المثقف في المعركة
(مداخلة في الندوة التي أقامتها
"جماعة المحاولين" يوم 6 أبريل 1939)
الأصدقاء الأعزاء،
على الرغم من أسفي لعدم تمكني من التواجد بينكم هذا المساء، فإنني حريص على أن أوضح بإيجاز بالغ تصوري عن المسألة المهمة بين جميع المسائل، والتي تشكل موضوع نقاشكم. يروق للمرء تصوير الشعراء والكتاب والفنانين الأكثر تقدماً في زماننا على أنهم مواصلون للحركة الرومانسية. على أن تحليلاً نزيهاً وصارماً للعلاقات القائمة بين المحتوى الأدبي للقرن التاسع عشر والمحتوى الأدبي لعصرنا من شأنه أن يجبرنا على الاعتراف بوجود قطيعة في الاستمرارية بين الاثنين. فالأدب الرومانسي ينطوي على التأمل الدائم من جانب ذات معينة للدراما الخاصة بها. فكل واحد يستغرق في أحزانه وتمزقاته العميقة. إن أبسط ارتباك أخلاقي وأبسط مأزق مؤثر يصبحان قصيدة مثيرة للتوجع أو دراما من خمسة فصول لا يحل شيء ولا يتم إنقاذ شيء في ختامها. إن الرومانسية عاطفية وذاتية. فهي عاطفية بمعنى أن العاطفة تتطور عندها في حرية تامة دون أن تكف البتة عن هدهدة نفسها بأشكالها التي لا حصر لها، ودون أن تتطلب شيئاً غير مرآة يطيل المرء فيها النظر إلى نفسه، أو لا يرى غير نفسه. وهي ذاتية بمعنى أن الذات تعتبر الواقع الوحيد الجدير بالوجود – بمعنى أن الذات لا تهتم بالعالم بقدر ما أن العالم لا يهتم بها. وهكذا يصبح الإنسان وحيداً على الأرض. والأسوأ من ذلك، أنه يصبح وحيداً دون أرض.
ويبدو اليوم، ومنذ عشر سنوات، وذلك بفضل الدراسات النقدية التي قام بها رجال مثل أندريه بريتون وجاستون باشلار وهربرت ريد، أن الأدب والفن المعاصرين قد نبذا العاطفة لحساب الاشتهاء – الذات لحساب الموضوع. إنهما أدب وفن اشتهائيان وموضوعيان. ويتطلب الاشتهاء إشباعاً فورياً وفائراً. وهذا الإشباع لا يمكن العثور عليه إلا في الموضوع وعن طريق الموضوع. واسمحوا لي بأن أستشهد مرة أخرى بما قاله نيكولاس كالاس: "إن الصوت العاطفي هو من الزاوية الاجتماعية صوت محافظ، لأنه يكيف الإنسان مع الوضع القائم، أما الصوت الاشتهائي فهو وحده الصوت الثوري. إن العاطفة بالقياس إلى الاشتهاء هي انحراف للرغبة لكن هدفنا لا يتمثل في حرف الرغبة بل في تحويل المجتمع من أجل تكييفه لرغبتنا ... إن الفن ليس عاطفياً البتة، ليس أخلاقياً البتة، إنه ضد النظام القائم، ضد الطبقة السائدة، ضد كل اتباعية، ضد الكهنة من كل نوع ومن كل حدب وصوب، والبارثينون (هيكل الربة أثينا في مدينة أثينا) يثبت ذلك: إن الفن معمل بارود".
ويجري عموماً اتهام الكتاب والفنانين المعاصرين بالكلبية وبانعدام الأخلاق وذلك لمجرد أن الغالبية من بينهم يمارسون ويوصون بالبحث المنهجي عن اللذة وأنه تنبثق من أعمالهم بوقاحة أخلاق لا علاقة لها البتة بالأعراف المجازة تحت هذا الإسم – هي أخلاق الرغبة. إن الإنسان، والفنانين بشكل أدق، يخلقون لأنفسهم في كل لحظة موضوعات جديدة للإشباع. وحتى من الزاوية الأكثر محدودية، الزاوية التجارية، يمكننا رصد تكاثر مريع لعدد الأشياء المطروحة للاستخدام اليومي من جانب الإنسان. وفي باريس، وفي نيويورك، وفي لندن، نظمت معارض لا تضم غير أشياء مصنفة فنياً تحت ما لا حصر له من العناوين. وبطبيعة الحال، فإن هذا الاندفاع الفني نحو الموضوع، الغني بالاشتهاءات وبالاكتشافات، إنما يتم في اتجاه غير نفعي. إلا أنه يدل كذلك على اتجاه مشترك لدى جميع ممثلي الفكر الحديث تقريباً. وهو اتجاه عودة إلى الواقع ليس بوصفه شيئاً ناجزاً وجامداً بل بوصفه، على العكس من ذلك، شيئاً دينامياً قابلاً للتغيير وقابلاً للتحسين. ودون إدراك بالغ، فإن المثقف والفنان يجدان نفسيهما بذلك وسط معركة اجتماعية سافرة. فالمسألة التي تطرحها الحياة عليهما هي تحويل جميع مصادر البؤس إلى مصادر للمباهج. ولم يعد بوسعهما صرف النظر عن ذلك. فمن الآن فصاعداً، عن طريق الراديو والسينما والصحف – وهي وسائل للاتصال البشري رائعة وغير متوقعة – تصل إليهما فوراً أبعد علامات الشقاء ويصبح عليهما الرد عليها. وفي كتابه "الأمل"، فإن أندريه مالرو، وهو يتحدث عن ملحمة مدريد، يوضح لأحد شخصياته: "لقد عاش هؤلاء الناس على الأقل يوماً وفقاً لقلبهم". إن التعارض الشائخ والكاذب بين الحلم والفعل قد طال أكثر من اللازم. وعلى الفنانين والكتاب أن يناضلوا من أجل أن يكسب البشر دائماً حق الحياة وفقاً لقلبهم.
ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي
0 التعليقات:
إرسال تعليق