجلاء الكامل أيضاً عن الأراضي المحتلة، وأن حركة معاداة السامية القوية في العالم العربي هي بالدرجة الأولى رد فعل على الواقع الصهيوني نفسه. فليس عبر معاداة السامية تتم مواجهة إسرائيل، ولكن كثيرين (وإن لم يكن الجميع) يصبحون معادين للسامية في سياق مواجهة إسرائيل. وذلك هو الثمن الخبيث لثقافة الحرب. وعلى سبيل المقارنة، يمكن التذكير بأسوأ الهذيانات التي أبداها أعظم المثقفين الفرنسيين خلال الحرب العالمية الأولى حين تحدثوا عن همجية الألمان المتأصلة.


وقراءة هذا الكتاب، بحجمه كما بجودته العلمية، إنما تقدم عزاءً عظيماً في زمن يستسلم فيه أناس، يزعمون أنهم مثقفون أو جامعيون، لهذا النوع من الهذيانات عند إثارة موضوع كهذا. فليتقبل الكاتب والناشر شكرنا.

أخبار الأدب ، 21 فبراير 2010

0 التعليقات: