جيل جوانار، نصوص_3

من "ذاكرة اللحظة"


وهكذا، "متخذاً لنفسي قاعدةً للانطلاق"، كما يقال عن حملة، هذا الركنَ من الماريه حيث الحي الأكثر إخلاصاً لنفسه مما في أحياءٍ أخرى ، أنتشرُ على مساحةٍ تمتد، على مدى ثلاثة ساعات من المشي الذي ألتزمُ به كل يوم، من محطتي قطار الشرق وقطار الشمال إلى الكونتر سكارب (المنحدر) ومن محطة مترو ناسيون إلى محطة مترو كونكورد، وكل ذلك عبر الأزقة وبكثير من الالتفافات بالطبع.


هذا الوطن الصغير (وهو بالنسبة لي، في الواقع، وطن بين أوطان أخرى) ، أتفقده وأعيد اكتشافه كل مرة، مستشعراً فيه عاطفةً قديمةً، أو أجد نفسي مندهشاً بمعايشته معايشةً جديدةً تماماً، تحفزها لوحة تذكارية ما كانت حتى ذلك الحين منسيةً (أو ثُبِّتَتْ حديثاً).


البارحة، مثلاً، في باكورة الصباح (ذلك هو الوقت الأثير لديَّ للمشي، خاصة حين يتأخر الجمهور ومكملاته ذاتية الحركة عن البدء في السير) مشيتُ محاذياً مرةً أخرى الحافة الشمالية لساحة دي فوج، واجتزت جادة بومارشيه و-عبر الرصيف المقابل، الذي يستضيف أولئك الباعة للأجهزة الفوتوغرافية التي تجعلني شارد الخاطر، ثم السيرك الشتوي المحروم من مجده الغابر- وصلتُ إلى ساحة لاريبوبليك، والتي كفتني بضع خطوات منها لكي أصل إلى كورنيش فالمي. وبرغم معرفتي كل شيء عن أبسط جيشان لمياه قناة سان مارتان، وبرغم أن الأوتيل دي نور المهيب يفقد شخصيته بالكامل ، فإنني أظل حساساً لألعاب الضوء هذه بين الأشجار التي تحرس طريق الماء.


(...)


لكنما من هذا الاجتياز لجهة من جهة أخرى، عاودني الإحساسُ الأكثرُ امتاعاً بأن العالم يتغير، حيث لا تتوقف الأشياء كلها عن التقارب والتماهي. وهذه الفكرة المتنافرة بشكلٍ ما مع ميلي إلى الهويات المصونة، أدخلت السرور على قلبي مع ذلك، حتى وإن كانت قد رمت بالزيف هذا الشعور الذي يسكنني دائماً وأبداً بضرورة السفر.
ولكن، بعد أخذ كل شيء في الحسبان، لنأخذ هذه المدن الصينية المتناثرة وهذه الأسواق العربية التي تحتل ثلاثين متراً بالكاد من الرصيف، لنأخذها على ما يمكن أن تكونه أيضاً: دعوة سافرة إلى السفر، نداء إلى الجهة الأخرى، التي تظل جهةً أخرى بالرغم من فعلِ الهدم الذي يمارسه الابتذالُ المسرف.


الأحد 6 سبتمبر 1998، الساعة 18:30 شارع بلان مانتو.


عندما أخرج صباحاً في نسيم الهواء المضطرب قليلاً، أحياناً ما تستولي عليَّ الرغبةُ الغائمةُ ولكن المعذَّبة في أن أقع هناك على مجموعة من الكلمات الهائمة التي فجاة وإن كان بشكل مُتَعَمَّد – وكأنها آتية من بعيد- تقتلعني فجأة من الطارئ والظرفي والشاغل –من تسلط النهار- لتغرقني في رهافة الانطباعات والهواجس والذكريات التي لا تملك زمناً أو موقعاً يمكن التعرف عليهما.


كل شيءٍ هناك لن يكون غير جوهر وانجباس، كهذه الينابيع التي تتمكن فجأة من إزاحة الأوراق الخفيضة لنباتات الحِراج ورمي شبكة الأحاسيس في فضاءٍ "فريد".


يبدو لي أنه عندئذٍ، ودون مجهود، يمكن أن تتمكن ببطء حالاتٌ وصفاتٌ معينة لحقيقةٍ أولى من تندية إيماءاتي ونظراتي ومن أن تُمْلِي عليَّ هذه اللغة البكر المحرَّرة من كل حدس ومن كل معرفة ومن كل اعتياد، والتي تنطق ببرهان الأشياء والأماكن واللحظات الموجع والقاسي.


سيكون ذلك كما لو أن استعمالات اللغة، التي تآكلت أيما تآكل بفعل الممارسات الآلية، قد جرى نبذها وتجريدها من الاعتبار لصالح كلمات تسمي الأشياء بشكل طبيعي على نحوٍ ما. سيكون ذلك أوج البساطة وأوج الصواب والدقة. سيكون ذلك كما لو أن ما هو غريب يجلجل مع ذلك بألفة، حيث يشعر المرء أنه هو نفسه تماماً وفي داره تماماً.


وعندما يكون كل شيءٍ حاداً بشكلٍ قاطع، فإنه سوف يمضي من تلقاء نفسه، حاملاً بالكامل لغزه دون نقيصة ودون تنازل. سيكون المرء جزءاً، وسيعرف أنه جزء، من هذا اللغز الذي سوف تخفف شفافيته كل جُزَيْء من جزيئات محيط الهواء في حرية سرعة وصمت انعدام جاذبية من شأنهما إعادة بناء العالم في ثقله النوعي.


النصُّ الذي سوف ينتج عن ذلك سيكون أجمل النصوص التي كُتبت قط، لأنه سوف يجمع على هذا النحو بين كفاءة تعدد المعاني وتناغم الموسيقات الأكثر اقتراباً من الوفاق الشامل الناجز.


لكنني الآن بعيدٌ عن ذلك، والسحابة الرقيقة التي تُقَدِّم لي، من الجسر الجديد، مشهداً غائماً، شِعرياً تماماً، على لسان فر-جالان، ليست غير ذريعة، وفرحة زائفة وغواية عابرة. فلو فتحتُ فمي، لن تخرج منه غير كلماتٍ عادية، سرعان ما سوف يتبددُ شأنها في تفاهة الصخب المحيط. ربما يحدثُ ذلك في المرة القادمة. ربما لو استيقظتُ مبكراً أكثر.


باريس، الخميس 23 سبتمبر 1998، على الجسر الجديد


سوف تتواصلُ ملاحتي خبطَ عشواءَ عبر التيارات المتواترة لشوارع الدوائر الخامسة والسادسة والسابعة، وسوف يكون بالإمكان رؤية خروجي من الضفة اليسرى بمحاذاة الجسر الجديد أو بمحاذاة جسر الفنون، حيثُ سأجد صعوبة في حرمان نفسي من اختراق الباليه رويال المنتصب وحيداً ورواقي فيفين ودوشوازول.


وإذ أعيدُ بذلك اكتشاف ماهو معروفٌ جيداً، سأقومُ مرةً أخرى بالحصر العفوي لأدنى التحولات ولتبدلات المُلاَّك وللترميمات وللتجصيصات المتباينة. كل ذلك يتيحه إلى حد الشَّرَه رقادُ البعض إلى الضحى ورحيل البعض الآخر إلى الريف والتوقف المؤقت للمواصلات المصلحية، ويالها من ظروف مؤاتية للاجتياز العفوي خارج ممرات المشاة.


وعندما أعود، ثرياً بكثيرٍ من الخطوات وبكثيرٍ من اللمحات البصرية والصوتية، مرهقاً على نحوٍ لذيذ بثلاث ساعاتٍ من المشي الرشيق، إلى المنزل رقم 15، شارع بلان مانتو، لا يعودُ لدي شكٌ بالمرة في هويتي سَيِّداً للعالم: ألم يدخل هذا العالم برمته فيَّ، جاراً خلفه كل ما فيه من واقعي وخيالي؟


شارع بلان مانتو، الأحد 4 أكتوبر 1998، الساعة 10:25.



في الساعات القصوى، مالم يكد المرءُ يقول بالأحرى في ساعات النهاية، تفصحُ باريس عن كل ما هي قادرةٌ عليه وتكف عن فرض صورتها كـ "حاضرةٍ عظمى" لكي تصبح من جديد ما يجعل منها ذات قيمة: أنطولوجيا حضرية من الأركان والخلوات، ومن الأحياء المنعزلة ومن التخوم والهوامش، ومن الأوكار ذات المفاجآت التي لابد من معاودة اكتشافها دائماً وأبداً.


هذا الامتياز الشعري تتمتع به مدنٌ كثيرة مثل براغ وسيينا وقرطبة وبودا، دون توقف، نهاراً وليلاً.


لابد للمرء في باريس أن يفقد زمام نشاطه المحموم، والذي يجعل منه مضخة ً لامتصاص نسغ بلدٍ بأكمله, لكي يعاود استخدام ذاكرته ويخلي السبيل أمام توسلات أعماقه الأرحب مرتين وثلاث مرات.


يظل صحيحاً مع ذلك أن الاستيقاظ مبكراً أو الاضطرار إلى العودة متأخراً يعوِّض ويحرِّر، يعوض المتسكع عند هبوط الليل ويحرر فيه امكاناتٍ رهيفة.


فبادئ ذي بدء، عندما يتحرر الهواء من شحنة الانبعاثات، التي تعاقب الأنوف والرئات، يصبح حياً من جديد وأكثر قابلية بالفعل، إلى حدٍ ما، لاستنشاقه.


كما أن الآذان تجد تعويضاً في مناخٍ يستعيد فيه كل صوت تميزه. ولا نتحدثن عن النظر: إنه الفائز الأكبر. إن خلفية جميع الأشياء التي تراجعت خلال النهار إنما عادت تطفو على السطح أخيراً، ودون ادعاء، تهمس وتتمتم، قبل ساعة من ارتداد كل شيءٍ إلى الجهر والإعلان.


عائداً إلى شارع بلان مانتو،
17 ديسمبر، في وقت لا يزال مبكراً من الصباح.




من "فضاءات العبور"


عبر شارع سانت أنطوان، من محطة مترو سان بول وعبر شارع فوبور الذي يشكل امتداداً له، أجتاز سيراً على القدمين ظريق الشرق الرحيب، الذي كان ينسرب في الماضي إلى الباستيل، والذي كان يمس القلعة حيث كان القديس ذو البواعث المريبة، تحت سنديانته الأثيرة، يصدر حكمه السامي. أثناء عبوري، سوف أقابل الدروب المسدودة والساحات الداخلية لمصانع الأثاث القديمة. وسوف أرى على الحوائط الخربة تلك البقايا من الكتابات الدعائية القديمة التي كان بعضها لا يزال يسطع، في هذا المكان نفسه، الجديد آنذاك، قبل خمسين عاماً.


بوسع المرء أن يجد هناك من جديد أثر تلامس نظرات كل أولئك العشاق، مشاة الضاحية الملهمين، الذي خلَّد واحد منهم إلى الأبد، جهة الأوتيل دوفيل، وقد ميزه دوانو في لمحة ٍ عابرة نحو عام 1950، الفنَّ الحميم، فنَّ أن تكون غائباً غياباً كثيفاً.


باريس، 16 نوفمبر
ترجمة بشير السباعي
(عن الأصل الفرنسي)

0 التعليقات: