حالية العام ألف [ نهاية العالم ]
مآل كلمات معينة هو مفتاح لفهم عدد من الظواهر المزعجة. ففي جزء بأكمله من العالم، أصبحت كلمة النقد الذاتي ذات استخدام شائع. وهذه الكلمة تزعم أن تتمتها هي كلمة أخرى، لكنها، في الواقع، إنما تأخذ مكانها. فالنقد الذاتي يحل محل النقد. وضمور هذا الأخير هو شرط نجاح البديل الذي يحل محله. والحال أن الشكل الغريب لذلك النشاط الذي يعرف نفسه بهذا اللفظ إنما يهم، بدرجات مختلفة، الأدب وسيكولوجية السلوك. إنه يحقق مزيجاً جذاباً: هو مزيج الروح المسيحية للعام ألف مع التعبئة الحديثة للضمائر.
إن العام ألف هو فترة إرهابات عظمى مجهولة الاسم. فالإنسان يدع نفسه أسيراً لهاجس تهديد غير مرئي وهو يقنع نفسه بأن مرسوماً مبهماً بالدمار الشامل هو على وشك الصدور، ووضعه محزن بحيث إنه يعتبر نفسه بشكل عفوي مذنباً باقتراف نوع من الجرم العمومي وغير المحدد، يتوجب السعي إلى الإجابة عنه قبل أن تنهار داره. والمسألة ليست مسألة حكم على جاره. فهذا الأخير جد منشغل بالفعل بصوغ تفاصيل ذنبه الخاص. بل هي مسألة الانتماء إلى الذنب، والذي يطرح نفسه فجأة وبشكل مفارق، في عالم مغلق، بوصفه إمكانية الخلاص، فالمرء إذ يضفي على الذنب طابعاً شخصياً، إنما يمنحه محيطاً وبيتاً وسقفاً. ولا يعود الشر هو ذلك الجساس الذي تحول خطواته دون مجيء النعاس. فالمرء يبدأ بأن يكون انعكاساً له. وفي لحظة معينة، يتعرف عليه المرء بوصفه قريباً له. إنه لا يعود غريباً. وهكذا يمكن للمرء أخيراً أن ينام قليلاً.
والعام ألف له سائطوه وزاعقوه. لا صحافة ولا إذاعة. بشر يقرأون نهاية العالم في ندوبهم هم؛ يتجولون في الأرياف طالبين من كل واحد أن يتهيأ للمحنة العظمى. وزماننا يعرف أيضاً المتاعب والمحنة والخطوات الجساسة في الليل. وقد ظهرت أنظمة تريد تحويل اتجاه المتاعب والتغلب على المحنة. وفي سعيها إلى خلق تضامن، فإنها تستخدم سهاد الضمير، الأكثر إيغالاً في القدم، وتدشن من جديد شوط الذنب. ليست تلك هي نهاية العالم، والجميع يعرف ذلك. إنها مجرد الحساب قبل الأخير، لكن هذا المنظور أمام الضمائر التي فقدت قدسيتها إنما يكفي لدفع الفرد إلى الانقلاب على نفسه. والحال أن ذلك إنما يتم، من جهة أخرى، بقدر كبير من اليسر، وذلك بقدر ما أن قرناً من السيكولوجية الربوية شايلوكية الطراز قد سمح للكائن الإنساني بأن يقطع نفسه شرائح رقيقة، وبأن يغربل ذاته، وبأن يحلل ما لم يقترفه بقدر من الصرامة أكبر بكثير من صرامة تحليله لأفعاله الفعلية، وبكلمة واحدة، بأن يتدرب تحسباً لجلسة تعرية سوف يفصح فيها هو نفسه عما هو أهل له، مستبقاً بذلك التحليل الذي سوف يجري له من الخارج. والحق أن عين مبدأ إمعان النظر في الذات إنما يعد هنا فاسداً فساداً جليلاً. لأن النقد الذاتي، منذ البداية، لا يمكن الاضطلاع به إلا بشرط اعتبار المرء نفسه مذنباً، مادام المرء لا يتعرف على براءته الخاصة. وهذه البراءة، لا تسمح لنفسها بتأكيد نفسها، لأن المرء إذا كان بريئاً، فما ذلك إلاَّ لأن أحداً آخر مذنب، وهو مالم يجر إعداد المرء لإثباته وللتدليل عليه. ولكي نتوقف عن ممارسة النقد الذاتي، يجب أن نمارس النقد، لا أكثر.
حول هذا الموضوع الذي لا ينفد، من المهم أن نقرأ – أو أن نعيد قراءة – " القضية" لكافكا، و"الصفر واللانهائي" لكيستلر و"الاستبيان" لإرنست فون سالومون. فبالرغم من الكآبة التي ترسمها هذه الكتب لصورة عصرنا، إلاَّ أنها تسمح، مع ذلك، بأمل طائش. إذ يوجد دائماً شخص ما مهمته توضيح تقنيات الإيحاء المرضية – تمزيق سحرها القاتل. ولابد أيضاً من الزعم بأن أسطورة النقد الذاتي الضالة إنما تمثل تحية غير مباشرة ومنحرفة مُقَدَّمة إلى هيبة النقد الحقيقي. ولأن المرء لا يمكنه وقف فعل الذكاء، فإنه يجتهد في تحويل اتجاه مساره ويحرضه على إغراق نفسه. والحال أن مشروع العام ألف هذا الموحى به لا يملك فرصاً كثيرة للنجاح. إن الغرق لن يحدث.
مايو 1960
ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي
0 التعليقات:
إرسال تعليق