محاكمة شارل بودلير

إذا ذُكر اسم لوي بونابرت (نابليون الثالث)، المغامر الذي أقام الامبراطورية الثانية الفرنسية، تذكرنا زوجته، الامبراطورة أوجيني، التي كانت لا ترتاح إلى إصرار ميريميه على تعريفها بالأدب الفرنسي أو أي أدبٍ آخر، والتي كانت تُسئُ معاملة الكتاب والأدباء، وهو ماكان يؤدي، كثيراً، إلى إحراج الامبراطور الذي – رغم أن ميريميه قد يئس من تثقيفه – كان يعتبر نفسه مثقفاً، بل وأقدم ذات مرة على كتابة سيرة حياة يوليوس قيصر، معتمداً، بالطبع، على مساعدة العارفين المباشرة، وإن كانت الاستنتاجات التي توصل إليها بدائية وساذجة.

وإذا ذُكر اسم شارل بودلير، تذكرنا ديوانه الشهير، "أزهار الشر"، ونسينا، غالباً، أعماله الشعرية الأخرى وترجماته لأعمال إدجار بو وكتاباته عن ثيوفيل جوتييه وريتشارد فاجنر وتانهاوزر ورسائله، على الرغم مما لهذه الأعمال والترجمات والكتابات والرسائل من أهمية استثنائية.

لكننا، على أية حال، لا نكتبُ هذه السطور للحديث عن كل هذه الأمور، فهدفنا أكثر تواضعاً: إننا نريد الحديثَ عن فضيحة!

والحال أن تاريخ الامبراطورية الثانية تاريخٌ حافلٌ بالفضائح. وربما كانت أولى هذه الفضائح أن الدولة أخذت على عاتقها مهمة لعب دور كنيسة العهد الوسيط، فتولت الدفاع عن "مكارم الأخلاق" ومحاربة "الخروج على الاحتشام" و "الهرطقة" بعد أن أنجزت مهمة تعريف كل هذه الأمور من زاوية مصالحها الدنيوية، وحددت لـ "الرعية" واجباتها.

وبديهي أن الأدباء الفرنسيين كانوا جزءاً لا يتجزأ من "الرعية" (الرعاع). ويجمع الدارسون لتاريخ الامبراطورية الثانية على أن الأدباء الفرنسيين المتجمعين في باريس كانوا يشكلون "بروليتاريا أدبية حقيقية" وكانوا يُعاملون بالشكل الذي كانت الامبراطورية تعامل به كل المتضورين من الجوع: إنها لا تستطيع إبادتهم لكنها تستطيع التضييق عليهم، سعياً إلى درء الخطر الذي يمثلونه.

وهكذا وجدنا أن الصحف الفرنسية كانت تلفظ أنفاسها بعد توجيه الإنذار الثالث إليها وأن كل نسخة معروضة للبيع من أحد الكتب كان يتعين أولاً ختمها بختم رئيس قسم الشرطة وأن المؤلفات التي كانت لا تتماشى مع الروح الاتباعية السائدة كانت تمنع من التداول وأن لجنة الرقابة على الكتب كانت تحول دون صدور ما لا حصر له من الأعمال التي كانت ترى أنها "تجرح الأخلاق وتسيء إلى الدين ورجال الدين"، وأن كثيراً من الأعمال المصرح بنشرها من جانب اللجنة المذكورة كانت تتعرض للملاحقات الصحافية ثم القضائية بتهمة "الإساءة إلى الشعور العام". وهكذا اقتيد فلوبير وبودلير وبرودون وآخرون كثيرون إلى المحاكمة إثر تحريك دعاوي قضائية ضدهم من جانب حراس "مكارم الأخلاق".

كان ديوان "أزهار الشر" قد حصل على تصريحٍ بالنشر من جانب لجنة الرقابة وخُيِّلَ لبودلير، لوهلة، أن إدخاله أخلاق جزيرة ليسبوس اليونانية إلى الأدب، لن يسبب له مشاكل، لكن أوهامه سرعان ما تبددت، فما فعله كان شيئاً جديداً تماماً لا يمكن أن يرتاح له المراءون من دعاة الاحتشام!

أما السهم المسموم الأول الذي وُجِّه إليه فقد كان مقالاً نشره الصحافي جوستاف بوردان.

لم يُخلف يوردان غير كتابٍ وحيد، كان قد كتبه عن الراقصة الشهيرة بوماريه، التي كان قد أحبها في وقتٍ من الأوقات. لكن هذا الحب سرعان ما تحول إلى كراهية بعد أن نشأت بين بوماريه وبودلير علاقة غرامية.

وجاء صدور ديوان "أزهار الشر" ليشكل فرصة لبوردان للثأر من غريمه. وجرى التستر على هذا الدافع الخسيس بالحديث عن مساس بودلير بـ "مكارم الأخلاق" وخروجه على "الاحتشام" الواجب.

واتجه الآباء الكاثوليك المتشددون إلى تحريك دعوى قضائية ضد الشاعر الرجيم، بينما التزم الليبراليون الصمت تجنباً للأذى ووجد الشاعر نفسه وحيداً أمام هيئةٍ قضائية لا تقل كرهاً لـ "البروليتاريا الأدبية الباريسية" عن الامبراطور المدعي والامبراطورة المتكبرة.

وأعلنت الهيئة القضائية أن ديوان "أزهار الشر" ينتهك "مكارم الأخلاق" وأن الشاعر يستحق الحبس لمدة ثلاثة أشهر جزاءاً وفاقاً لما قدمت يداه!

وساعدت الحملة الصحافية على عزل الشاعر، إلى حين، فالرأي العام الفرنسي آنذاك كان مشبعاً بالرؤى المحافظة. لكن الأزمنة تتغير ولا يصح، في نهاية الأمر، إلاَّ الصحيح. وكان الشاعر واثقاً من ذلك.

لقد ذهب مضطهدوه إلى مزبلة التاريخ، أما "أزهار الشر" فقد كُتب لها الخلود. وفي عام 1917 وحده، وهو عيدٌ من أعياد الحرية البروليتارية، الأدبية وغير الأدبية، نُشر الديوان في باريس ست مرات، فمن يتعلم الدرس؟


0 التعليقات: