الحركة السوريالية في مصر

جان جاك لوتي


1 من 2
ترجمة بشير السباعي


تعرفون كل تلك الأكشاك الرمادية الباهتة الملساء التي تحتوي تارة على محولاتٍ كهربائية قوية وتارة أخرى على كابلاتٍ عالية التردد والتي تجدون على جوانبها عبارة قصيرة تحذركم : "لا تفتحوا : خطر الموت" . حسناً!، إن السوريالية هي شيء كتبت عليه يد لا حصر لأصابعها رداً على الصيغة السابقة : "نرجوكم أن تفتحوا: خطر الحياة".

جورج حنين


إن الحركة السوريالية في مصر، وهي بلدٌ ذو تقاليد شعرية ترجع إلى زمن بعيد، إنما تطرح نفسها دفعة واحدة بوصفها وريثة رامبو ولوتريامون وجاري. وهي حركة تحث على صدم الأساليب المألوفة لاستجابات الحواس، وتنشر مزاج السخرية السوداء، وتحرض على التمرد على كل ما من شأنه الإخلال بالحرية المطلقة. وبهذا فإنها تمس جميع مجالات المعرفة ولا تتركها على حالها. وما الخيارات السياسية للحركة السوريالية غير نتائج طبيعية مصاحبة لهذه المواقف كلها. ويترتب على ذلك، خاصة في المجال الأدبي، أن السورياليين يرفضون التقنيات التقليدية (والتي من العجب أن لوي آراجون قد رد إليها الاعتبار). وهم يدعون أنصارهم إلى مواصلة البحث عن الجدة والابتكار وعن الخارج عن المألوف ملتمسين في ذلك جميع الوسائل الممكنة ومؤكدين لهذا البحث على شتى المستويات الممكنة. كما أنهم، أخيراً، يثيرون الشبهات والريب حول اللغة التي تنطوي على الكثير من العادات والمألوفات والكوابح والقيود، وتسدل ستاراً وحجاباً على الحياة.


والحال أن الناطقين بالعربية كانوا لا يعرفون آنذاك من الناحية الفعلية أي شيء يتصل بهذه الحركة كما كانوا لا يعرفون أياً من الكتاب الذين تعتبرهم السوريالية أسلافاً لها أو منتمين إليها. أما الناطقون بالفرنسية (في مصر)، والذين تلقوا تعليمهم في مدارس تتميز بقدر بالغ من محدودية الآفاق، علمانيةً كانت هذه المدارس أم دينية، فنادراً ما أتيحت لهم الفرصة، خلال دراستهم المدرسية، للتعامل مع إبداع الكتاب الذين كان من شأن تحررهم في الموقف من الأخلاق واللغة أن يصدم المجتمع الذي يعلي من شأن الرزانة والتعقل. وهكذا فإن الحركة السوريالية، بمواقفها المضادة للاتباعية، قد هزت ما يستحسن تسميته بالمؤسسة المحلية. وكان الناطقون بالفرنسية، خاصة الأكثر شباباً بينهم، هم أول من يصغون للأصوات الجديدة وأول من ينكَبُّون على مناقشتها. أما الصحافة الأدبية المصرية، وهي عزبة للمتقدمين في العمر، فقد ظلت من جهتها جد متحفظة وإن كانت لم تحرم نفسها أحياناً من التهكم على محاولات المجددين.


والحال أن جورج حنين إنما يدخل السوريالية إلى مصر في عام 1934 عندما ينشر كراسين، أولهما بحثٌ تنكر له، عنوانه: تتمة ونهاية، وثانيهما كراس لم يكن مؤهلاً بعد لأن يتنكر له ولم تكن فرصة التنكر له كبيرة. وعنوانه: التذكير بالقذارة. فالواقع أننا لا نتنكر، مخلصين، لعنفنا الخاص إلا لكي نتبنى عنفاً أشمل. وقد واصل نشاطه بإلقاء عدد من المحاضرات، ومن بينها محاضرة عن موسيقى الجاز، وأخرى عن لوتريامون، وثالثة اختار لها عنواناً: من بارنابو إلى كريبور. وبعد ذلك ببضع سنوات، حاول تقديم رؤية شاملة، فعرض أفكاره في محاضرة، نشرت بسرعة، وكان عنوانها: حصاد الحركة السوريالية (1937).


وفي عام 1937، في إطار جماعة المحاولين، وهي منتدى ثقافي بالقاهرة، شجب جورج حنين بعنف – خلال جلسة نظمت تكريماً للشاعر المستقبلي مارينيتي – تواطؤ الشعر مع الإمبريالية الإيطالية في الأعمال الأدبية للفاشية. وقد أدى الصدام إلى انشقاق في صفوف الجماعة الصغيرة وابتعد جورج حنين عنها. وعندئذ، أسس جماعة الفن والحرية، وهي جماعة تجاوبت فوراً مع نداء أندريه بريتون في البيان الذي يحمل عنوان: من أجل فن ثوري حر. وقد وقعه جورج حنين مع الباقين، في عام 1938، في مكسيكو، جنباً إلى جنب دييجو ريبيرا. (1)


وقد نشرت الجماعة الجديدة آنذاك بياناً تحت عنوان: يحيا الفن المنحط!، (2) وهو عبارة عن احتجاج على الحظر الذي فرضه هتلر على فن التصوير الحديث، كما دعا البيان الفنانين الشبان إلى التعبير عن مزاجهم الشخصي وإلى التمرد على المبادئ الموروثة الجاهزة. وإليكم الفقرة الأغنى بالمعاني في تلك الوثيقة:


"من المعلوم لنا بأي قدر كبير من العداوة ينظر المجتمع القائم إلى كل إبداع أدبي وفني يهدد على نحو مباشر إلى هذا الحد أوذاك الأنساق الفكرية والقيم المعنوية التي يتوقف على صونها إلى حد كبير استمراره هو – بقاؤه.


"وتبرز هذه العداوة اليوم بشكل واضح في البلدان الشمولية، خاصة في ألمانيا الهتلرية، عبر العدوان الأكثر خسة ودناءة على فن يصفه الهمج المزينون بشرائط ضباط والذين جرت ترقيتهم إلى رتبة المحكمين العليمين بكل شيء، بأنه فن منحط...


"أيها المثقفون والكتاب والفنانون! فلنواجه التحدي يداً واحدة. إننا نتضامن تضامناً مطلقاً مع هذا الفن المنحط. ففيه تكمن كل وعود المستقبل. فلنعمل على انتصاره على العصور الوسطى الجديدة التي ترفع رأسها في قلب الغرب" (ديسمبر 1938).


وبعيد ذلك أسس جورج حنين معرض الفن الحر. وقد رعى مجلة أسبوعية اسمها: دون كيشوت (12 عدداً). ومن بين من كتبوا لها نتذكر: ريمون أجيون وكورييل ورمسيس يونان وسانتيني ومنير حافظ وماري كافاديا. وقد نجح جورج حنين أخيراً في تهيئة الأذهان للتعامل مع ما تدخره لها الحرب العالمية الثانية من مستجدات. ولنذكر بسرعة أسماء عدد من الفنانين الأجانب الذين أبقتهم الحرب العالمية الثانية في مصر: إيريك دو نيميش، وهو رسام روماني متنوع المواهب، وديفيد دو بيتيل، وهو رسام انجليزي يتميز بأعمال غير مألوفة. وكتاب مثل جون فليمينج وويليام ويلز وجون ميلر. وكانوا كلهم أعضاء في جماعة السمندر التي أسسها في القاهرة ج. بوليت. وكانت مكتبة ركَّاح في القاهرة إلى جانب مرسمي إيريك دو نيميش وديفيد دو بيتيل هي أماكن اللقاء. وهناك كان يظهر جورج حنين وأصدقاؤه عندما لا يلتقون في بيته. وبهذا الشكل، فإن عدداً كبيراً من الفنانين المحليين، مثل كامل التلمساني وفؤاد كامل ورمسيس يونان وسمير رافع... يكتشفون مالم يكن بوسعهم أن يجدوه في أي مكان آخر. لكننا سوف نرجع إلى الحديث عن ذلك فيما بعد.


في عام 1947، سوف يصدر جورج حنين وإدمون جابس مجلة لابار دو سابل، وسوف تصدر منها ستة أعداد حتى عام 1953، وسوف تظهر على صفحاتها نصوص مؤسسيها ونصوص أصدقائهم: إيف بونفوا و م. بلانشار و سي. لوسيه وهنري باستورو وكثيرين غيرهم. وسرعان ما تصبح لابار دو سابل العنوان العام لمجموعة كتابات يصدر منها على التعاقب في مائة نسخة فقط للعمل الواحد الأعمال التالية:
1- ج. جرينييه : مفردات ، 1949
2- ف. سوبو : أغنيات ، 1949
3- ا. جابس : صوت الحبر ، 1949
4- ج. حنين : المتنافر ، 1949
5- إ. بونفوا : المسرح الدائري ، 1949
6- م. بلانشار : العالم المحيط بنا ، 1951
7- ا. جابس : بول ايلوار ، 1952
8- ج. حنين : الصورتان ، 1953
كما تظهر دراستان فلسفيتان لجورج حنين:
إلماعة عن كافكا (1954)، مع نصوص فرنسية وإنجليزية وعربية.
آراء حول كيركجارد (1955)، بالاشتراك مع مجدي وهبة.


وليس من غير المفيد التذكير بأن جورج حنين وإقبال العلايلي، زوجته، قد أسسا أيضاً دار نشر ماس نحو أواخر الحرب. وهكذا فقد نشرا، ليس دون نجاح، الأعمال التالية:
1- ألبير قصيري : منزل الموت المحقق (رواية) ، 1944. كما صدرت في الوقت نفسه ترجمة إنجليزية لها.
2- ج. حنين : من أجل وعي منتهك للمحرمات، 1944.
3- ج. دميان : من هو السيد أراجون؟ . 1945.
4- إ. العلايلي : مأثرة ألمانيا ، 1945.
5- ن. راضي : مؤامرة العاجزين، 1945.
6- - : العرض مستمر (لفناني وكتاب جماعة "الفن والحرية").


كما كتب جورج حنين في المجلات العربية لذلك الزمن، خاصة مجلة التطور، حيث تظهر ترجمة لـ فصل في الجحيم لآرتور رامبو، كما كتب في المجلة الجديدة. وكتب في مجلات فرنسية مثل لي ليتر نوفيل و لا فليش و ليزامبل و لي كاييه دو سود. ولا يجب أن ننسى أنه كان واحداً من محركي مجلة ايتود ميديتيرانيين وفيو (نيو يورك) وفي- في- في (نيويورك) و لوسي بلو (بروكسل) و بلو (بروكسل) و إدَّا (بروكسل) و لي دوسور (بروكسل) و بوا (بوينوس آيريس) ... وفي مصر، ظهرت نصوصه في لابورص ايجيبسيّن و جورنال ديجيبت و نيل و بروجريه اجيبسيا، كما ظهرت في المجلات التالية : أنيفور و لاسومين ايجيبسيّن و لا ريفي دو كير و كارفور و فالير و لوازير . ويصعب اليوم الوصول إلى الصحف المصرية التي صدرت بالفرنسية، وهو أمر نأسف له.


*


بعد أن عرضنا النشاط الثقافي الذي قام به جورج حنين وجماعته، من المناسب أن ننظر في إسهاماته الأدبية الأساسية.


كان عنوان واحد من أعمال جورج حنين الشعرية: لا مبررات الوجود (1938)، وهو عنوان يشكل في حد ذاته تحدياً بالفعل. والحال أن القصائد، مثلما هي الحال إلى حد ما عند بريتون أو بريفير، إنما تتدافع كشلال من الصور غير المألوفة التي تتلاطم، ثم تنفجر كأسهم نارية. لكن هذا كله بعيد عن أن يكون مجانياً أو اعتباطياً. فخلف السطور، يتضح المراد: إن صورة خطية تتراكب على صورة أخرى ودون أن تطمس مع ذلك الصورة الأولى، بينما تظهر بالفعل صورة ثالثة وهلمجراً. ووراء المجازات الخاطفة، بالرغم من أنها جد مشوهة وجد شاذة، تبقى تيمة متصلة، هي تيمة الزمن. ذلكم هو الساحر العظيم – بحسب بودلير – والذي يحول كل شيء، الأشخاص والأشياء. ويمكننا عندئذ أن نتساءل ما إذا لم تكن مجازات جورج حنين إعادات خلق لا نهائية للزمن. ولابد لنا من أن نسجل أنه في حين أن هذه الأخيرة بعيدة عن أن تدور في الزمن إلاَّ أنها في الأغلب متزامنة. إن القصيدة تتقدم وهي تنشر صورها مع اقتحامها المتواصل للأعماق. وهي تنتج، عبر التتابع، أبعادها الخاصة. إلاَّ أن من الأحرى بنا أن ندع جورج حنين يوضح بنفسه معنى واتجاه الصورة في شعره:


"حتى يتسنى لنا، كما يشدد على ذلك رامبو، أن نكون في المقدمة، حتى يتسنى لنا أن نستعيد من هناك في آن واحد ما له صورة وما ليس له صورة، يجب بشكل واضح وفي المقام الأول أن نتخلى عن كل ما يتعارض، في الأطر القديمة للشعر وللتعبير الشعري، بل ولأسلوب عمل الذهن، مع السير نحو المجهول، مع هذا التجاوز لعالم تم تبويبه وتدجينه بحسب قواعد مقررة. وإذا كانت أشياء كثيرة قد بدت من قبل غير قابلة للتعبير عنها، أفلا يرجع ذلك ببساطة إلى أن الصور التي استخدمها الشعراء كانت قد وصلت إلى درجة تشبع لا تنتج غير صور مقفلة؟ ألا يرجع ذلك إلى أن الحاجات التي جرى اكتشافها فجأة والتي يتطلبها الحلم ومخيلة أصبحت منذ ذلك الحين فصاعداً حية بالنسبة لنفسها، بحيث أصبح العنان مطلقاً لكل شيء، قد فرضت تداعيات جديدة لصور توسع إحداها الأخرى على مدى البصر، لصور مفتوحة، لصور نوافذ؟


"هنا، من حقكم أن تتساءلوا: وما هو المقصود بـ "الصور المفتوحة" و "الصور المقفلة"؟ إن من شأن عدد من الأمثلة السريعة أن تسهم في إيقافنا على هذا الأمر.
"كنموذج للصورة المقفلة، أقدم خاتمة هذا المقطع الشعري من لامرتين:
المساء يعيد الصمت.
جالساً على هذه الصخور المهجورة،
أجد نفسي قي موجة الفضاء
مركبة الليل التي تتقدم.


"فما الذي تقدمه لنا هذه الصورة: "مركبة الليل التي تتقدم"؟ لاشيء سوى ما هو مجاز ومعترف به بالفعل. زحف الظلمات المهيب على الأرض، - حيث المركبة في الشفرة الشعرية، هي الأداة التي ترتبط بشكل عادي تماماً مع فكرة المهابة. لكن ذلك لا ينشئ أية علاقة جديدة بيننا وبين الليل، والحق أننا لسنا بإزاء تذكير. وهو تذكير ملون بالكاد بإشارة جد عمومية لا يتوجب بعد أن يوجد مجال للعودة إليها. وهذه الصورة تنقفل على جانب من جوانب الليل تم اكتسابه وتقريرة منذ زمن بعيد. وهو مقرر إلى حد بعيد بحيث أننا لا نجد مجرد إغراء في إعادة التفكير فيه مع الشاعر، حيث لا يمكننا أن ننتظر – لا نحن ولا الليل – شيئاً من وراء ممارسة طقسية تجري تأديتها تحت ضغط مبررات عتيقة للنظر، لا شك أن مراعاتها لا طائل من ورائها.


"وفي هذه الحالة المحددة، تتقدم مركبة الليل ماشاء لها أن تتقدم، بلا طائل، أما الشعر فإنه يتراجع إلى الوراء، يتراجع بشكل لا علاج له.


"لننظر الآن في "فلاح باريس"، حيث تنتشر في باقات من الكريستال العبقرية الشعرية لآراجون الذي نحبه، والذي لم تكن قد أفسدته بعد تقلبات حياته وزوجته وحزبه. فما الذي نقرأه هناك؟


"على مدار عامٍ كامل شددت بنواجذي على شعور من السرخس. عرفت شعوراً من الراتنج وشعوراً من الزبرجد وشعوراً من الهستيريا. شقراء كالهستيريا، شقراء كالسماء، شقراء كالتعب، شقراء كالقبلة.... كم هو أشقر صخب المطر، كم هو أشقر غناء المرايا! من عطر القفازات إلى صرخة البومة، من دقة قلب القاتل إلى لهب – زهرة شجرات السنط، من اللدغة إلى الأغنية. ما أكثر الشُقرات، ما أكثر الجنون....)


"هاكم إذاً، أليس الأمر كذلك؟ موجة من الصور المفتوحة، مفتوحة على ما لا نهاية له من العلاقات الجديدة والمثرية بين الكائن وأكثر ما يهمه في المرأة، في الطبيعة، في الحب. إن كل صورة من هذه الصور تستقر في وجداناتكم وتمارس فعلها فيها. وخبرة المرء الشخصية، بقدر ما لا يكون المرء جثة بالفعل، سرعان ما تتخذ مظهراً جديداً من جراء ذلك، ثم إنها، بدورها، تحوز فرصاً لإنماء، أي لإثراء الرؤية الأولى التي تدين لها بزخمها. والحال أن آراجون هذا نفسه هو الذي يفصح لنا، في صفحة أخرى من "فلاح باريس" هذا نفسه، عن فضيلة الصورة المفتوحة التي، إذ تصل إلى أقصى انفتاح لها، تصبح الصورة السوريالية:


"(إن الرذيلة المسماه بالسوريالية هي عبارة عن الاستخدام الخارج عن الأعراف والمتقد العاطفة للصورة المدهشة، أو بالأحرى للاستفزاز المنفلت للصورة لأجله في حد ذاته ولأجل ما يستتبعه في مجال تمثيل الانقلابات التي يصعب التنبؤ بها والتحولات الغريبة: إن كل صورة، في كل لحظة، إنما ترغمكم على مراجعة الكون برمته)".
(مقتطف من إشعاع الروح الشعرية الحديثة المنبثق من باريس. القاهرة، "ريفي دي كونفرانس فرانسيز أن أوريون" العدد 5، مايو 1945، ص ص 295 – 296).


*


بعد هذا الطرح يمكننا أن نفهم على نحو أفضل موقف جورج حنين وطرائقه الأدبية. وفي عمل آخر عنوانه: من أجل وعي منتهك للمحرمات (1944)، يزعم النقد أن الكاتب يتحدث فيه عن السياسة وأن الكراس قد كتب ضد نظام معين. ربما. إلاَّ أننا نرى بشكل خاص أنه قد كتب بهدف إعطاء الكلمات جسامتها وبهدف إعطاء الوعي قدرته على التساؤل.


في عام 1948، يقطع جورج حنين صلته بالحركة السوريالية التي كان قد انضم إليها منذ عام 1936. وهو يواصل، منذ ذلك الحين، طريقه بمفرده، متجنباً كل تضخيم للمخيلة الشعرية. فهو يعمل عن طريق الحذف ويتقدم عبر الإلغاء. وقد بدا له أن هذا النهج في التصرف إنما يسمح له بإضفاء قوة وحياة على صور أساسية، على مواقف وحالات تفك عقد الوجود. والحال أن عدداً من القصائد في مجموعة "المتنافر" (1949) وصفحات معينة في "العتبة المحرمة" إنما تقدم أمثلة جيدة في هذا الصدد.


لم يحاول جورج حنين فرض تيمات جديدة، بل حاول إنعاش بيئة شعرية وإطلاق حرية شكل من أشكال التعبير ومن الرؤية ينبثق من التداعيات التلقائية والمحفوفة بالاحتمالات غير المتوقعة. وهو ينكب بعد ذلك على المادة التي تكونت لينظر فيها نظرة تتميز بقدر كبير جداً من الصرامة والقسوة، ليس البتة بهدف رفض الفوضى المقدسة التي احتفى بها رامبو، وإنما بهدف إعادة هذه الفوضى إلى خطوطها الأساسية، إلى لحظاتها الحاسمة.


يتبع

0 التعليقات: