حول مستقبل الشعر
اقترح منظمو بينالي الشعر الذي انعقد في كنوك – لو – زوت، من 3 إلى 6 سبتمبر 1959، اقترحوا، كموضوع لتأملات الكُتاب الملتقين لهذه المناسبة، تيمة يبدو أنها، شأنها شأن تلك المدينة الصغيرة الجميلة، إنما تنفتح هي نفسها على المحيط: "الشعر وإنسان الغد". وبالنسبة لكثيرين، كان هذا الموضوع الاستشرافي ذريعة لجلد الذات وإماتتها. فالواقع أن طرح المسألة بهذا الشكل الفضفاض إنما يؤول إلى التساؤل عما إذا كان الشعر سوف يستمر موجوداً في الغد أيضاً. وهذا يدفع إلى النظر في مآل الضمير الشقي في حضارة سعادة. وأياً كانت المقدمات والمبادئ الأيديولوجية لمجتمع الغد، فإننا نعرف أن السعادة الإجبارية سوف تكون شرعته ودستوره. لقد قال سان – جوست إن السعادة فكرة جديدة. وما هو جديد هو نشدان السعادة في أعمال الدولة. وهكذا، عبر وسائل ميكانيكية، يجري نصب فخ الهناء الموضوعي للإنسان. فالعلم يحقق إحلام البشر والشعر يحلم بأن يحلم. إن الهيمنة على الملكوت الشاسع، ربما كانت تعني أن اكتشاف اللانهائي ليس أكثر من مصيدة.
بالرؤيا وبالصورة، يعتبر الشعر انتجاعاً (ارتياداً للزاد حيث يكون) أما بالكلمة، فهو يعتبر ركيزة وأساساً. ويتعين عليه بحكم هذه الحركة المزدوجة أن يضع نفسه بالضرورة في أماكن أخرى غير تلك التي ينصب الإنسان نفسه فيها حاسباً لما هو واقعي. وبانكبابه على البحث المهموم عن "المكان الآخر"، فإنه لا يمكث كلياً البتة في الالتقاء القسري للـ"هنا" و"الآن".
وإذا ما قبل إنسان الغد أن يتلاشى في مصير جماعي، فسوف يكون الشعر عندئذ بالنسبة للبعض فرصة للوحدة. والحال أن الشعر إنما يتميز عن المذاهب الكبرى بميزة عدم الوعد بالخلاص. إنه صوت في الليل، والانتقال الذي يوحي به يتقاطع مع كل الدروب لكنه لا يختلط بأي منها. إنه خروج الروح – الدياسبورا الخلاقة التي لا نتحسسها بعد كتَشَتُّت، بل كسطوة. إن المرء لا يتحد مع الشاعر؛ إنه يصبح بمفرده عند الاتصال به.
هناك أيضاً هذا الأمر، وهو أن الشعر ينقي اللغة ويسمح لها، على نحو ما، بأن تحفظ سر الكائن. والمحكوم عليه بالإعدام يعرف، غريزياً، أنه لو أمكن أن يحكي حكاية للجلاد، أي لو نجح في شد اهتمامه إلى سره، فلربما أمكن له إثارة قلقه أو إرخاء قبضة يده. ومن عالم "ألف ليلة وليلة" الغزير إلى قضية كارل تشيسمان، نعرف أن الكلام يملك أحياناً قوة إحباط الفعل ونزع سلاح الجلادين.
لا يجب أن نطري أنفسنا كثيراً على تقدماتنا التي لا تعدو أن تكون تقدمات سيمياء تعوزها النزعة الإنسانية. ما الذي يقرأه الميكانيكيون من تبديات دوارانا؟ عن طيب خاطر يقرأون "كوميديات" بأكثر من قرائتهم "أزهار الشر". وعند اللزوم، لن يستنكفوا عن تحويل "أزهار الشر" إلى "كوميديا". وقياساً إلى مثقفي الرينيسانس، فإننا لسنا إلاَّ منحرفين ريفيين صغاراً. لقد كانت هناك رغبة في اقتسام المعرفة. وفي ختام الاقتسام، نكتشف أن ما ترتب عليه هو شراكة في الجهل، هو حلف كلام فارغ. وضد هذه السعادة التي تنحصر في تنازل متواصل للأسوأ، ما الذي يمكن للشعر عمله؟ لا شيء على ما يبدو؛ أو بالأحرى مع ذلك – إذلال المظاهر لحساب وحدة مستعادة.
سوف يكون المستقبل بحاجة إلى ميناء حر للذكاء. إن أناساً قادمين من كل حدب وصوب سوف يتولون هناك، على راحتهم، إدانة الفكر المكتسب اكتساباً مشبوهاً. وسوف تنبثق كلمات جديدة، في نفي شجاع للمنفعة. سوف يكون الشعر قوة أولئك الذين لا يتقاسمون شيئاً البتة من الحقائق الرائجة.
مارس 1960
ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي
0 التعليقات:
إرسال تعليق